ساعاتي .. بعد الوداع

ثناء محمد كامل أبو صالح

[email protected]

سافرت وحيدتي عقب زواجها إلى موطنها الجديد مع رفيق دربها..

وكنت أظنني تأقلمت مع فكرة سفرها, ووطنت نفسي على بعادها, لكن لحظاتي بعد الفراق, كان لها شأن آخر ..   

*      *      *      *      *      *

في المطار الساعة الواحدة ظهراً

ودعتكِ !! ؟؟ كيف !!؟؟

أذكر أني ضممتكِ إلي وهمستُ في أذنكِ بالدعاء المأثور, دون أن ترتجف نبرة صوتي أو تخالطها الدموع .. فما أردتُ أن يكون الدمع آخر ما ترينه مني .

عبرتِ البوابة خلف زوجكِ, والعيون ترقبكما معاً.. لم تلتفتي بعدها إلينا, لعلك شُغلتِ باتباع توجيهات رجل الأمن, واتجهتِ إلى غرفة تفتيش النساء, و.. غبتِ عن ناظري..

همستُ لمن حولي : ألن نصعد ثانية ؟

 تباينت الردود.." تأخرتُ على الدوام.. ما الحاجة ؟ .. سيصعدان الطائرة فوراً.."

صوت غض ألح بنبرة احتجاج : " اي بابا خلونا نطلع نشوف عميمة " لكن أحداً لم يبادر..

 وجبنتُ عن تكرار الطلب, فالعقل يقول أن الكل - صغاراً وكباراً - مرهقون بعد سهر الأمس, و.. يا ويح القلب..

تبعتهم وبودي لو زرعتُ عيني خلف رأسي, لأحظى بنظرة أخيرة مع يقيني أني لن أتمكن منها ما لم أصعد إلى قاعة الانتظار العلوية ..

وتخيلتكِ تجتازين باب الطائرة للمرة الأولى.. من دوني ..

تتلفتين حولك تبحثين عني ..

ثم تذكرين رفيق الدرب قربكِ..

 فتهرع أصابعكِ تتلمس أصابعه مستكينة بينها ترجو الأمن والطمأنينة ..

 وتحنو أصابعه .. فيطمئن مني القلب .

في طريق عودتنا سألتُ : متى يصلان بالسلامة ؟ ..

لم أسمع الجواب, كنت مستغرقة بترتيب خطة عملٍ ما في البيت تشغلني عن التفكير فيها..

أغمضت عيني أريحهما من وهج الشمس, ومن حرقة الدموع التي لم تبللهما, وظن من حولي أني غفوتُ, وحمدتُ لهم ذلك .. فما كان بوسعي أن أسمح لأحد أن ينتزعني من خواطري .

في البيت.. بعد الساعة الثانية ظهراً

 اتجهتُ إلى غرفتك أولاً, لا زال أريجكِ يعبق في أرجائها, غادرتُها.. لأعود ..

ثم غادرتُ ثانية, ثم عدتُ أخرى, وكم بدوتُ سخيفة وأنا أتعلل أمام نفسي بحجة ما لأكرر الدخول إليها..

حملتُ ثوب زفافكِ لأجد له مكاناً في خزانتكِ نصف الفارغة..

 شُغِلتُ برهة بتأمل ما تركتِه فيها من ملابس, وقفز السؤال إلى خاطري :

ترى.. أما تعاني ثيابكِ أيضاً من بعادكِ ؟

جمعتُ الغسيل المعلق على الحبال منذ الأمس, واكتشفتُ جورباً لزوجكِ نسيته معلقاً قرب جواربكِ, هممتُ للحظة أن أناديك – كعادتي - لتأخذيه من نافذة غرفتك, لكني تذكرت..فلم أفعل.

انتبهتُ إلى الزرع الذي نسيتُ سقايته في غمرة انشغالي بكِ, فأسرعت أرويه حامدة له أن اقتطع جزءاً من وقت انتظاري الطويل..

