إلى عِلِّيين أخي عدنان سعد الدّين
إلى عِلِّيين أخي عدنان سعد الدّين
عدنان سعد الدين رحمه الله
المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية
د. علي العتوم
نشأتُ أسمع به منذ أوائل الثّمانينيّات مِن القرن الفائت، وأنّه من رجالات سورية الكبار، وأحد الرّموز الإخوانيّة المشهورة على مستوى العالم الإسلاميّ، وأنّ له يداً طولى في جبهة المعارضة السّوريّة في العراق. وقد أسهمتُ في تلك الآناء في التّمهيد لقبول أحد أولاده في الدّراسات العليا بجامعة اليرموك، يوم كنت مدرّساً فيها، تقديراً له واحتراماً. وتفارط الزّمان في تقدّمه في العقد المذكور والذي يليه، حتى دخل القرن الجديد الحادي والعشرون، إذ رأيته وتعرّفت إليه عن قربٍ منذ عدّة سنوات.
التقيته أول مرّةٍ في حفل مئويّة الإمام الشّهيد حسن البنّا الذي أقيم لعدّة أيّامٍ في جامعة عمّان الأهليّة- طريق السّلط، حيث أُلقِيت المحاضراتُ القيّمة، وأُنشدت القصائد العصماءُ، وعُقدت النّدوات الرّائعة بهذه المناسبة الكريمة، تتحدّث عن مناقب الفقيد العظيم، وعن دوره الكبير في توعية أبناء الأمّة لانتشالها ممّا هي فيه لتعود الرّائدةَ بين الأمم كما كانت يوماً، ومنْ ثمّ التّنويه بأثر هذا الرّاحل الكبير المتمثّل بانتشار دعوته المباركة في الخافقين.
وأشهد أنّ مبادأة التّواصل كانت منه رحمه الله، إذ لمست من شخصه الدّمث أنّه يعرفني من قبلُ، وأنّه بهذا الأسلوب من الرّبط التّعرّفي، يريد أنْ يتحدّث إليّ بشيءٍ ممّا عنده، فقد أحسستُ بأنّ لديه الكثير الكثير ممّا تنضمّ عليه جوانحه الرّحبةُ وينطوي عليه فؤاده اللّبيب. وكان ذلك على هامش الحفل المذكور فترةَ الاستراحات، ولاسيّما أنّه، كما يبدو قد استمع إلى مداخلتي إبّان الحفل في الدّفاع عن البنّا ودعوته ممّا فرط من بعض المنتسبين لها وغيره من آراءٍ عنه فيها نظر، واستمع كذلك لما ألقاه ولدي أيمن من شعرٍ رائعٍ بهذه المناسبة في تمجيد البنّا وحركته.
ومن ثَمّ، راح الأخ العزيز يدعوني لزيارته تفضّلاً منه وكرماً، وهو الذي أعلم أنّه الأكبر منّي سنّاً وقدراً، وتجربةً وعلماً، وأنّه بالنّسبة لنا نحن إخوانَ الأردنّ يُعدُّ ضيفاً علينا هو وإخوانه السّوريّون، أولئك المهاجرون بدينهم والرّاحلون إلى الله بدعوتهم، والمنتشرون بهذه الرّحلة وهاتيك الهجرةِ القسريّتين في شتّى أنحاء المعمورة. وقد كنت يشهد اللهُ توّاقاً لهذه الزيارة لما في نفسي من رغبةٍ قوية للاستفادة من علمه وتجربته. ودرجت على زيارته بين الحين والحين، بدعوة أخويّة منه، أو بمبادرةٍ منّي. كل ذلك يشاركني فيه ولدي الشّاعر أيمن.
أمّا في بيته العامر في حيّ عبدون بجانب ديوان آل البكري الكِرام، فقد كان أبو عامر، نِعْم المُضِيفُ: حُسنَ استقبالٍ، وجميلَ ترحابٍ، وبشاشةَ مُحيّاً، وهشاشةَ لُقيا، وسخاءَ ضيافةٍ، وكرمَ حديثٍ. وأشهد أنّ الأحاديث الدّائرةَ كانت كلُّها تمْضي حول هذا الدّين العظيمِ الإسلامِ، وتنصبُّ على هذه الدّعوة الخيّرة دعوةِ الإخوان المسلمين ورجالاتها الأفذاذ، متطرِّقةً إلى الأوضاع التي تلفّ العالم من حولنا، وتركِّز على الوسائل النّاجعة للوصول إلى الغاية النّبيلة، والأساليب المجدية في تربية الجيل المسلم والإخوانيّ منه خاصّةً، بعد أنْ كاد يبتعدُ عن مصادر الدّعوة الصّافية.
ولقد كنت أرى منه رحمه الله في هذه الأحاديث إكباراً عظيماً، وحبّاً جارفاً لقادة الدّعوة ورجالها الأوائل، ولاسيّما البنّا والسّباعي وقطب رحمهم الله أجمعين. وكنت أرى أنّ إعجابه احتراماً وتقديراً لا يكاد ينقضي، وهو يتحدّث عن البنّا وصدقه وصفائه، وأثر دعوته العميق في أجيال الأمّة، حتى لقد ختم به مدرسة السّلوك القويم ما بين الحاضر والقديم منذ الإمام الشّهير، والعالم الجريء حسن البصري رحمه الله، يتبع ذلك إعجابُه الأثير بمصطفى السّباعي المراقب العام الأول لإخوان سورية، ومن ثمّ بسيّد قطب الشّهيد الذي تحدّى الظّلمة في عصره أيّما تحدٍّ.
