مهندس التربية السورية
مهندس التربية السورية
أبو عبيدة الفارس
جمال المعاند -إسبانيا
أستاذنا الكريم أبا أسامة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
للأخ الأستاذ أبي عبيدة ديون في رقبتي كثيرة ، أهمها أمران الأول: كان ممن يعاين ما أكتب وأنتم أيضاً اعترف لكم بنفس الفضل ، وأمر آخر عمل بكل علاقاته في حصولي على فيزا فأردت رد جزء ضئيل من هذه الديون ، واتقدم لكم بالشكر الجزيل على مساعدتي في ذلك كما أثمن لكم فتح سجلكم الدعوي – الرابطة – لتوثيق تراجم معاصرة الأساتذة دعاة قدموا الكثير ، جعل الله ما تقومون به في صحائف أعمالكم وجزاكم به أفضل وأكمل جزاء من مولى كريم .
تلميذكم
جمال المعاند
25/06/2008
مهندس التربية السورية أبو عبيدة الفارس
جمع بين الحسّ التربوي الفطري، والممارسة التربوية الطويلة، والقراءة والبحث في ميادين علم النفس التربوي.
كل من أتيح له النظر عن قرب، يرى أن التربية استبدّت بجميع اهتماماته، وصبغت معظم نشاطاته، فلا ينعطف له عنها سبيل. أسدى للتربية الإخوانية أيادي ينبغي أن تُذْكَرَ فتُشْكَر.
إذا بالأقدار، وهي تخط في مؤتنف الأيام على كنانة الله في أرضه بلاد الشام محنة، هيأت رجلاً للبناء الذاتي وسد الثغرات التكونية، وتطوير الإمكانات التربوية، لمن ستطالهم المحنة.
وحكمة القدر لا تترك شيئاً للصُّدف، فصنعت على عينها رجالاً يُبْقُون على جذوة الدعوة متّقدة مهما كانت الأعاصير العاتية مستهدفةً الجذور، فما بالك بالقطاع الأكثر حيوية والذي إذا ما عطب، لا قدّر الله، فعلى الدعوة السلام.
الأستاذ محمد عادل فارس وُلد في مدينة حلب التي تزخر بالعلماء، قمر سمائها وقتئذ الشيخ المحدث الفقيه العلامة عبد الفتاح أبو غدة – رحمه الله تعالى – فكان شيخه في العلم والتنظيم، رضع من لبان علمه وهو في صدر أيامه، فأول كسْبه أَمْيَزُ ما في مناهج المحدثين: الجرح والتعديل، ولن ينجح مربٍّ مالم يعرف وزن الرجال.
ويتابع قلم القدر فيقضي له كلية الهندسة المدنية تخصصاً حياتياً، وناهيك عنها ظلالاً علمية في التخطيط والمتابعة. وتستمر الهبات الربانية للأستاذ أبي عبيدة رافدة من غدقها لدوره القدري لتكون وظيفته التي يمارس فيها مهنة الهندسة في مدينة أبي الفداء حماة. يومها كان لشيخها العلامة الثبت والفقيه المربي محمد الحامد – عليه شآبيب الرحمة – أريج يعطر أجواء سورية كلها، فينهل من معينه الرقراق ما قدر له. ولو وقفتُ عند السادة العلماء ممن حدثني عنهم وعن لمساتهم في شخصيته، ومن كانوا لداته الذين ساهموا في بلورة وإذكاء المنافسة لضاقت هذه العجالة.
ويتنزل القدر منزل القضاء وتسفر محنة الإسلاميين السوريين عن وجه ما بدا لثلة مؤمنة في بقعة ثانية من العالم، فيقضي من اختارهم الله سبحانه شهداء، أما المنتظرون فبين معتقل ومنفي، ويكون قدري، رغم إني ممن بالكاد يومئذ ناهزوا الحلم، منفياً مع أتراب بالمئات، أوينا لبيوت سمحت لنا بالتعرف إلى أعضاء قيادتنا بعدما كانت مجرد أسماء في الذاكرة، نتيجة لممارسات نظام شمولي يحسب كل صيحة عليه، وقتها كان الأستاذ أبو عبيدة القيادي الأصغر سناً، وأول معرفته رسمياً عندما وقع الاختيار عليّ للانضمام لدورة التكوين، وهي دورة خاصة لإعداد الموجّهين تستمر مدة شهر ونصف، برنامجها مكثّف، يبدأ من قبيل صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، ندرس فيها العقيدة، والقرآن وعلومه، والسيرة وعِبَرَها، والفقه وأصوله، واللغة العربية وفروعها، والتربية وطرقها، وإلمامات أخرى في الحديث والسياسة... أُسند للأستاذ محمد عادل فارس مادة البحوث. والحقيقة كانت ورشاً تربوية، يوكل الأستاذ لكل أخ مشترك مشروعاً لإنجازه وتخضع من بعد للنقاش والتداول، ومما بقي في حنايا الذاكرة "كيف تنشأ خلية إخوانية؟ وكيف تدير جلسة...".
