وقال صاحبه في السجن(5)
وقال صاحبه في السجن
( من ذكريات رجل غيِّب عشرين سنة في سجن تدمر)
(5)
محمد حسن عجعوج
فاطمة محمد أديب الصالح
هل يجوز المرور بين يدي مصلٍّ للضرورة؟ كانت دورة المياه في المهجع35 ناحية القبلة، وكان بعضهم يضطر أحياناً للمرور ولو بظهره أثناء صلاة غيرهم. اختلفت الأكثرية مع سجين ميكانيكي مصنف من(الشغب) أولئك الذين قاموا بمساعدة فريق من الإسلاميين في نشاط ما بدافع النخوة أو كما يقال( فزعة).. اشتد الخلاف وصاح الرجل واحتد في وجه محمد حسن عجعوج ووصفه بأنه لا يفهم في الفقه، لأنه لا يرى بأساً في مرور سجين مضطر، مواربة، بين يدي مصلّ!!
يقول صاحب عجعوج في السجن*، وقد عايش بعض مرضه وضعفه وأحزانه:
اجتمعت بمحمد سنة ثلاث وثمانين في المهجع 35، الذي أرسلت إليه إثر اشتباه في السل، وكان وصله في العام نفسه بعد حوالي عامين في المهجع 20، عرفت أنه من مدينة حماة، درس التجارة ثم ترك وتفرغ للعمل الإسلامي في جماعة مروان حديد، ولم تتح له فرصة للزواج، وهو من مواليد عام ستة وأربعين على الأرجح.
كان هرب إلى لبنان ونصح بعدم العودة لأن اسمه على الحدود، لكنه أصرّ على العودة فاعتقل في بيت في حي المزرعة بدمشق بكمين فور وصوله، كان ذلك سنة ثمان وسبعين.
أبقَوه حوالي أربع سنوات في سجن المزة حيث التقى بشخصيات التنظيم مثل الشيخ سعيد حوى ومحمد صادق عون(1).
كان متواضعاً مخلصاً ملماً بالعلوم الشرعية ويحاول أن يطبق الإسلام ما استطاع.
ومما قصه علينا من ذكرياته في سجن المزة أنه يوم التمديد الأول لحافظ الأسد(1978) استدعى بهجت سليمان الذي يعتبر من أكبر ضباط الأمن في سورية، وكان رئيس السجن آنذاك، كل السجناء إلى إحدى الباحات، حيث وجدوه جالساً بعنجهية شديدة على كرسي، وقد وضع ساقاً على ساق، والدولاب والسياط حوله، وطلب منهم المشاركة في التصويت بحيث يتم الإدلاء بالصوت على طاولة أمامه.. بالطبع فهم السجناء المطلوب وكلهم كتبوا نعم، إلا شاباً من بانياس يبدو أنه كان من تنظيم مروان حديد تجرأ على كتابة(لا) فإذا به وبلمح البصر قد صار في الدولاب والزبانية ينهالون عليه جلداً وركلاً حتى انهارت قواه تماما، ثم ساقوه إلى السواليل(1) في الأسفل، غاب بضعة أشهر ثم أعيد.
ومن أحاديثي مع محمد عرفت أنه أصيب بجلطة عام ثلاث وثمانين، وأن لأبي واقد(زاهي عبادي)(2) فضلاً عليه إذ ناداه الشباب ليراه، فوجده قد غطّ وازرقّ وجهه فأجرى له تنفساً اصطناعياً وأعطاه دواء فتجاوز الأزمة بإذن الله تعالى.
في عام 1985 اشتد علينا العذاب كثيراً، كنا نأمل بقرار عفو بعد المؤتمر القطري وتغيير الوزارة، كما حدث سنة ثمان وسبعين، فلم يحصل.
وفي أحد الأيام أزعجه تصرف أحدهم في المهجع كثيراً، إثر جدال حاد حول المرور بين يدي المصلي، كان ينام إلى جانبي، وظل طوال الليل يتعرق، في اليوم التالي لما كان وقت صلاة المغرب، وقفنا للصلاة فقدمته للإمامة لأنه كان أكبر مني سناً، قال: تعبان صلّ أنت. نصلي الفرض خلف ستارة .ثم نصلي السنة إيماء كل في مكانه من المهجع، أثناء أدائه السنة سقط على وجهه وشخر.
