وقال صاحبه في السجن(2)

فاطمة محمد أديب الصالح

وقال صاحبه في السجن

(من ذكريات سجين غُيِّب في سجن تدمر عشرين سنة)

(2)

قاسم ططري

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

بلغ من غَيرة قاسم وأخذِه نفسَه وأهلَه بالعزائم، أن بنى جداراً بين الغرفة التي خصّه والده بها من داره، وبين أهله، حتى لا تختلط زوجته بإخوته الشباب ولا تراهم ولا يرونها، وكان عنده خمسة أبناء، لعل والده كان يفتقده أو يفتقدهم في بعض أماسيّ أو صباحات بلدة الزبداني الخضراء، التي تبعد عن دمشق خمسين كيلاً، فيدقّ على ذلك الجدار الفاصل بينهم  قائلاً: كيفك ياجارنا؟

كان ذلك قبل عام ثمانين، قبل أن يعتقل قاسم ويساق إلى تدمر بتهمة الانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين، أو غيرهم.

قصّ مثل الجميع صوراً من حياته على سكان سجن تدمر..

يقول صاحبه في السجن*:

 التقيت به في المهجع(5، 6) عام اثنين وثمانين، متزوج وله خمسة أولاد، متخرج من قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق، وكان يدرّس العربية في بلده الزبداني قبل اعتقاله.

كان له أثر طيب في المهجع بفكره ونصائحه الطيبة، وكان ملتزماً بأفكار سيد قطب رحمه الله.

كنت أحس لديه بعض المبالغة أحياناً لكني أحترم رأيه ولا أراجعه، وبخاصة في هذا العام الشديد الذي كنا نواجه فيه تعذيباً وحشياً وأمراضاً وأوضاعاً نفسية لا توصف.. حتى إني أحياناً كنت أختصر لقاءاتي معه لما ألمسه من تشاؤمه وتخوفه، كان يردد: النهاية هنا، كله إعدامات، وقد كنت مثل الجميع بحاجة إلى كلمة تبثّ فينا الأمل ولو وهماً.. كان قد مر عليّ أقلّ من عام في السجن.. لازالت الصدمة في أولها بعد ترحيلي من دمشق بما أظهروا أنه انتقام وتأديب على عدم تعاوني وعدم الإفادة مني بشيء.

ومما ذكره قاسم مدللاً على حرصه وتمسكه بدينه أنه بنى جداراً بين الغرفة التي خصه بها أبوه مع عائلته وبين ما تبقى من بيت أهله، حتى ينفصل تماماً عنهم ويجنب زوجته الاختلاط بإخوته الذكور، حتى إن أباه كان يمزح فيطرق على الجدار صائحاً: كيفك يا جارنا؟

أصيب قاسم بالسل في السنة نفسها مع من أصيب، وظل وزنه يتناقص وجسمه يهزل حتى أحس بدنوّ أجله، فأملى وصيته الشفهية على ابن بلدته محمد: الله يرضى عليك يمّمني وأدرني على القبلة.

كان الاغتسال ممنوعاً في تلك الفترة، وبمجرد إبلاغ الإدارة توفي فلان يأمرون بإخراجه.

خبّر المسؤول الصحي أن عنده مريضاً، لكن هذا الأعوام الأولى شهدت من القسوة في التعامل ما لا يمكن وصفه، كان العسكري يردّ ببرود: انتظر حتى يموت وأخرجه على العازل(1) .. كأنه حشرة.. مهانة عجيبة، لا دواء ولا تعاون، ولو كانوا استجابوا لربما كانوا أنقذوا حياته، رحمه الله.

ليى محمد قاسماً فيما طلب، فظل يردد أشهد أن لا إله إلا الله حتى توفي.

كان الحزن عليه كبيراً في المهجع، لأدبه وتواضعه، وكانت أول حادثة وفاة بيننا فكان لها أثر عظيم، بخاصة لما أشرت إليه من أنا كنا في عزّ التعذيب والمرض والجوع.

وقف واحد عند الباب ليحضر أيّ شرطي أو رقيب، لففنا قاسماً بشرشف بعد أن يممه محمد، أذكر أنا اختلفنا وقتها على وقفة الإمام أين تكون، ذكّرتهم أنه يقف في منتصف جسم الرجل وعند رأس المرأة، صلى عليه أحد الإخوة.

في هذه الفترة كانوا يأخذون الميت إلى مقبرة في تدمر، بعد سنة ثلاث وثمانين، صاروا يسلمونه إلى أهله إذا كانت الميتة طبيعية وليست تحت التعذيب.

سمعت أنه أوصى أهله بتربية أولاده على الإسلام.

رحم الله قاسماً، لعل الموت كان رحمة له.

     

* حاولت الاحتفاظ بلغة وأسلوب صاحب التجربة في سرده الشفهي، قدر المستطاع.

1.     العازل: بطانية من طبقتين السفلى من قماش الخيام وفوقها قماش بطانيات قديمة تثبت معاً، تستخدم للنوم عليها مباشرة، أو يمدّ شيء فوقها إن وجد، كما يحمل عليها المرضى والمتوفَّين.