كان الأستاذ أبو عبيدة يميل بسمعه وعقله لصاحب البحث ومداخلات الإخوة، وكنت أعجب لصبره، فدلْوُه آخر الدلاء، لكنه مليء بالملاحظات الشرعية والتربوية.
وتمضي بي قاطرة الزمن لا تلوي على شيء، إلى التعليم الجامعي والحياة العملية، من ثم أعادني القدر في نهاية التسعينيات من القرن الماضي لأعمل تحت إمرته مسؤولاً في القسم الجامعي لمكتب التربية والطلاب، مدةً رَبَت على الحولين، رقَبْتُهُ عن كثب بعقلية ازدادت علماً وخبرة، ولمدة تخطت وقت الدوام الرسمي في المكتب، فقد كنتُ إلى جانب عملي الوظيفي أُشْرِف تربوياً على منطقة، فكثيراً ما أفاجأ بحضوره جلسات الأسر، وهذا ديدنه مع جميع الإخوة الموجهين العاملين من حوله، أثناء تلك المدة لابَسْتُه وتلمَّسْتُ وجوهاً من حقيقة حاله ومكنون أمره.
وغاية ما انتهيت إليه أنه رجلٌ فَقُهَ (بضم القاف)، وهو تعبير أطلقه فقهاء اللغة على من غدا الفقه سجيّة له، ولا أقصد بالمعنى الحرفي من عبادات ومعاملات فحسب، بل باقي فروع الشريعة الغراء واللغة العربية وطرق التربية... فهو يقرأ فيها كلها، كما يقرأ أحدنا في تخصصه الحياتي فهي عنده منهج واحد. وكلما استمعت إليه محاضراً أو موجهًا أو مفتياً تمثلت قول اليشكري وهو يمدح غلام ثعلب:
هو الشخت جسماً والسمين فضيلة = فأعجب بمهزول سمين فضائله
ثم عصفت بي الأقدار بسوء تدبيري وملء إرادتي إلى الغرب، يومها أسدى لي معروفاً لن أنساه، حاول بداية أن يثنيني عن عزمي، ولما رأى إصراري عمل بكل علاقاته الشخصية في حصولي على دعوة زيارة، وما أن استقر بي النوى في إسبانيا حتى أدركت حجم الخسارة، فقد كنت أستضيء بمشكاة الأستاذ محمد عادل فارس وإخوة كرام من لداته، وبحمد الله مع توافر البريد الإلكتروني لا أزال أنتجع من أفضالهم ما أخرج به من سترة الريب إلى صحن اليقين.
ورغم انصرام حبل التواصل المباشر، فإن الأخبار تقاطرت إليّ من أحباب حوله بأنه دائم السؤال عني، وفي التفاتة كريمة منه عندما أصدر باكورة كتبه: "الذين قالوا لا" أهدى إليّ نسخة منه، وهو كتاب مبسوط العبارة متشعب الأغراض لم أقرأ في أدب السجون أرصف تعبيراً ولا أمتن سرداً منه.
ويعطي الآن جزءاً من وقته للكتابة، وبين الفينة والأخرى أجد في بريدي الإلكتروني مقالاً له قبيل نشره، وتعهدت ما يخط بنظري وعقلي، فقد عملت مدرّساً وما برحت التربية تشكّل حيّزاً من اهتماماتي، فقلما قرأت كتاباً أو مقالاً في العربية عن التربية، إلا وقع في نفسي أنه ترجمة حرفية أو محاولة أسلمة بحوث التربية، أما مقالات الأستاذ فهي فضلاً عن أنها حسنةُ التحبير والترسل وواضحة الطريقة، تحمل أيضاً سمة المنهج الغربي، وهنا في الغرب ثمة نظام يدعى نظام الأوراق يصدره باحثون عن قضية مستجدة ويوزع لتداول الآراء، وبعدما يُقتل تمحيصاً وبحثاً يصدر في دورية أو يفرد له كتاب. ومنهج الأستاذ محمد عادل فارس في التعامل مع التربية المنهج الغربي عينه.
وربما سمح لي الوقت أن أقف وقفات مع مقالاته الرائعة، فأنا قد أفردتُ لها على حاسوبي ملفاً خاصاً.