ذاكرة الحارة الغربية
سلمان ناطور
(إلى نزيه خير/ مناجاة)
*أنت تعرف يا صديقي أننا نلتقي اليوم لنحكي عنك لا لنحكي معك..
أنت ذهبت إلى الصمت ونحن لم نتوقف عن الكلام منذ رحلت..
كأنك تصدق نفسك حين تقول : "في الصمت أروع ما يقال"..
انت ترقد ليس بعيدا عنا، ولو وجهنا اليك مكبرات الصوت كتلك التي أشاعت نبأ رحيلك لسمعتنا وبقيت في صمتك القسري..
لم يكن من عادتك أن تسكت حين يتكلم الآخرون، كنت تهمس أو ترفع صوتك أو تقرأ شعرا أو تضحك ملء فمك، الا عندما كنا نحكي عنك، فتصمت ويمتقع وجهك تواضعا وخجلا ثم تبادر قائلا: غيروا لي بالله هالسيرة!
سنحكي ونحكي وأنت هناك، ونحن نلتمس منك العذر لأننا سنقول كل ما يجرح تواضعك وابتسامتك الخجولة وأنت القائل:
خافت همسك في الضوء ولكن
لا تقولي مات ..مات
يا رؤى الواعد مهلا
تسقط الحجب وتبقى
كل أسباب الحياة
وكثيرا
أتمنى دعوة الصمت لأني
أكره الزيف
وجرح الأغنيات
سنقف دقيقة صمت تماثلا مع صمتك القسري..
كنت أراك طالعا على الدرج وتراني نازلا على الدرج وبيننا الصمت والوادي وذاكرة الرجوع إلى الحارة الغربية.. إلى غرفتك التي كنا نسميها الصومعة، نطلع على درج من حجر إلى طاولة وسرير ومكتبة صغيرة تمردت عليها الكتب أكثر مما انتظمت، ويأتي قيس وفاروق وصلاح ومارون ونستحضر الشعر الذي تسلل الينا في ذلك الوقت، من وراء الحدود، في كتاب محظور تحايل على الحواجز والرقيب ووصل إلى حارتنا الغربية يحمل "جيكور" بدر شاكر السياب وأباريق عبد الوهاب البياتي المهشمة و"حلاج" عبد الصبور وتمرد أمل دنقل و"غرناطة" نزار قباني الذي أحيى فينا أيام وليالي الأندلس واستعاد بطلا من أبطال حكاياتنا الجميلة حين قال:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في حجريهما تتوالد الأبعاد من أبعاد
عانقت فيها عندما ودعتها رجلا يسمى طارق ابن زياد
وفي هذه الغرفة الحجرية الصغيرة عثرنا على من نحن وعلى أسمائنا وعلى الأنا الذي فينا وقد هشمته خطب الديمقراطية الزائفة وتغيير الأسماء، فجاءنا محمود درويش كحصان امريء القيس:
سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأولادي ثمانية وتاسعهم سياتي بعد صيف
كنا نلهو بالشعر ونلعب القصيدة ثم نخرج إلى الساحة نرقب غروب الشمس "في البحر المفتوح على أبواب الدنيا" – كما تقول- أو صف السحجة على أوف حزين ومزمار ابو علي عبود وموال "ابو السعود وابو الأمين".
نعم يا صديقي، في هذه الصومعة الحجرية وهذه الساحة الطيبة كنا نرسم أحلام المراهقة والثورة.
كم كنا مسكونين بالحلم العربي وبمنسوب الثقة بالنفس والحديث المتلهف عن الكرامة القومية حين كان لها أب وكان لها عنوان وكان لها وطن وصار للقصيدة رومانسيتها وصار للصحراء بلاغتها إلى أن صفعتنا النكسة وتكسر الحلم، فخطفتك القصيدة وأخذتني الصحراء.
هذا المشهد كان يعود اليّ/ اليك كلما التقينا..
كان يفرحني اللقاء والتذكار..
وكان يفرحك..
قرأتك يوما تقول:
حين أسجى ذات صباح أو ذات مساء
وأسافر ما بين دعاءات الوجد وما بين التسليم
أتمنى أن تلمس قلبي
موسيقى بلد المحبوب
فأعود صغيرا
في ساحة سيدنا في الغرب أبو ابراهيم
أخي نزيه..
أنت هناك في مرقدك وأنا هنا..
قد تعود صغيرا إلى هنا لنلهو بالشعر..
ولكنني حتما سآتيك يوما إلى هناك ومعا، في الصمت، سوف نرسم أحلام المراهقة والثورة.
* ألقيت في افتتاح حفل تأبين الشاعر نزيه خير في دالية الكرمل مساء الجمعة 18 نيسان 2008