صديقي الجميل "منذر القريوتي"
مِنَ الْيَوْمِيّات
صديقي الجميل "منذر القريوتي"
فراس حج محمد /فلسطين
كلّفته برسم لوحة لغلاف ديواني الجديد "مزاج غزة العاصف" الذي سيصدر قريبا إن شاء الله، زارني في البيت وأطلعني على الطارق الأول من الإلهام، وزرته في مرسمه، واطلعت على هوس الفنانين، لا شيءَ منطقيٌّ في المرسم، ممر صغير مليء بكل ما هو مهمل، عُلَبٌ من الدِّهان والألوان مبعثرة هنا وهناك، أشياء عرفتها، وأشياء لم أعرفها.
دلفتُ إلى الداخل صامتا متأملا حيث مُعتكَفُ الفنان "وغار حرائه" الفنيّ، غرفة واحدة مستطيلة، عالية السقف، بدت وكأنها جزء من "مرآب للسيارات"، لوحة هنا ولوحة هناك، وعلى الطاولة فردة حذاء قديم، أعاد ترميمها، لتبدو منفضة لسجائره، يغرس فيها عِرْقا أخضر، لم أدر من أي نبتة هو!
يقسّم المرسم من باب النكتة ربما، أو من باب الفكاهة أو السخرية، إلى زوايا لتبدو وكأنها شقة موهومة، هنا غرفة النوم، بسرير صغير ووسادة وغطاء صوفي، وعلى جنبه تبدو في صدر المرسم أريكة تتسع لشخصين، هي غرفة الضيوف، وخلت (الشقة) من المطبخ! وعندما سألته، أجابني: لقد كان هنا، وأزلته من مدة بسيطة، إذ لا حاجة لي به! وتتابع بنظرك المكان لتجد مرآة ومشطا صغيراً بجانب الباب، يوحي لك مكانهما أنه يُرَجِّلُ شعره (المنفوش) على عجل، كآخر خطوة قبل الخروج، والتحلل من آلام الوحي الفني!!
نتبادل أطراف الحديث حول الفنّ، وحول الأكاديمية التي يدرس فيها، وحول شعر الديوان الذي سيرسم لوحة غلافه، يطلعني على بعض أعماله وهو في النرويج، وكيف استفاد من وجوده هناك، وكيف عاد بقالب من الشمع ليكون حاضنة للعمل الفني بعنوان "ملتوف"، أشياء كثيرة، وأعمال قيد التنفيذ، أفكار مشغولة، بعضها مبتكرة، وأخرى ميتة، و(اسكتشات) متعددة!
أحلامه كبرى، مع أنه بدا قنوعا مطمئنا لما أنجزه حتى الآن، حيث يعرفه الكثيرون في الوسط الذي يسبح فيه، وزار عدة دول، وأنجز أعمالا فنية متعددة في مناسبات كثيرة، وكان من ضمن عمل لمخرج فلسطيني مغترب أعدّ فيلما وثائقيا عن الفن المقاوم، بدا صديقي وكأنه يسير نحو ما يريد بخطى واثقة، وإن كانت بطيئة.
أدركت أنني أعيد اكتشاف الأشخاص من حولي، وليس فقط اكتشاف الذات والأشياء! يعجبني ما هو عليه، وأشد ما أعجبني فيه ثلاثة أمور: أولها إدراكه لقيمة الفن، وأنه عنصر من عناصر المقاومة، وليس أسلوبا للتعبير فقط، وثانيها أنه بدا مقدرا لحجم مقدراته الذاتية وموهبته الفنيّة، فلم يظهر أنه مغرور يزاحم بيكاسو وأنجلو ومونيه، ككثيرين يصيبهم هوس العظمة الكذوب الخؤون، ويعرف بأن كثيرا من زملائه يمتلك موهبة أقوى من موهبته، ولكنهم لم يحصلوا على ما حصل عليه من فرص وإنجازات. وأما الثالثة فإنه يرى أن الفن لا يحتاج سوى عشرة بالمئة من الموهبة فقط، وأما ما تبقى فهو جهد الفنان ومتابعته، وهذا ما يكاد يجمع عليه الحقيقيون في كلّ اتجاه وفن ومجال!
فنان بدا عميقا، هادئا، خلوقا، صبورا، ليس مستعجلا للوصول لشيء، يرسم أحلامه على مهل، يستقبل أيامه عبر الألوان والريشة، مثقفا، يؤمن أن الطريق تحتاج لبعض الجنون ليس أكثر!!
ذاكم هو صديقي الجميل والفنان البديع "منذر القريوتي"!!