وقفة إجلال وإكبار وتقدير خاصة بفضيلة الأستاذ الدكتور السيد محمد الأوراغي
وقفة إجلال وإكبار وتقدير خاصة بفضيلة الأستاذ الدكتور السيد محمد الأوراغي وله علي فضل كبير حين كنت طالبا بالمركز الوطني لتكوين المفتشين بالرباط
تعمدت عدم ذكر فضيلة الأستاذ الدكتور السيد محمد الأوراغي ضمن أساتذتي الأجلاء الذين علموني خلال كل مراحل دراستي، والذين كانت لهم علي أفضال لا قبل لي بأداء شكرها ، وكانوا بعد الله عز وجل سبب عشقي لغة الضاد ، لأنه كان في نيتي أن أفرد له وقفة إجلال وإكبار وتقدير خاصة به لأنني تتلمذت على يديه بالمركز الوطني لتكوين المفتشين بالرباط ، وأنا يومئذ أستاذ اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي بعد مرور عقد من السنين.
لقد كان فضيلته واحدا من الأساتذة الأفاضل الأجلاء الذين أثروا في بالغ التأثير ، وأخذت عنه الشيء الكثير ،وهو فارس من فرسان اللغة العربية ،وباحث راسخ القدم في علومها، انفرد بنظرية خاصة به سماها النظرية الكسبية مقابل النظرية الفطرية الخاصة باللغوي اليهودي الأصل الأمريكي الجنسية نعوم شومسكي .
ولقد خلخل فضيلة الأستاذ الأوراغي تصوري لمنظومة نحونا العربي وأنا طالب في مركز تكوين المفتشين أول الأمر حيث خالف النحاة العرب القدماء في إعراب الجمل ، فأعرب منها ما لم يعربوه . وكان يتتبع بالنقد أفكار ابن هشام صاحب مغني اللبيب، الشيء الذي جعلني أتردد تردد الشاك المرتاب في ما يذهب إليه من أفكار وآراء مخالفة للنحاة القدماء . وقررت أن أتابع ما يقوله بحرص وجد وهو يستعرض مع الطلبة المفتشين باب القصر في كتابه :" اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم " . ولم أشعر إلا وأفكار فضيلته تستهويني لقوة حجته فيما يطرحه طرحا جديدا لم يسبق إليه ، فصرت شديد الاعجاب به لسعة اطلاعه وإحاطته بالنحو العربي ، وباللسانيات الغربية الحديثة خصوصا النحو التوليدي . وكنت أتمنى لو أن مؤلفه " اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم " ترجم إلى اللغة الانجليزية ليطلع على نظريته عالم اللغة الأمريكي شومسكي إلى درجة أنه حدثتني نفسي بأن أحاول الاتصال بمن يجيد الإنجليزية لأتعاون معه على إنجاز تلك الترجمة لقناعتي بأن نظرية فضيلته لها شأن ولا بد أن تنشر على أوسع نطاق . وازدادت تلك القناعة عندي مع مرور الأيام خصوصا بعد أن نشر مؤلفه : " الوسائط اللغوية أفول اللسانيات الكلية / واللسانيات النسبية والأنحاء النمطية " وهو في جزئين ، نقض في الأول منهما نظرية اللسانيات الكلية لشومسكي ، وقدم في الثاني بديلا عنها سماه نظرية اللسانيات النسبية .ولا زلت أنتظر أن تتم المقارعة بين النظريتين وهما على طرفي نقيض لتحيى إحداهما عن بينة أو تهلك عن بينة .
ولقد أكبرت هذا الرجل الفاضل أيما إكبار لجرأته على تجديد النحو العربي دون الخروج عن أسسه خلاف ما يفعله الذين يريدون تطويعه للسانيات الغربية ضاربين عرض الحائط تلك الأسس ،الشيء الذي يجعل الشكوك تحوم حول مقاصدهم خصوصا وأن النحو العربي صار مستهدفا من طرف بعض الجهات في إطار استهدافها الصريح والمضمر للقرآن الكريم .وفضيلته مشهود له بغيرته على كتاب الله عز وجل وعلى اللسان العربي المبين الذي أنزل إبه . وإن نظريته من شأنها أن تفتح آفاقا رحبة للباحثين كي يستزيدوا من الكشف عن إعجاز كتاب الله عز وجل، فضلا عن تبسيط قواعد اللسان العربي لمواجهة الأطروحة المتهافتة للذين يرمونها بالتعقيد .
تعلمت من فضيلة أستاذي الأوراغي الجدل الهادف الذي يبدأ من الفحص الدقيق للأمور قبل نقضها والبناء على أنقاضها وفق أساس ثابت . وتعلمت منه الثقة بالنفس في مجال البحث .وتعلمت منه الرجوع عن أفكاري إذا ما اقتضى الأمر ذلك . وتعلمت منه الجرأة على اقتحام الآفاق التي يخشى اقتحامها . وتعلمت منه نبذ التقليد الأعمى ، وعقلية القطيع . وتعلمت منه الجرأة على التعبير عن الرأي والثبات عليه ما لم ينقض باطله حق دامغ . وتعلمت منه التأمل في أفكار قدماء العلماء ، والاعتقاد أن ما توصلوا إليه ليس محطات نهائية ، وأن من شأن السير على دربهم أن يثري ما خلفوه لنا . وتعلمت منه ألا أنبهر بكل ما جاءنا من الغرب غثا كان أم سمينا دون أن أستخف به قبل التحقق من سمنته أو غثاثته . وتعلمت منه أن دون المبتغى الصبرعلى خرط القتاد . وتعلمت منه فن الجدال الهادف ، وذلك بالشجاعة في عرض آراء الغير بأمانة وبدقة وموضوعية مع التجرد من الهوى الذي هو آفة الرأي . وتعلمت منه دقة التوثيق . وتعلمت منه دقة التمهيد قبل بسط الرأي .وتعلمت الكثير الذي لا أظنني قادرا على أداء شكره مهما حاولت ذلك ، وأسال الله عز وجل أن يقضي عني ـ وأنا الغريم ـ دين الشكر المستحق لفضيلته .
ولقد احتفظت ذاكرتي بلحظات جميلة قضيتها مع فضيلته في مركز تكوين المفتشين ، وهو يخلط المزاح بالجد حين يشق علينا الأخذ عنه ، وينال منا التعب ونحن نتابع فضيلته وهو يخوض دروب اللسان العربي المبين خوض خبير بها. وكان يقول لنا إذا خضت غمار جذب لغوي ـ والجذب مصطلح صوفي يقصد به حال من أحوال النفس يغيب فيها القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق ـ فكوني معي، ولا تتخلفوا عني ، وكنا بالفعل نشاركه جذبه اللغوي دون بلوغ شأوه فيه . وما كان جذبه إلا تشربا للغة الضاد، وتعشقا لجمالها ، وكشفا لأسرار كنوزها .
أسأل الله عز وجل أن يطيل عمره مع موفور الصحة والعافية ، وأن يقر عينه بمن بهم تقر ، وأن يبارك في دينه وصحته وعلمه ، وأن يكتب لعلمه الذيوع والشيوع حتى تفيد منه الأمة الإسلامية قاطبة ، وأن يكون له صدقة جارية لا ينقطع أجرها أبدا .
وألتمس عفو فضيلته إن قصرت في هذه الوقفة المتواضعة ، وما حالي معه إلا كحال الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام الذي جاء بجرادة هدية له وكانت دون قدر النبي الكريم، ولا تعبر إلا عن قدر صاحبها .
وسوم: العدد 791