عبد الجليل إسماعيل باكير رحمه الله
(يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة
فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي)
في رحيل الأستاذ الفاضل /
د. طارق باكير
جامعة الباحة
هذا الرجل المنتصب القامة ، البهي الطلعة ، ذو الشعر المسرّح بطبيعته إلى الأعلى على الجبين العالي ، وعينان براقتان ينفذان إلى القلب بلا استئذان ، تراه يسير في الطريق ، بخطاه الواسعة وأناقته الدائمة ، وابتسامته الهادئة التي لا تفارقه ، رزينا منطلقا في سيره واثق الخطوة كأنه ملك ! ومع ذلك فهو صاحب روح دعابة ومرح ومزاح ، وله مواقف ظريفة لطيفة مع أصحابه ومعارفه تحكى وتروى .. يأنس به الصغير والكبير، لا يوقف سيره عندما ينطلق إلاّ سلام على صاحب له ، أو اطمئنان على شيخ صاحب لوالده ، فيحني قامته الفارعة أمامه بتواضع جم ، ويربت على كتفه ، ويمسح على وجهه ، ويصلح له شيئا من هندامه بخفة فائقة ، وظرافة محببة لا يملك معها المرء إلا أن يبتسم من أعماق قلبه ، ويشكر فعله ، ويدعو له ..
ويعقب مستلطفا : أما تترك طبعك يا عبد الجليل ! أو طفل ، فيحار معه طفلا ، إلى أن يأنس له ، ويتعلق به ، ويبدل تجهمه ضحكة بريئة ، ونفوره أنسا وإقبالا؛ فلـ (عبد الجليل ) مع الأطفال حكاية وأي حكاية ! يعرفها كل من خالطه وجالسه وتعرف عليه ؛ فما إن يدخل البيت حتى يسأل عن الأولاد بنين وبنات ، وهم ما إن يسمعوا صوته ويروه حتى يتدافعوا إليه ، ويتحلقوا حوله ، فيبدأ يلاعبهم ، ويعرض أمامهم من ألعاب الخفة والرشاقة التي يتقنها ما يبهرهم ، حتى إذا اطمأن إلى انجذابهم إليه ، قدم لكل واحد قطعة حلوى، ثم بدأ يحاكي مشاعرهم قصصا وحكايا وطرائف ، ثم يستخرج ما في محفوظا تهم من قصار السور، والأحاديث النبوية الذائعة والحكم .. ويكافئهم بقطع نقدية ، ويحقق بهذه الوسائل البسيطة ، والموهبة الفذة ،آثارا تربوية وأهدافا سلوكية ما قد لا يحققه منظرو طرق التربية الحديثة وفلاسفتها .. أما من أين استمد عبد الجليل هذه القدرة على التربية والتعامل مع الصغار فضلا عن الكبار ، فلا شك أنه - إضافة إلى المنحة الربانية ، والروح العذبة ، والشعور الرقيق ،والقلب الحنون ، والدراسة في المدرسة الشرعية عند الشيخ مصطفى اللبابيدي ، ثم في الشعبانية ، وبعدها في الثانوية الشرعية ، فقد كان لتربية والده الشيخ المربي إسماعيل باكير- رحمهما الله - أثر في ذلك ، ولن أتحدث الآن عن (الشيخ إسماعيل) خطيب جامع الصاحبية الكائن بجوار خان الوزير، فلا أظن أنني أستطيع أن أفيه حقه لبعد الشقة وقصر العهد ، ولكنني أتحدث عن البيت الذي نشأ فيه عبد الجليل ، وعن زوار هذا البيت وضيوفه وجلساته أيام الإثنين والجمعة في مجلس فيه العلم والأنس والوداد والتكافل ، وكان ممن يتردد على ذلك المجلس : الشيخ محمد الحجار، والشيخ عمر الحاج إبراهيم ، والشيخ محمد عقيل، والشيخ شكري ،والشيخ أحمد المصري ، والشيخ الدوخة ، والشيخ عبد الحي ، والشيخ عبد العزيز عساف ، وغيرهم من العلماء والفضلاء .. وقد كان البيت أشبه بالمطار، كما كان يوصف ، مهبطا لكل وافد من القرية والقرى المجاورة إلى حلب ، في ذلك الوقت الذي تعز فيه المواصلات ، ولا بد للوافد من أجل علاج أو غير ذلك من مبيت ، وكان البيت على الرغم من ضيقه يتسع لكل الضيوف والزوار، ولا يظننّ أحد بأن رجلا يصبح مضيافا إن لم تكن زوجته مضيافة ، فسقيا لك ولأيامك ، ورحمة الله عليك يا أم عبد الجليل .. كم كنت تحملين وتتحملين وتكابدين وتحضرين – ومعك ابنتك صبيحة أم محمد - من الأطعمة الحلبية المصنوعة على أصولها لذة للآكلين .. ذلك هو البيت الذي نشأ فيه وتربى عبد الجليل ، وغرس فيه قيم الإيمان والأخلاق والكرم والوداد وحب الخير للناس .
