نظرته العميقة
د. عبد الله الطنطاوي
[email protected]
عبير الطنطاوي والدي إنسان عظيم .. مثقف .. متدين ..
راق .. له نظرة ثاقبة .. حليم الطباع ؛ يسمع أذية أقرب الناس إليه ويتجاهلها في
سبيل الله .. ودود .. رحيم بالصغار لدرجة أنه قد يقسو علينا نحن الأمهات لنضفي على
أولادنا المزيد المزيد من الحب والاهتمام .. لا يضع لقمة في فمه إلا وقد اطمنت نفسه
أن الصغير قبل الكبير قد أكل أفضل منها .. غير الرجال فهو يطعم الطفل والمرأة أولاً
ويحب أن يأكل الفضلة بل ويتمنى لو يتقاسمها مع أحفاده .. كلما سأناه : ـ ماذا نأكل اليوم ؟ خاصة يوم الجمعة .. أراه قد أخذ
الصغار إلى حضنه وبدأ يتشاور مع صغيرهم قبل كبيرهم حتى يستقر في نهاية المطاف إلى
ما يحبه الصغار من أطايب الطعام والشراب والحلو .. دائماً يستفزني بعمله في منزلي وأنا
ابنته الصغرى فيحمل الصحون الفارغة قبل أن نقوم نحن عن المائدة وغالباً ما يكون هو
أول من يشبع ويترك المائدة لأنه يريد أن يحمل الصغيرة من أولادي لأنها تبكي تريد أن
تجلس في حضنه الحنون وأنا أمنعها كي يأكل ويستمتع ولكنه رجل ليس من الفضاء بل من
عالم الملائكة .. حتى القهوة التي يعشقها ويحب أن يستمتع بها بهدوء ويستسيغها فاترة
غير ساخنة تضطره الحفيدات الصغيرات وهن يتقافزن قربه ويتقاتلن ويتسابقن ليقعدن في
حضنه وقربه فيرتشف قهوته ساخنة بسرعة حتى يتفرغ للصغيرات .. إذا كنت مضطرة إلى زيارة طبيب أو
صديقة أو محاضرة أو اجتماع أهالي أو .. أو .. فلا أجد بعد الله سوى هذا الوالد
الرؤوم كي تجلس الصغيرات عنده .. كنت ولا زلت أتذمر منه وهو يحمل
الأواني الفارغة ولكني مع مرور الزمن كنت أكتشف أنه يزرع روح التعاون والعمل بين
الأطفال ويعطيهم درساً عملياً في كل مناسبة وفي كل يوم .. فالكلام يربي ولكن العمل
يعزز ويرسخ وينمي الفكر .. أرى الصغيرة ذات السنة والنصف تخرج اللقمة من فيها
مغموسة بلعابها الطاهر فتضعها في فمه الشريف فيتقبلها بابتسامته الحنونة (ماشاء
الله) فأهرع إليه وأصرخ : ـ يا والدي إنها مريضة .. أخاف يا
والدي من العدوى .. فيجيب بحب : ـ الله الي بيحمي يا بنتي .. شو مرضها
هي ؟ هي عسل وسكر وشهد وحلا .. فأبتسم وأدعو له بالحفظ من قلبي .. كلما ضقت ذرعاً بتربية أحد الأطفال
أستعين بالله ثم ألجأ إليه راغبة بحل حاسم فلا أجد منه إلا ابتسامة المؤمن الراضي
بقضاء الله ويقول بصدق : ـ يا بنتي طفل .. اعملي حالك زعلانة
وإنت اضحكي من جوا عليهم .. هدول طيور الجنة .. زينة الحياة الدنيا وزهرة الآخرة .. ياليت العظماء العلماء الكتاب
المهندسين المثقفين المعلمين وكل من يعطي محاضرات في التربية والعلم والدين
والأخلاق ياليتهم كلهم يطبقون الكلام عملياً أفضل من أي كلام مهذب منتقى بلا فائدة
ترجى .. تحية قلب لوالدي حفظه الله وكل من كان
مثله كالأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى .. فتلك نماذج تذكرنا بالحبيب المصطفى
عليه الصلاة والسلام فقد ضرب أعظم الأمثلة بالتعليم والتدريب حتى كان جيل الصحابة
أخير أهل الأرض ..