قمر على جيل السبعينات

قمر على جيل السبعينات

ذكرى أحمد عبد الله

د. أحمد الخميسي . كاتب مصري

[email protected]

تحل الذكرى الثانية لرحيل أحمد عبد الله ويحتفل بها أصدقاؤه وزملاؤه ومحبوه ، وقد انطفأت حياة زعيم حركة الطلاب في يناير 1972 أحمد عبد الله ، وحده في شقة صغيرة بالجيزة . توفي بأزمة قلبية في الخامس من يونيو2006 في ذكرى النكسة التي  فجرت حركة الطلاب التي تربت - على حد قول أحمد عبد الله - " في أحضان هزيمة 67 ". أحاول الآن أن أستعيد صورة أحمد عبد الله ، الأكثر سطوعا من أحداث التاريخ ، وأن أتذكر أحداث التاريخ ، الأكثر بقاء من أحمد عبد الله ، ومن كل موهبة فردية . عرفت أحمد عبد الله بعد مظاهرات يناير 1972 ، ثم التقينا مطولا في موسكو ، ثم في كوبا ، ثم التقينا كثيرا في مصر في السنوات الأخيرة . كان شخصا نادرا ، بكل معنى الكلمة ، تتوهج روحه كلها في وجهه الحساس دون توقف مثل قطعة ألماس تشع بنور صاف وحاد لا يتكرر . لم أشهد زعامته داخل الجامعة ، ولا خطاباته ، لكن شهادات كل من عرفه داخل الجامعة كانت تجزم بأنه كان إذا تحدث خطف الألباب والأنظار والعقول بسحر خاص وقدرة على استثارة الحماسة في مستمعيه . في تلك السنوات حين شكلت الحركة الطلابية لجنتها الوطنية العليا يوم الخميس 20 يناير 1972 ، ضمت عدة أسماء كان في مقدمتها أحمد عبد الله ، وسهام صبري ، وأحمد بهاء الدين شعبان . وكانت سهام صبري رحمها الله شجاعة ذلك الجيل ، وقبضته الضاربة ، وقد عرفتها شخصيا ، ولمست فيها تلك الجرأة التي لا تعرف حدا ، أو حاجزا . وكان أحمد بهاء شعبان ومازال قلب ذلك الجيل وضميره الإنساني الرحب ، لكن أحمد عبد الله كان من دون شك قمرا على ذلك الجيل كله ، بسحره ، وطبعه الحاد ، والطاقة العصبية الحارقة التي لم تدع لغبار الهموم فرصة ليعلق بملامحه الدقيقة . من الذي عرف أحمد عبد الله ولم يحبه ؟ ولم تكن مصادفة أن ينتخبه الطلاب بالإجماع رئيسا للجنة الوطنية العليا عام 1972 ، وأن يقود الاعتصام في قاعة جمال عبد الناصر ، وأن يرسل وفدا إلي الرئيس السادات ليلتقي به ، وأن يخطب في الطلاب فينصتوا إليه مأخوذين به  وبإشارات ذراعيه الطويلتين الرفيعتين ، ويسود صمت لا يسمع فيه سوى صوته . في 13 ينيار 1972 ألقى السادات خطابا برر فيه تأجيل حرب التحرير بالضباب السياسى ، وأخذت الجامعة تغلي ، وأحس الطلاب أن السادات قد جاء خصيصا ليفتح طريق التسوية السياسية مع الأمريكيين . وفي 17 يناير دعا الطلاب لمؤتمر موسع ، وامتلأت جدران الجامعة بالملصقات ومجلات الحائط ، وتشكلت اللجنة الوطنية للطلبة بزعامة أحمد عبد الله ، وانتفضت الطلاب تحت شعار مازال حيا في الضمائر " كل الديمقراطية للشعب ، كل التفاني للوطن" ، وطالبت مظاهرات 1972 بإعداد الجبهة الداخلية لحرب تحرير شعبية ، وتسليح الجماهير بما فيهم الطلبة ، ورفض الحلول السلمية ، وفرض الضرائب على الدخول المرتفعة ، وقطع العلاقات مع أمريكا ، ودعم نضال الشعب الفلسطيني . وهزت اليقظة الطلابية مصر كلها من أقصاها إلي أدناها ، وجرت مفاوضات منهكة بين زعماء الطلبة وقادة مجلس الشعب ومنهم سيد مرعي ، وفي 24 يناير شغل الطلاب ميدان التحرير بأكمله وكتب أمل دنقل : " أيها الواقفون على حافة المذبحة .. أشهروا الأسلحة " وفي اليوم التالي ألقى السادات خطابا قال فيه : " الطلاب طيبين.. لكن هناك قلة منحرفة عشرين واحد قاعدين يشتموا أساتذتهم ويشربوا سجاير، أولاد على بنات ، مسخرة وقلة أدب " ، ثم أعلن عبارته الشهيرة " أنا ما أقعدش مع رزة " يقصد أحمد عبد الله رزة ! وفي نفس يوم الخطاب تشكلت لجنة وطنية ثانية من الأدباء تناصر مطالب الحركة وضمت : أحمد حجازي ، رضوى عاشور ، عبد الحكيم قاسم ، عز الدين نجيب ، أحمد الخميسي ، وآخرين ، ودعت لمؤتمر موسع بنقابة الصحفيين ، وأصدرت بيانا موثقا في كتب الحركة بهذا الصدد . ومع انحسار الحركة كان أحمد عبد الله هو المتهم الأول في قضايا 73 ، وأدى امتحاناته فى سجن طرة حيث حصل على بكالوريوس العلوم السياسية في العام ذاته . وكانت حركة 72 امتدادا لدور الطلاب العظيم منذ ثورة 19 ، ثم انتفاضة 1935- 36 حيث برز اسم عبد الحكم الجراحي ، ثم دورهم في اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة في 46 ، ثم في مظاهرات فبراير ونوفمبر 1968 ، وكان كل ذلك التاريخ يسكن ضمير جيل السبعينات المنتفض بحثا عن حرية بلاده واستقلالها . وكان هناك قمر على ذلك الجيل ، انطفأ فجأة عن 56 عاما فقط ، قمر من الذكاء والحماسة، بحيث لا يمكن لمن عرفه أن ينساه أبدا . يعتبر أحمد عبد الله في كتابه الحركة الطلابية في مصر – وهو الوحيد الذي قد يقول شيئا كهذا – أن الرومانسية ضرورة من ضرورات الحيوية الإجتماعية ، وأن على من يريد التحاور مع القوة الطلابية ألا يفرض عليها التخلي عن رومانسيتها . وعندما كفت الأغنية عن الرنين ، ظل المغني وحده ، يبحث لصوته عن أغنيات جديدة .

أيها العزيز النبيل أحمد عبد الله ، يصحبك عند الوداع إيقاع وحيد لنشيد واحد : كل الديمقراطية للشعب ، وكل التفاني للوطن !