ذكريات حميمة مع أبي جهاد
عبد الله الطنطاوي |
الأستاذ يوسف العظم رحمه الله |
أول ما تعرفت إلى الأخ الحبيب الأستاذ يوسف العظم –تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه- كان على صفحات مجلة (الشهاب) الدمشقية، الأسبوعية، كان يكتب فيها: (حصاد الأسبوع) كل أسبوع.. كان هذا عام 1955 فيما أذكر، وأنا بعيد عن مكتبتي منذ ثلاثة عقود. وكنت طالباً في المرحلة الثانوية، وأكتب في صفحة الطلاب.
وفي هذا العام 1955 أسسنا –نحن الثلاثة: محمد منلا غزيل، ومحمود محمد كلزي، وعبد الله الطنطاوي- (رابطة الوعي الإسلامي) في حلب، وبادر عدد من أدباء الأردن إلى الانتساب إليها، كان في طليعتهم: الأستاذ يوسف العظم.
وفي عام 1956 التقيت الأستاذ العظم في مخيم الإخوان في (اللاذقية) وكان التعارف مثيراً، فقد سألني الأستاذ يوسف عما إذا كنت قريباً للأستاذ عبد الله الطنطاوي رئيس رابطة الوعي الإسلامي، وعندما قلت له: أنا عبد الله الطنطاوي، قال:
- أعرف. ولكني أسألك عن سمّيك رئيس الرابطة.
فقيل له: إنه هو..
فسأل الأستاذ في استغراب: ماذا تعني بقولك: إنه هو؟
أجيب: هذا هو رئيس الرابطة الذي تسأل عنه.
كنت - حينها – في الصف الحادي عشر، الثانوي، ولهذا استغرب الأستاذ يوسف أن أكونه، ثم قال:
- زدتني رغبة في التعرف إليك، أيها الأخ الحبيب.
ومنذئذ، بدأت الصلات والعلاقات والرسائل تزداد، وما انقطعت حتى وفاته –رحمه الله تعالى-.
وعندما أصدر جريدة (الكفاح الإسلامي) عام 1956 أرسل إلينا لنكتب فيها، وقد كتبت موضوعين نشرهما في ركنه المفضل الذي حافظ عليه طوال حياته: (شهد وعلقم) آثرني على نفسه، وكان الموضوعان بهذين العنوانين: (مواكب الفارغين – ومواكب الفارغات) وقد أهديتهما إلى الأستاذ الشهيد (سيد قطب) –رحمه الله رحمة واسعة- وكان –أثناءها- معتقلاً في سجون عبد الناصر.
وعندما هُجّرنا من ديارنا عام 1980 إلى بلدة النصرة والرباط –الأردن الحبيب- وجدنا الدفء لدى أبي جهاد، فقد كان صاحب القلب الكبير، والعقل الحصيف، والبيت الواسع، والكلمة الحنون، والعاطفة الجياشة.. كان يهاتفني وكنت أزوره، وكانت أحاديثنا في السياسة، والدعوة، والأدب، وكنت أستفيد من آرائه وتوجيهاته ومعلوماته، ولعلي أتمكن من كتابة ذكرياتي معه، ففيها ما فيها من فوائد.
وعندما انتقلت إلى بغداد، وحضر للمشاركة في المؤتمر الشعبي الإسلامي، اتصل بي، ولزمته طوال مدة إقامته، وكان يستفسر عن أشياء مهمة، وعن الشخصيات المؤثرة حول صدام، كالأستاذ طه ياسين رمضان، وعزت الدّوري، وعن القائمين على المؤتمر، وعن الحرب العراقية الإيرانية، وسواها من القضايا، وكان ينصت في اهتمام، ثم يتخذ الموقف المناسب في إلقاء كلمة في المؤتمر أو الاعتذار عنها، وعن اللقاء بأولئك الذين يحيطون بالرئيس.. و..
وعندما علمت بإصابته بالجلطة، بادرت إلى زيارته في المدينة الطبية، ثم تتالت الزيارات إلى بيته، ثم فترت بسبب معاناته، وذعري من مشاهدته على تلك الحال، وهو الذي ما عرفته إلا مكلاماً، وإلا خطيباً مفوّهاً، وكاتباً كبيراً، وشاعراً مبدعاً.. إلى أن التقينا في جامعة الزرقاء الأهلية التي كرّمته في مهرجانها الذي ضم لفيفاً من الأدباء والباحثين.. وعندما رآني أقبلُ نحوه، صاح:
"يا ناس، اسألوه.. اسألوا هذا الرجل الطيب عبد الله: هل قصّرت معه حتى ينقطع عن زيارتي؟".
وكرر هذا الكلام مراراً، دون أن يدع لي المجال لأعتذر له، وأبيّن السبب أو الأسباب الداعية لانقطاعي عن زيارته.
وقبل وفاته –رحمه الله- ببضعة أشهر، زرته مع أخ كريم، وعندما سألتني المجيبة من أنا؟ ذكرتُ لها اسم من كنتُ بمعيّته، ولم أذكر اسمي، وسمعتها تردّد ما قلته لها، وفتح الباب، وقبل أن نجلس، سأل صاحبي:
- من الأخ؟ -مشيراً إليّ- أنت عرفتك وعرفت اسمك، ولكني لم أعرف الأخ (وكان يعنيني طبعاً).
أجابه صاحبي في ابتسامة حزينة:
- هذا.. الأستاذ عبد الله الطنطاوي. أما عرفته؟
نظر إليّ أبو جهاد، ولم يعرفني، وكأنه لم يسمع باسمي، ولم يرني، فقلت له محاولاً التخلص من هذا الموقف المحزن:
- لم أتمكن من اقتناء الكتاب الذي ألّفه أحد الكتّاب عنك. قيل لي: إنه في الوزارة، ووعدني أحد الأصدقاء بنسخة منه، ويبدو أنه لم يتمكن من الوفاء بوعده.
سأل أبو جهاد:
- أيّ كتاب؟ ومن كتب عني؟
أجبته: في زيارتي السابقة، أردتَ إهدائي الكتاب، ولكني لمحتُ إهداءك الكتاب لابنتك، فاعتذرت عن قبوله.
قال أبو جهاد: لا أتذكر شيئاً مما تقول.
وخرجت وصاحبي من عنده بنفسين منكسرتين حزينتين على الرجل الذكي اللمّاح أبي جهاد الألمعي، وما فعل المرض به.
أبا جهاد.. أيها الأخ الحبيب
لا أملك إلا دموعي، وإلا قلبي الكسير، وإلا لساني الذي يلهج بالدعاء لك، وإذا هذا القلم.. فالسلام عليك في الخالدين..