وأعود إليك يا أبا خالد ، فها أنت تقضي وتودع الحياة الدنيا غريبا عن أرض الوطن عن حلب وخان السبيل ، عن الإخوة والأقارب والأصدقاء والمحبين ، وأجلس على قبرك أستذكر أيامك في حلب وخان السبيل ، أذكر ودادك ومرحك وصفاءك وترفعك عن الغل والحقد والعصبيات العائلية والمشاحنات ، وأذكر عطفك ومواساتك لي ولغيري في غربتنا وكأنك أنت لست غريبا ، وأمعن النظر بكومة الحصى التي فرشت على قبرك ، فأرى أنه من الممكن أن تعد حبات الحصى مهما بلغت ، لكن خصالك وسجاياك ومآثرك أكثر من أن تعد ؛ وتتجلى العبرة عندما يوضع جسد حمل تلك الروح في حفرة ويهال عليه التراب .. أما الروح فقد حملتها النفس الطيبة إلى بارئها لتنام قريرة هانئة مطمئنة !
كم قلوب تحرقت عليك ، وكم عيون ذرفت ، وكم عبرات اختنقت ، وكم نفوس تكدرت ، وأصبح المكان الذي كنت تملؤه وتجلله في الأمس فارغا ، فأين أنتم يا خالد وعمر وإسماعيل وعبد الرحمن ؟ لعلكم هناك ! أنا أكتب عنك وفي حلقي غصة ، لأنني لم أرك منذ عهد طويل ، بيد أنني كنت مستأنسا بك وبفيض ودادك ووداد أخيك عبد الحميد أبي حسان ، أشعر أنكما معي ، وأنكما بجانبي دائما رغم بعد المسافات .. وأجلس في مجلس العزاء أرى الناس يتدفقون من كل مكان ، ويغص المكان بالمعزين من كل قطر ، يدعون لك ويترحمون عليك ، ويذكرون خصالك وألفتك وودادك ، فقد تركت في نفس كل إنسان لقيته أطيب الأثر، وأجمل الانطباعات ، ومنهم أعاجم بسطاء ،عرفوا بك الصفاء والتواضع والوداد وأخلاق الإسلام .. فعبروا عن أعظم المعاني بأبسط الكلمات : أبو خالد .. إلى الجنة !
