رحمك الله يا أماه
زبير عباسي
تلعثم صوتي، فدوار غشي رأسي وألم أذهل ساعدي واضطراب أزهق نفسي، أصابني شلال العين من قطرات حارة تذرفها، فأنا في عجب أين ذهب بصري؟! وقفت أنفاسي وأرهقت أعماقي، ما وجدت قوة كي أرفع رأسي لأنظر ذلك الزي الأبيض أمامي يطيب بالكافور، لأن دونها رجفات ورعشات مثيرة، حكايات مخزية، أحداث تروق وتؤلم، فما استطعت إلا أن أغمضت عيني ثانيا، كلتاهما مليئة بأمواج هائلة تهز المشاعر، فكلما أتخيل ذكرياتها ترتعد عضلاتي من بكاء وذهول، هي تعفو عني كلما أخطئ ، ولا تلومنني إلا بابتسامة الحب والرقة والعاطفة، حينما كانت تنصح فتضمني إلى صدرها ثم تقول وهي تمسح يديها الناعمتين على رأسي بعذوبة ورفق: أبني هل تتذكر أن أمك أحق بحسن سلوكك، وهل تدري أن الله قد حرم عقوق الأمهات، هل نسيت درسك الماضي وهو معنى قول عيسى ابن مريم سلام الله عليهما حينما قال: وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. قل لي بني: ألم يرُدّْ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات على رجل حينما جاء عنده مستفسرا عن أحق حسن صَحابته: فقال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك... ولماذا هي؟ - كما نفهم - لأنها تتعب نفسها في خدمتها وتعاني من المشاق في حملها ووضعها وإرضاعها وتربيتها...
وهذا اليوم فيه مآسي ولهفات تضغطني، فأدركت - الآن - أن لم يبق لي سوى الخضوع للأسف والبكاء والتأفف، وقد حرمت من التوفيق والنجاح والرحمة والحنان والعطف والرأفة والدعوات الصادقة والود والوفاء، انطفأ النبراس تستضئ به الحياة وتنزل في مباريات، وراءها قلب رؤوف ودعاء مقبول، ويا ليتني كنت آمنت فعلا صيغة الموت هازمة اللذات، ويا ليت أنني حاسبت قبل أن أحاسب، لأن الوقت دهمني من ثانية إلى أخرى، الموت! الموت! لكل نفس ذائقة الموت! فما انتبهت إليه وما اعتنيته حتى لا أعصيها ولا أغضبها، ويا للأسف! هل الحياة مدى ذلك قصيرة؟ أين ذهبت تلك السنوات ستين، سبعين، ثمانين... حتى جاء الموت وغشيها كما يغشى الليل النهار دون مانع وسقطت القناع عن الحقيقة كما يتجلى الإشراق من مطلعها دون عقبات، أين غابت تلك الأعوام جعلت على قلبي أقفالا وفؤادي إصرا وروحي كربا.
فسألت نفسي: من يعاتبني الآن ويرعاني من أحداث ويسليني في كوارث ويشجعني في نوازل ويحولني من أظلام همومي إلى مضيئة تزيحها وهو رجاء يعطي قوة ويمسح كدرا، يا ليتها كانت حية! آمنت بهذا القول: يا ليتها كانت قاضية! ما أغنى عني ما لي! ففي هذه اللحظة شعرت نفسي كأنه يموت ويحي ثم يموت ويحي... فامتلأت مفاصلي رعبا وقلبي رهبة عند تذكر قوله تعالى: ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. ألم أقل لها مرارا أنت كذا وأنت كذا معاذ الله مما نجست لساني، ألم أقل لها حتى ولو مرة "أف" يا أمي! ألم أقل لها مرات ليس عليك أن تعاملني كذا وكذا رغم إنها رحيمة ومشفقة، ألم أقل لها مرة مرتين يا أماه أنت لا تعرفين ذاك فلا تتعرض له أو لها، ويا أسفا على هذه البذاءة جرحت قلبها وقتلت حبها وهلكت أمنيتها واغتصبت حقها، لا بحببها إلا ما ينفع أولادها فلماذا تسخرت بها ولماذا لم أقدر حق تقديرها وتبجيلها، فبكيت بكاء حتى تعالى نشيجي ونحيبي ففوجئت بأصوات تعالت حوالي، فانتبهت إليها فما سمعت إلا وتتمتم إحداها: حرمنا أنفسنا من الجنة بما عصينا والدينا وأخرى تقول: إغفر اللهم إغفر، فلا أعصي أمي بعد ذلك وثالثها تنتحب قائلة: يا أماه أنا بنيتك ناشزة فاغفرلي كي يغفر الله لي، ورابعها تلفظ: نحن عبادك اللهم فلا تصفح عنا وحط خطايانا، غفرانك يا رب، وخامسها تصيح: أنا عاص لك ولأمي يا ربي خلقتني فربتني ورزقتها فرعتني وأعطيتها إياي فعلمتني كتابك وما فيه من حلال وحرام، رغم هذه الكثرة الوفرة من النعم شقيت ووقفت ضدك وعدلت من أمرك، جعلتها كي أتوسل بها إليك وأتوصل بها إليك فأغمضت عيني ووضعت نفسي فيما دنسه ونجسه حتى خطفها الموت، رحمها الله يا أماه فتبت إليك يا الله فلا تردني من رحابة فضلك ورحمتك نستغرك الله جميعا. صاحت الأصوات جميعا آمين!
فتقدم كهول من الجمع وقال: أمك تحتاج إلى تلاوة القرآن وهي صدقة جارية تريحها في حياتها الآخرة، فلا تغسل عن هذه الفرصة وأنت تدرك ذاك الأمر فاستعجل ولا تتأخر قم وتوضأ وصل ركعتي الوضوء ثم اقرأ من كتاب الله الذي يغفر لمن يشاء وإن كان على شفا حفرة من النار. اللهم اجعلها واجعلنا ممن تغفر دون عقاب.