الأخ الحبيب العلامة الدكتور محمد الهواري
نفس مطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية
قليلة في العمر هي تلك اللحظات التي تتزاحم فيها المشاعر و تتدافع و تختلط و تتناقض ، فتكون أحر من كل العبرات ... و أقوى من كل العبارات ... و يصيب البيان حالة من الذهول فينكفيء و تتعلثم الكلمات أمام سيل المعاني التي تتسابق أيها أولى و أسبق ، و أيها أعلى قدحا و أوثق
لا زلت منذ أمس في حالة من الذهول المضني ، و الألم الممض ، و الشوق المفني ....هل فعلا فقدتُ و فقدت الدنيا معي حبيبي و حبيبها ؟
ألن تضاء سماء العلم بعد اليوم بشمسه ؟، و لن تزدان المجالس بأنسه ، و لن تطرب القلوب لجرس صوته ، و لن يفرح الصغار بدأبه و حرصه ، و لن يجد الكبار صدر الأخ الحاني عند الملمات ، و الصديق الصدوق في دروب الحياة ، و الناصح الصادق عند اشتداد المهمات .... ؟
هل ترك للناس من بعده بقية من رضا كان يملأ نفسه ؟ و من حلم لا يفارقه ، و من حسن ظن لا يغادره ، و من كرم نفس لا يجارى فيه ، و من كريم خصال لا يبارى فيها ، و من إشراقة نفس قل من يساميها ، و من عظيم صبر عجبت منه رواسي الجبال ، و من دأب و جهد و مثابرة تنقطع معها همم الرجال الرجال ؟؟
لا أدري ما اقول .... ؟هل أكتب دموعي ؟ و أنى للحروف أن ترسم العبرات ... أم أشجو لحن احتراقي ؟ و هل تحتمل السطور حر جمر الآهات و الزفرات ...
في لحظة ....يتبدى لي طيفه في جهده و جهاده و دأبه و صبره ، فتعيش نفسي مع القوة و الجلد في أعظم تجلياتها ،
و في لحظة أخرى.... يظهر لي وجهه الضاحك الراضي ، الألف المألوف ، فأرى جمال الإنسانية و قد تبدى في أروع صوره و احلى مظاهره
و في لحظة ...أراه العالم الباحث ، المتعمق المتبحر ، فأبكي الأمة من بعده كيف تنجب مثله؟؟
و في لحظة... أراه ( أيوب )عصره ، يدعو إلى الحق و يتحمل المصائب و يبتسم للكربات ، ولا تند عنه كلمة سخط أو لحظة تسخط ، بل لا يعرف إلا الرضا عن ربه و الرضا عن خلقه
و في لحظة أراه (نوح ) قومه ، يدعوهم و يستصرخ بهم ، و في الوقت نفسه يبني سفينة النجاة لمن يصبر من القوم على التمسك بالخلاص من الظلمات
عرفته و كنت صغيرا ... و كان رجلا قد بلغ أشده و استوى ... فأدهشني ...
رأيته يصعد درجات سلم الجامعة أستاذا يملأ سمع الدنيا و بصرها ، لكنه لا يصعد الدرجات درجة درجة بتأني الأساتذة ، بل يصعد عدة درجات في خطوة واحدة ، مسابقا الزمن عساه ينجز فيه أكثر و أكثر ... فعجبت لرجل كان ممتلأ علما و رزانة و حصافة كيف لا يعيقه هذا عن أن يبقى متقدا فاعلا متوهجا يحمل روح و عنفوان وعطاء الشباب
و أدهشني ... عندما صدر كتابه الجامعي في الكيمياء العضوية بقول ربنا ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا .. إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفع )
لقد كان يقول لطلبة العلم ، إن كنتم تريدون العلو و الإرتقاء ، و العزة و التمكين ، فليس من سبيل إليها إلا بالوقوف بباب العزيز الحميد ، و الذي لا يتأتى عطاؤه بالتمني و لا بالتحلى و لكن بالعلم و التعلم و الصير و المصابرة
و أدهشني أكثر و أكثر عندما كان يزين كتبه بتلك العبارة التي أسأل الله أن يجعلها له نورا يمشي به في الأآخرة بين الناس ، فقد استبدل المألوف من القول : ( حقوق الطبع محفوظة للمؤلف ) ليعلم الناس أن العلم نور من الله ، و أن زكاته بذله للناس فكان يكتب على كتبه : ( حقوق النقل و الإقتباس من هذا الكتاب مطلقة لمن شاء )
أليست هذه العبارات خيرا من ألف كلمة و مقال ...
