رسائل من أحمد الجدع ( 5 )

رسائل من أحمد الجدع ( 5 )

أحمد الجدع

إلى الشاعر العربي الكبير حافظ إبراهيم

أنا أعلم أنك متَّ قبل أن أولد بتسع سنين، فقد ولدت أنا عام 1941 ومت أنت عام 1932 قبل أمير الشعراء أحمد شوقي بأشهر ، وقد قال شوقي حين نعيت إليه موجهاً إليك خطابه :

قد كنت أوثرُ أن تقول رثائي

 

يا منصف الموتى من الأحياء

وأنا أعلم أيضاً أن اسمك الكامل محمد حافظ إبراهيم فهمي .

أنا أعلم ذلك كله، وهذا لا يمنعني أن أوجه إليك رسالتي هذه، وهي وإن كانت موجهة إليك إلا أنها أيضاً موجهة إلى كل من عشق شعرك في زمانك وفي الزمن الذي من بعدك إلى أن لا يبقى على وجه الأرض من يعشق الشعر .

فإذا كان شوقي قد لقب بلقب واحد فأنت قد لقبت بلقبين : شاعر النيل وشاعر الشعب .

وشوقي الذي لقب بأمير الشعراء ما كان هذا اللقب أن يسوغ له ما لم تكن قد وافقت عليه، والدليل على ذلك أن شوقياً كان يخشى أن لا توافق ، وإلا لما وقف وعانقك بحرارة وأنت تقول :

أمير القوافي قد أتيت مبايعاً

 

وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

لقبوك بشاعر النيل لأنك غردت قصائدك على ضفافه، ولقبوك بشاعر الشعب لأنك كنت من هذا الشعب، تشاطره آلامه وآماله، ولم تكن من تلك الطبقة التي لا تحس أن حولها شعباً بائساً يحتاج إلى من يواسيه .. ولعلها لم تكن تحس أن حولها أحداً، فكانت ترى أنها كل شيء في هذه الدنيا .

الحقيقة أنني لا أكتب هذه الرسالة لأشيد بشعرك، فقد أشاد به آلاف النقاد والقراء والدارسين ، ولكني أكتبها لأشيد بنثرك ، فَقَلَّ من يعرف أنك ناثر بليغ لا تقل بلاغة في نثرك عن شعرك .

كتبتَ كتابين ظهرت فيهما براعتك النثرية وأسلوبك الجميل وبلاغتك العالية ، أحدهما ليالي سطيح في النقد الاجتماعي ، وهذا أرجئ الحديث عنه إلى رسالة ثانية، وثانيهما هو تعريبك للرواية الرائعة لبرناردشو تحت عنوان "البؤساء" ، ولعلك اخترت أن تُعَرِّبَ هذه الرواية لأنك كنت تحس بالبؤس مثل أولئك الذين صورهم برناردشو في روايته .

لقد كان في حياتك كثير من البؤس ، وكنت أيضاً تحس ببني قومك من البؤساء ، وقد امتلأ شعرك بقصائد في باب البؤس .

قلَّ من الناس من يفرق بين الترجمة والتعريب .

الترجمة هي نقل النص من لغة أجنبية إلى لغة العرب ، وغالباً ما يطلب من المترجم أن يلتزم الترجمة الحرفية .

يجب أن يكون المترجم عالماً باللغتين وبأساليبهما في الأداء ، ويجب أن يعلم المترجم أن لكل لغة خصوصياتها في الأداء والتعبير وفي الفصاحة والبلاغة، وإلا فإن ترجمته تكون سقيمة باهتة لا يستطيع القارئ أن يفهم منها شيئاً فضلاً عن أن يستوعب معانيها، وكم من كتاب مترجم شرعت في قراءته ولم أستطع أن أتمه بسبب سوء الترجمة .

أما التعريب فإنه يكون بنقل الكتاب من لغة أجنبية إلى لغة العرب فيكون النقل كأنه تأليف بلغة العرب، مراعياً كل قواعدها وبلاغتها وفصاحة كلماتها وطريقة الأداء بها ، كما أنه من المهم مراعاة نفسيات العرب الذين تعرب لهم الرواية أو يعرب لهم الكتاب .

ومن باب التعريب العالي ما قمتَ به في نقلك لرواية البؤساء من الفرنسية إلى العربية ، فقد كان ذلك النقل تعريباً حقيقياً ، ولو لم تكتب على غلاف الرواية أنك تُعَرِّبُ لظن قارئ الرواية أنك ألفتها .

كتابك هذا عربتَه قبل عام 1905 م ، ذلك لأنك أهديت تعريبك هذا إلى الإمام محمد عبده ، والإمام رحمه الله توفي عام 1905م .

وهذا يعني أنه قد مرّ على تعريبك لهذا الكتاب أكثر من مئة عام ، فهو بهذا المعنى كتاب تاريخي ، يعد في الأوائل من الكتب التي عربت عن اللغة الفرنسية .

أنا اشتريت نسخة من هذا الكتاب عام 1958 على الأرجح ، ذلك لأن النسخة التي اشتريتها لم يشر فيها إلى رقم الطبعة أو إلى تاريخ نشرها .

وعندما اشتريت أنا هذه النسخة كان قد مرّ على تعريبك لها خمسون عاماً ، وقد مرّ أيضاً خمسون عاماً أخرى على شرائي لها .

كنتُ بالأمس أرتب مكتبتي، وأصنف الروايات التي أمتلكها ، تناولت رواية البؤساء التي عربتَها ، شرعت في قراءتها ، توقفت عند الإهداء ، كان الإهداء للإمام الشيخ محمد عبده ، وكنت أنت من مريدي الشيخ ، توقفت أكثر من مرة عند عباراتك البليغة، كان إهداءً مميزاً أحببت أن أنقله هنا حتى يطلع أهل الأدب على المستوى العالي الذي تميز به أسلوبك في تعريب هذه الرواية .. فإلى الإهداء :

إلى الأستاذ الإمام

إنك موئل البائس، ومرجع اليائس .. وهذا الكتاب – أيَّدك الله – قد ألَّم بعيش البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسمَّاه : كتاب " البؤساء" ، وجعله بيتاً لهذه الكلمة الجامعة ، وتلك الحكمة البالغة: " الرحمة فوق العدل " ..

وقد عنيت بتعريبه، لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب، وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار ، ورأيت أن أرفعه إلى مقامك الأسنى ورأيك الأعلى لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث : أولاها التيمن باسمك والتشرف بالانتماء إليك ، وثانيتها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى الرجل الذي يعرف مهر الكلام ، ومقدار كد الإفهام ، وثالثتها امتداد الصلة بين الحكمة الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق .

فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله ، والله المسئول أن يحفظه للدنيا والدين ، وأن يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين .