رحيل رجل طيب
أحمد ناصر نور الدين
كل المودة القلبية لك أيها الرجل الطيب.
صورتك لم تزل عالقة في الوجدان.
وملامحك الرجولية المفعمة بالطيبة تعيد رسم نفسها في عقولنا
وخيالنا كل صباح ومساء.
شارباك الكبيران الكثان وبياضهما الهادء كهلال كان يشع به
وجهك الأبيض كقلبك، المتوهج بنور الخير كرغيف ساخن
يحمل الدفئ الى أمعاء الجائع ويهب الحياة والحرارة.
لكم قاس علينا فراقك أيها الرجل الطيب.
ولكم سيفتقدك حينا الصغير، الهادء والحزين من بعدك.
أتخيل الأصيل الأول بعد رحيلك الى دنيا الخلود.
كآئبة شاملة تطبق على الشارع كبلاطة القبر التي اطبقت على
صدرك الحنون.
شباب حينا الرعناء قصرت هممهم في ذلك الأصيل الحزين.
ولم ينزل أحد منهم الى الشارع.
لم يجتمعوا فيه.
غابوا عنه.
فسكنت به ضوضائهم.
إنهم حزينون جدا على فقدك أيها الرجل الطيب.
أجل! لعلك تستعجب.. لكن حزينون عليك هم.
لقد تركت في وجدانهم الفتي بصمة عميقة..
وذكراك لن تبارح عقولهم المتوقدة ما عاشوا.
كان حلمك أوسع من مضائق طيشهم وأرحم من نيران نزقهم.
كان تصرفهم معك طيشا وتعاطيهم مع صبرك استغلالا وابتزازا.
لكن على العموم سوف يفتقدونك كثيرا.
سوف لن يسمعوا تلك الكلمة التي كنت تجود بها عليهم كل حين
بعطف أبوي عارم..
"يا أولادي"
كنت دائما تقول شباب الحي كلهم "أولادي"
فنعم الأب كنت أيها الرجل الطيب وخير الجار كنت.
تضرب بجيرتك الأمثال.
أبناء حيك لن ينسوك أيها الرجل الطيب مهما طالت بهم الأعمار.
كنت هبة الرحمة التي وهبها الله لحينا المسكين.
من دونك لحلت بالحي وأهله أم المآسي. أرواح كانت ستفيض الى
بارئها وأجساد ستحرقها النيران دون رحمة حتى السواد.
لكن القدر كان رحيما كما الله.
كنت مارا في الجوار مرور عابر السبيل.
تحمل في يدك حقيبة ترحالك. طاويا مسافات عمرك في إيمان
الحكماء.
لكن وجوههم الميتة لم تقدر على خداع بصيرتك الصافية.
كانوا ثلاثة شبان..
دخلوا مطعما شعبيا صغيرا..
كنت أنت فيه.. تأخذ زاد نهارك..
قضت رحمة الله ورأفته بنا أن تنفذ بصيرتك الثاقبة الى عقول
الشبان الثلاثة..
كان المطعم مزدحما كما الشوارع..
الناس يسعون هائمين في أيام سوداء كالسخام. شرها مستطير
وخيرها مستتر خلف أستار القتل والدمار.
إنها حرب الشوارع والزواريب..
حرب لبنان..
انتهى الشبان من تناول طعامهم وخرجوا..
خرجت ورائهم أيها الرجل الطيب..
وجدك الناس تصرخ بصوت جهوري مرتفع سمعه الشارع كله..
"السيارة.. أمسكوا بهم.. السيارة ملغومة..! السيارة!"
إلتم الناس على الشبان الثلاثة. اخرجت السيارة من الحي كله..
وانقذ الشارع من فاجعة محققة.. بفضل الله وفضلك أنت أيها الرجل
الطيب..
بعد ثلاثين عاما..
عشتها بيننا..
وعشناها معك كأقرب مايكون الأهل و الجيران..
ليس باليسير علينا أن ترحل وتتركنا..
دون سابق انذار..
أو اعتذار!.
الشارع الذي اعتاد عليك منذ ثلاثين عاما سوف يشعر
دائما بأن شيئا ما ينقصه..
كرسيك المصنوع من القش..
لايزال..
في مكانه شاغرا..
و لن يشغله أحد من بعدك..
وبضعة شجيرات غرستها بيديك القويتين..
منذ ثلاثين عاما..
أشجار وارفة هي الان تظل تراب الشارع وساكنيه وتحمل
في عروقها عبقا من عرقك ونفحة من نفسك العطر.
خلال الفترة الطويلة التي قضيتها بيننا وفي حينا ساعدت أناسا
كثر. ومددت يد العون للكثيرين..
لكنك لم تجد أحدا يرد لك الجميل..
وأنت في شقتك الصغيرة ذلك الفجر الشتوي الماطر..
الظلام والبرد يسكنون معك في البيت ولا زوجة ولا أولاد.
تكابد ألام عامك السبعين التي كنت تخفيها عن أنظارنا خلف
بياض شيبك الناصع.. وصفاء ملامحك المفعمة طمأنينة..
وفي ذلك الفجر هجمت عليك نوبة السعال هجمة شرسة فحالت
بينك وبين أنفاسك..
راقد أنت في فراشك.. داهمك السعال.. مددت يدك مستنجدا بكوب
الماء..
لكنه كان فارغا..
اشتد بك السعال أكثر..
بدأت تشعر ببعد المسافة بينك وبين أنفاسك التي تخلت عنك..
في الخارج كان المطر ينهمر بغزارة شديدة.. و ثمة رعد وبرق..
أنه شتاء قاس..
اغتسل الحي بأمطار ذلك الفجر البارد..
شربت الأشجار في الشارع حتى ارتوت وارتفعت رائحة التراب
والارض.. رائحة الشتاء الأزلية..
استمر المطر في الهطول بغزارة حتى مساء اليوم التالي
فغسلت مياهه قبرك بسخاء.. وارتوت تربتك من نفس المياه التي
ارتوت منها أشجارك الوارفة..