سكت الجميع كأن على رؤوسهم الطير، ثم نادوا أبا واقد، جرى إليه وجرب التنفس الاصطناعي( بالضغط بالقبضتين على صدره وبقوة) تعرق كثيراً، جاء مسؤول صحي آخر من كلة في إدلب، أخ طيب جداً كان هو وزاهي وصلا السنة السادسة من كلية الطب، حاولا كثيراً.. شرطي المحرس فوقنا لفت نظره سكوتنا فتح الشراقة فأخبره المسؤول الصحي
- ليش ما خبرت والله لأعدمك، ليش ما حكيت
- سيدي هلق هلق(هذا الوقت) صارت معه
- ضعه تحت الشراقة والله لفرجيك(لأرينّك)
ازرقّ لونه، شخر شخرتين أو ثلاثاً ثم أسلم الروح.
رحمه الله كانت نهايته وهو يصلي، كان من الممكن أن ينجو من خطر الجلطة الثانية، لكن لازم أن يراعى وضعه.
غسلناه مباشرة، اتفقنا، أدخلناه الدورة شطفناها صففنا بدونات(أوعية من البلاستك لحفظ الماء) سطحناها على الأرض ووضعناه عليها، طبعا غطيناه بشرشف لستر عورته، شارك في تغسيله نبيل قطرنجي وسليم حماد، بسرعة جففناه ولففناه بشرشف عتيق.
أذكر أنا صلينا عليه مجموعات، بعضهم صلَّوا عليه فرادى. خبرنا عنه.. ظلوا يجيؤون ويروحون يأخذون ذاتيته، رقيب يخبر ثم يأتي مدير السجن أبو حشيشة(3)، هذا الذي جلس خلف الطاولة أثناء زيارتكم الأولى.
أخذوه، رحمه الله، وضعوه في البراد(4) ولم يكن في السنوات الأولى.
وقد قال شاب اعتقل بعد وفاة محمد، أنه خرجت جنازة/مظاهرة كبيرة في حماة تندد بالدولة بعد وصوله جثمانه أو خبر موته.
*. بلغة وأسلوب صاحب التجربة تقريباً.
1. أفرج عنه سنة ثمان وسبعين بعفو رئاسي بمناسبة البيعة الثانية للرئيس، هو والشيخ سعيد حوى الذي غادر البلاد، بينا بقي عون مصراً على متابعة نشاطه، فاعتقل مجدداً سنة إحدى وثمانين، إذ اعتقل حينها كل من سبق اعتقاله، ثم أرسل إلى تدمر حيث أعدم أواخر سبع وثمانين، كان يحمل إجازة في الشريعة ويحضر للماجستير.
2. جمع سيلول، وواضح أنها من الأصل الإنجليزي أو الفرنسي الذي يعني خلية((cell، ويطلق المصطلح عموماً للتعبير عن الزنزانة الانفرادية التي يميزها الصغر وشدة البرودة وأقصى حالات الإهمال والحرمان.
3. مؤسس مهجع السل والمسؤول الصحي فيه ثم على مستوى السجن. انظر الحلقة الأولى من هذه المجموعة، والتي تحمل اسمه، رحمه الله.
4. سماه الشباب (أبو حشيشة) ولذلك قصة:
مرة خرج أحد الشباب للتحقيق فراح يسأله: ألا تشرب الخمر؟ لا، ألا تلحق الأولاد؟ ألا تلحق البنات؟ لا، عرف الشاب ما يريده من هذه الأسئلة وأنه سييثبتها في التقرير، ألا تحشش؟ طبعاً أحشش. هات كفك، كفك! يعني نحن الآن صاحبان، كلانا يحشش.رأى الشاب أن يلبّس نفسه نقطة في أخلاقه حتى يكتبها المحقق. ومن يومها دعي محمد نعمة (أبو حشيشة).
5. كانت غرفة صغيرة في الباحة السادسة، سدوها ووضعوا فيها براداً، كتب عليها الحراس( أبو هيثم) للتمويه وتسهيل الإشارة إليها عند الضرورة، ومن مثل هذا تسميتهم أحد المهاجع ضهرو( ضهره) أو شواربو ( شواربه).