أليست التعبير الحي يفهمه كل انسان مهما اختلف اللسان....
أليست دعوة إلى الله على بصيرة بالفعل لا بالقول ، و بالموقف لا بالكلمة ، و بالتبشير لا بالتنفير
و كنت أستمع إلى زوجتي تقص علي دأبه عليها و هي طفلة و صبره على هناتها و إكرامه لها ، و هو العالم الداعية الذي تزدحم حياته بالعطاء و المشاغل ، فكنت أقول : لعله كان عند ذاك شابا ؟ أو أنه كان يحب أن يتودد إلى اهل زوجته ؟ و هذا متفهم و مفهوم لكن دهشتي بلغت مداها و انا أراه يداعب و يلاعب أبنائي و أحفادي و قد ناهز الثمانين ....يضحكهم و يضاحكهم و يلاعبهم بل و يلعب معهم ... و يضحك ملئ قلبه للدعابة الطيّبة و هو يحمل في قلبه من هموم الأمة و هموم نفسه ما لا يعلم مداه إلا الله .... لكنه لا يحمل إلى الناس همه ولا يتكلف مبديا حزنه ، بل يحمل عن جليسه همومه و غمومه
كل هذا كان في كفة ميزان .... أما الكفة الأخرى فقد ازدانت بعجيب كرم نفس لم أشهد مثله ، فقد كان يجد البحث و السعي في إيجاد معاذير لمن أخطأ أو زلت به قدم ، و كان سعيه في هذا يشتد إذا كان الخطأ أو الزلل قد وقع في حقه هو ، فعندها ينصب نفسه محاميا عن المخطئ بدل أن يكون في مقام المدعي
لم أره يوما و قد بات على دفينة غيظ أو حقد أو غل على أحد من المسلمين
فطبت و طابت نفسك ... لقد ذهبت بخيري الدنيا و الآخرة .... لقد ذهبت بمجامع حسن الخلق فلعلك والله حسبك و حسيبك تكون من أدنى الناس مجلسا ممن كنت سميه ....حبيبك و حبيبنا محمد صلى الله عليه و عليه و سلم
إذا لم تبك الدنيا فراقك يا أبا محمود ... فعلى من تبكي ؟؟
و إذا لم نجزع لغيابك عنا ... فمن أي شيء نجزع ؟
و إذا لم ترثك القوافي ... فلا نامت أعين الشعراء....
وإذا لم يخلدك اليراع ... فلتكسر أقلامها الأدباء ...
اللهم إنك قد أكرمتنا بهذا العابد العالم الداعية الصابر المصابر المهاجر ، و إنا لا نشهد إلا بما علمنا ... اللهم زد له في إحسانه و تقبله بقبولك الحسن يا أكرم الأكرمين ... اللهم احشره مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا ... اللهم أبدله أهلا خيرا من اهله و أصحابا خيرا من أصحابه و دورا خيرا من داره ... اللهم أجرنا في مصيبتنا و أبدلنا خيرا منها ... اللهم إنك تعلم مصابنا و ترى افتقارنا ، فقد فقدنا بدرنا في ليلة ظلماء حالكه ، و ليس لنا إلا كرمك وجودك ، فعوضنا خيرا
اللهم إن كان لناعمل قد تقبلته فضلا منك و كرما فتقبل به أمانتنا عندك و حبيبنا ... وافدنا إليك ... أبو محمود ... بقبول حسن
والله إن العين لتدمع و إن القلب ليحزن و إنا على فراقك يا أبا محمود .. يا أستاذ و يا مربي و يا أخ و يا صديق و يا حبيب ... لمحزونون ، و لا نقول إلا ما يرضي الرب العظيم ... إنا لله و إنا إليه لراجعون
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
كلمات من قلب المحب حسان الصفدي في رثاء المربي والاخ والحبيب د محمد الهواري - رحمه الله.