وكنتُ أعلم ومنذ ثلاثة عقود أنّه تسلّم قيادة الإخوان في سورية فترةً من الزّمن وذلك في السّبعينيّات من مائة السّنة الماضية، وفي ظروفٍ دقيقةٍ، وأوقاتٍ عصيبةٍ، إذ كان المراقبَ الرّابع بعد السّباعي والعطّار وأبي غُدّة. فكان نعم الأخ الثّابت، والدّاعية الصّابر، والرّبّان اليقظ، والدّليل النّبيه، والقائد الذي لم يغيّر ولم يبدّل، والوطنيّ الذي كان كما يعمل لدعوته ودينه، يعمل لوطنه وبلاده، بشهادة إخوانه، وشهادة الكثيرين ممّن هم على غير فكره ومذهبه.
ومن بعدُ، كادت تعصف الأحداثُ -في الظّروف الحرجة التي كانت تمرّ بها الدّعوة، ولاسيّما في سورية– بالكثيرين، فتدير الرؤوس، وتُنشِئ الخلافاتِ، ممّا وقع منه شيءٌ غيرُ قليلٍ في الجماعةِ خاصّة والحركات الإسلاميّة عامّةً. غير أنّ الرّجل الذي كان يدور حوله جدلٌ كبير، بقي راسخ القدم في دعوته، ثابتاً على نهجها القويم، صامداً لغايته المثلى بما يمليه عليه خلقه الكريم، داعياً لوحدة الكلمة، حريصاً على لمِّ الشّمل، ذاكراً إخوانه من رصفائه وغيرهم بالخير، مثنياً على جهودهم، مؤكّداً على وحدة الجماعة، مبشّراً بالخير، ومتفائلاً بالنّصر. وأشهد أنّني ما جلست إليه في زياراتي المتكرّرة تلك، وسمعت منه قدْحاً بأحدٍ ممّن خالفهم أو خالفوه.
وقد انصرف الرّجل رحمه الله منذ بضعة عشر عاماً لخدمة الدّعوة في التّأليف خاصّةً، فكان من أهمّ ما وضعه في هذا الصّدد كتابُه (في التّزكية والسّلوك). وأهمّ من ذلك موسوعته في تاريخ الإخوان المسلمين في سورية التي أنجز منها حتى وفاته خمسة مجلّداتٍ ضخامٍ كان قد أهدانيها، وأهدى ولدي أيمن مثلها إبّان زياراتنا له مع كتبٍ أخرى ألّفها هي: (حوار مع المفكّر رجاء جارودي حول الإسلام وفلسطين) و(البعد الإنساني في الرّسالة الإسلاميّة) و(مملكة حماة الأيّوبيّة في مواجهة الحملات الصّليبيّة والزّحوف المغوليّة). وقد كنت تقديراً لجهوده المشكورة ونفعاً للقرّاء والدّعاة منهم بشكلٍ خاصٍّ، قد نشرت عن المجلّدات الثّلاثة الأولى من تاريخ الإخوان السّوريين، مقالاتٍ عدّةً في جريدة السّبيل الغرّاء قبل ما يقرب من عام.
لقد كان أبو عامر رحمه الله كتلةً من النّشاط متوقِّدةً، لا يتوقّف عن الحركة في الدّعوة والإنتاج، ذا همّةٍ قعساءَ وعزيمةٍ ماضية. أنتج ما أنتج وسعى في الخير ما سعى، على الرّغم من كبر سنّه التي تجاوزت الثّمانين، ومرضه الشّديد بالسّرطان، وبعده عن دياره ومكتبته وأرشيفه. وكان آخر نشاطٍ له أنْ حضر مع إخوانه قادة الدّعوة في العالم قبل مدّةٍ، اجتماعاً في (إسطنبول) أعزّها اللهُ، عضوَ شورى، وأحد المراقبين العامّين السابقين للجماعة كأعضاءٍ حكميين.
ويعلم اللهُ أنّني كنت على الدّوام جِدَّ حريصٍ على التّواصل معه وعدم الانقطاع عن زيارته حتى آخر لحظةٍ، إلى أنْ فجأني نعيُه رحمه الله. ولمّا لم أتمكّن من المشاركة بتشييع جثمانه مع إخواني الأردنيين والسوريين إلى مثواه في مقبرة سحاب يوم الأحد (1/8/2010م)، خففت في اليوم الثالث من وفاته أنا وولدي أيمن إلى سرادق عزائه بجانب بيته، وذلك مساء الثّلاثاء (3/8/2010م)، حيث ألقيت كلمةً قصيرةً في الحضور أعزّي بها نفسي وإخواني برحيله، سائلاً الله سبحانه أنْ يفرّج عنّا وعنهم ما نحن فيه، وأن يتغمّده بواسع رحمته. وتعزيةً من جانبي خاصّة لزوجه الكريمة وأولاده وذويه، ولسورية ذات المجدِ، وحماة الأبيّة بلده. وإلى علّيين أخي عدنان مع النّبيين والصّديقين والشّهداء والصّالحين، وحسُن أولئك رفيقاً...