 وفكرتُ أن أكنس الحديقة من أوراق الشجر المتساقطة وآثار العاصفة الترابية قبل أيام ..

لكني أحسستُها بحالتها هذه أقرب لقلبي..فتركتها

 وانكفأتُ راجعة إلى الداخل..

أدور في جنبات البيت بهدوء وصمت, كما لو كنتُ داخل فقاعة خالية من الهواء, تمنع اتصالي بالعالم من حولي, وتتدحرج بي بطيئة إلى حيث هي تشاء ..

انتهيتُ أخيراً أمام جهاز الحاسوب, رنوتُ إليه أستعطفه أن ينطق بصوتكِ..

 أن يرسم حروف كلماتكِ..

 ولكن هيهات .. فساعات عشر ما زالت بينك وبينه..

 ولم أدر إلا وأصابعي تنقر حروفه ..

وها أنا أخيرا معكِ .. ولستُ معك .

وخلال ما سبق كله .. كنت أبتلع دموعي وأقاومها, في محاولة يائسة للانتصار..

حتى إذا ما صرتٌ أمام لوحة المفاتيح, حجب أخيراً ضباب الدموع عني الحروف.

أتساءل ..

 ودموعي تتلاحق بعد أن مَهَّدَتْ أولاها الطريق .. لمَ أبكي ؟

ولا يجد عقلي الجواب, فكل الأمور- كما أظن وآمل - بخيرٍ ولله الحمد, وإلى خيرٍ تسير..

لم أستطع متابعة الكتابة, فهربتُ إلى السرير أدفن في وسادتي نحيبي ..

وغفوتُ أخيراً وملامحكِ تتراقص في مخيلتي عابقة بالسعادة, فأرتاح نوعاً ما .

الساعة الثامنة مساءً

شيء من القلق يسكن قلبي, وكثير من فراغ الوحشة يحيط بروحي, وأنا بينهما أترنح في محاولةٍ مُرهقةٍ للثبات, بانتظار سماع صوتكِ يحمل دفء الاطمئنان عليكِ, ويسكب برد الراحة على قلبي المتلهف .

الساعة العاشرة ليلاً

أتصدقين لو قلتُ لكِ..

كم وكم حاولتُ أن أبدأ عملي على الدورات التي تنتظرني .. لكني لم أستطع ؟

هذا العمل الممتع لي, والذي كان يسرقني منكم ساعات وأياماً أحياناً, فقد كل لذةٍ الآن,

فما كنه وجودكِ قربي ؟  وما الذي فعله سفركِ بي ؟

بل ما سر إحساسي ببعدكِ هذه اللحظات, وأنا التي طالما فارقْتُكِ أياماً ؟

الساعة الثانية عشرة ليلاً

رن الهاتف وأسرعت ألتقط السماعة رغم يقيني أنك لستِ المتصلة .. وتناهى إلي صوت عمك بكلمات أعادت السكينة إلى قلبي المضطرب ..

  عشر دقائق وتصلين بيت حموك

وسارعتُ إلى النت أترقب اتصالك..

وأخيراً .. عبرتْ نبراتك الأثير ليتشربها سمعي, حيويةً كما عهدتها, لا أثر للتعب ولا للإجهاد فيها.. وكأنك لم تقطعي عشر ساعات في سفرٍ متصلٍ إلى دنياك الجديدة .

وإذ أحسستُ السعادة تتخلل حروفكِ .. ارتاح قلبي أخيراً.

فيا نبض قلبي ..

ستبقين مهما بعدتِ بين أضلعي ..

تتوسدين حنايا الصدر.. وتسكنين الخاطر ..

وسيبقى لساني يلهج دوماً بالدعاء..أن يحفظكِ الله فيهما..

ويقيكِ وزوجكِ كل مكروه .

أمك

               

عضو رابطة الأدب الإسلامي