أذكر من أبنائك خالد ، وحسبك بخالد خلفا لك ، وعمر ، وحسبك بعمر ، ومحمد ذخيرتك عند الله ، وإسماعيل وعبد الرحمن ..سيرا قدما على خطاك . ومن أشقائك عبد الجواد وعبد الحميد ونجيب ، ومن أصهارك الشيخ يوسف عطوة والأستاذ أحمد الخالدي والأستاذ فؤاد أبو نجمة والأستاذ عمر رباح ، ومن أصحابك في الغربة الشيخ الجليل عمر الحاج إبراهيم ابن خان السبيل ، الذي سبقك إلى رحمة الله قبل عام ، ودفن في المدينة المنورة ، وحزنت عليه أشد الحزن لما بينكما من الوداد من أيام حلب ، والشيخ الكريم عبد المطلب الضويحي ، الذي بادر باستعداده للبذل السخي من أجل العلاج ، والشيخ محمد غزال والشيخ يوسف حميدي وعشرة العمر الطويلة ، وأصحاب الود والوفاء: الدكتور أحمد كنعان ، والأستاذ عبد الباري لدي ، والأستاذ الشاعر عمر الزعيم ، والشيخ المحدث محمود الميرة ، والصديق الحميم الشيخ إبراهيم منصور،والشيخ مصطفى خالد الخالدي ، والشيخ أبو حسن خديجة ، والشيخ احمد عبد اللطيف ، والشيخ حسين عبد اللطيف ، والشيخ فؤاد المحمد ، والشيخ عبد الله رباح ، والشيخ مروان القادري ، والشيخ سيف الدين الخطيب ، والشيخ مجد مكي ،الرجال النبلاء الأوفياء ، والرجل النبيل الودود ذو الهمة العالية الدكتور الطبيب / أبو عبد العزيز سيف الدين السباعي الذي بقي إلى جانبك في مرضك ، يواسيك ويراقب حالتك ، ويخفف عنك وعن أسرتك ، ويذهب لزيارة قبرك ، ويداوم في مجلس عزائك ، يستقبل المعزين ، ويواسي المفجوعين ، وغيرهم وغيرهم .. فجزى الله الجميع خير الجزاء .
كنت - يا أبا خالد - بسيطا بين البسطاء كواحد منهم ، تمارس العمل اليدوي في النجارة حينا وفي الدهان حينا وفي صيانة الآلات الدقيقة أحيانا ، بعد أن فقدت عملك الوظيفي في شعبة التقاعد بوزارة المالية في حلب ، تاركا أطيب الذكر ،لاسيما بعد أن اكتشفت بنباهتك وإخلاصك في عملك خطأ في الحسابات لمستحقات ورواتب أسر الشهداء فكان سببا في تعويض الكثير من أسر الشهداء ، منهم أسرة ناظم القدسي وإبراهيم هنانو .. وكنت جليلا مع الأجلاء ، مربيا بين المربين ، تحمل فيضا من الإنسانية النبيلة ، والحرقة على الدعوة وعلى الإسلام ، تتصل بي بالهاتف لتزف لي بشرى استشهاد (حسان) ابن أخيك عبد الحميد، ثم استشهاد فلذة كبدك (محمد) ، بعد أن قاوما الغزاة البغاة المعتدين ، وأبليا البلاء الحسن ، وأثلجا الصدور في نصرة دين الله والدفاع عن أرض الإسلام ، وأشفق عليكما وعلى الأمهات أم خالد وأم حسان ، وأجد نفسي أمام أنموذج في التضحية والصبر، فأتذكر.. وأخجل من نفسي أمام تلك التضحيات .
وأكلمك بالهاتف وأنت في المشفى قبل أيام قليلة ، وأسمع منك من الصبر والعزيمة ما جعلني أتصور أنها وعكة عابرة ، فلم أكن أتصور أنك سترحل عاجلا ، وأنك أخبرت خالد بأنك تشعر أنك راحل ومفارق ، ويدق الهاتف يحمل رسالة النبأ المفجع ، وأغذ السير لأشهد عزاءاك ، وأقف على قبرك ألقي التحية والسلام ،ويحار القلب ، ويغص الدمع ، ولا أملك إلا الرضى بقضاء الله وقدره والعزاء بقوله عزّ وجل : ( كل نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النّار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) ، أسأل الله الكريم أن يجعلك يا أخي وابن عمي أبا خالد من الفائزين ، وأن يحسن وفادتك ، ويكرم نزلك ، ويتغمدك برحمته الواسعة ، وأن يخلفك في أهلك وعيالك بما يخلف به عباده الصالحين ، وأن يجعل الجنة مثواك ،اللهم اغفر له وارحمه وارحم والديه ووالدينا وأموات المسلمين اللهم آمين .
ـــــــــــــــــــــــ
انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الثلاثاء السادس من شهر جمادى الأولى عام 1431هـ -20/4/2010م عن عمر يناهز 69عاما ، ودفن في مدينة الدمام بالمملكة العربية السعودية ،رحمه الله رحمة واسعة .