وقال صاحبه في السجن
وقال صاحبه في السجن
( من ذكريات رجل غُيِّب في سجن تدمر عشرين سنة)
(1)
زاهي عبّادي
فاطمة محمد أديب الصالح
تصلي أم زاهي فجرها.. كلَّ فجر، ثم تصعد إلى سطح دارها في مدينة دير الزور الواقعة شرقيّ سورية، توجه وجهها شطر مدينة تدمر وتقرأ سورة يس.
بين الليل والنهار، بين آخر خيوط العتمة وأولى خيوط النور..تقرأ السورة ثم تنفثها باتجاه تدمر ليقينها أن نقاء النسمات العذراء التي لم تلوّثها بعدُ شهوات النهار ولا جهالاته؛ ستوصل بامتنان ومحبة دعوات قلبها الحزين محمّلة ببركات سورة يس، وتحطّ على فؤاد زاهي القابع في سجن تدمر منذ بضعة أعوام..
لم يقل أبوه له حين زاره آخر مرة كم تبكي أمه وماذا تقول، لعله هو لم يقل للأصحاب، قال له أنها أضحت أثقل حركة من أن تحضر.. قال زاهي أيضاً أن أباه قال: الله يوفقك يا ابني.
وكان موفقاً من الذين لا تقاس أعمارهم بالسنوات.
كان في سنته الأخيرة في كلية الطب حين سيق إلى سجن تدمر سنة إحدى وثمانين، ليجد نفسه واحداً من أهم الأطباء فيه، ويغدو مسؤولاً صحياً في مجتمع خاص جداً، يعيش وراء حدود الزمان، وراء حدود العقل والإنسانية، ووراء حدود كل القوانين والدساتير..
سجن لا يمكن تشبيهه إلا بنفسه، وفيما يأتي من الزمان، ستقاس السجون إليه وتقارن به..
ترى هل يستجيب أحد لياسين الحاج صالح حين قال: "هذا سجن لا يجوز هدمه أو إغلاقه، لم لا نقلبه متحفاً لأدوات التعذيب، ونشيد فيه نصباً يكرم عذابات ضحاياه ويعلن أننا لن ننساهم، ونسمي هذا النصب نصب التوبة؟..".(1)
وقال صاحب زاهي في السجن عشرَ سنوات وبضعةَ مهاجعَ وقدراً من الأحزان والعذابات:
"في عام 1983، وكان مرّ علي في السجن قرابة عامين، أرسلت إلى مهجع السل إثر نزلة برد شديدة سببت لي سعالاً وضيقاً في التنفس إلى درجة الاشتباه بالسل، لدى دخولي استقبلني زاهي باهتمام وترحيب، جاءني بأدوية، تعارفنا وتوثقت بيننا الصلة، صرنا نتدارس الأحاديث ونراجع السيرة النبوية ونثبت حفظ القرآن، وبصورة ما اعتبر نفسه تلميذي.(2)
وكان زاهي هو من أسس مهجع السل بعد ارتفاع عدد الوفيات، وتبرع بمرافقة أول دفعة من المرضى، ولما وجد الإدارة اختارت مهجعاً غير صحي أبداً أقنعهم بتخصيص مهجع أكثر شمساً وتهوية فكان المهجع(35)، ووعدهم بأن أحوال هؤلاء المرضى ستتحسن بقليل من الرعاية.
كان من جماعة الشيخ حسن هويدي وكلانا محسوب على جماعة عصام العطار. وكان زاهي شديد الحماس له، إذ سمعت أن أحدهم انتقد الأستاذ مرة في أحد المهاجع فنهض زاهي ودافع عنه بقوة.
كان طويلاً أسمر نحيلاً هادئ الطبع يحب المزاح ولا تفارق الابتسامة وجهه، يتعامل مع إخوانه برقيّ، كما كان شجاعاً ويعرف كيف يتعامل مع عناصر الشرطة والحرس فجعلوه المسؤول الصحي على مستوى السجن، مع أنه كان هنالك أطباء مختصون في أمريكا وفرنسا وبريطانيا.
إلى جانب ذلك كان زاهي معطاء ذا نخوة تبرع بدمه أربع أو خمس مرات شهدت إحداها على يد طبيب آخر( محمد البيروتي) كان مختصاً بالدم جاؤوا به مرة إلى مهجعنا ليفحص مريضاً فتبرع زاهي لما وجد أن زمرة دمه مطابقة لزمرة المريض.
وكان من أسرة متعلمة ذات مواهب، إخوته كلهم أطباء ومهندسون، أحدهم يعمل في جامعة مونبلييه بفرنسا وآخر في السعودية.
كان أبواه صالحين، ولم تتمكن أمه من زيارته آخر مرة لثقل حركتها، لكن أباه ذكر له أنها تصعد كل يوم إلى سطح بيتها في دير الزور فتمكث ساعة لتقرأ سورة يس، ثم تنفخها باتجاه تدمر.
في كل زيارة كان أبوه يقول له: روح يا ابني الله يوفقك.
كان ذكياً متفوقاً متفانياً في العمل الإسلامي، مخلصاً في عمله وفي خدمة الجميع، كلما جاءته زيارة(3) يضعها عند رئيس المهجع ليوزع منها على أي محتاج: نقود، دواء، أي شيء.. أصرّ مرة على أن يشتري لي (بيجامة) ولما أكدت له أني لست بحاجة عتب عليّ فقبلت.
مرة أحضرت له أخته طاقية صوف من شغلها ومرة أحضروا له عباءة.
بقينا قرابة خمس سنوات ننتقل معاً من مهجع إلى آخر، إذ كان زاهي مسؤولاً عن تصنيف المرضى بحسب درجات إصاباتهم بالسل، وكان يقترح فتح مهاجع جديدة للمصابين كلما ازدادوا، وقد طلبت منه السعي لإخراجي إلى مهاجع الأصحاء خوف العدوى، طلب مني البقاء على أن يمدّني بأدوية احتياطية، لكني فضلت المغادرة، وبالطبع لم يستجيبوا له إلا بعد حين، فخرجت ولم أعد أرى أبا واقد( زاهي).
لكنهم اشتبهوا بإصابتي مرة أخرى بعد حوالي العامين، وأرسلوني إلى مهجع السل للمرة الثانية عام 1989 حيث التقيت به من جديد فقال لي: لم أرسلوك؟ معك ربو أنت، نادى يوسف حميدي، طبيب من منطقة دير الزور، فحصني فوجد خريراً، قال: لا بأس، خذ دواء للاحتياط، ثم تخرج مع الأصحاء.
لم تكن لزاهي زنزانة ثابتة في البداية ثم خصصوا له مهجعاً، كانوا يحترمونه وقلما كانوا يضربونه.
أصيب بمرض يسمى الجراثيم اللاهوائية، هو شخّص مرضه بنفسه، ورغم أن الشباب خبروا عنه إلا أن الإدارة رفضت إرساله إلى صيدنايا(5) حيث كان يأمل بتلقي العلاج المناسب، انتشر المرض في جسمه يبدو أنه من أثر جرح في قدمه نقل إليه الجراثيم من دورات المياه، وهي جراثيم تعبر الدم وتتفرق في العضلات، تحتاج إلى جرح العضلات وتعريضها للهواء.. تحتاج مستشفى، ولما انتشرت وتحولت إلى أُكال(غنغرينا) أخذوه إلى مستشفى تدمر ليفحصوه، قالوا لا بد من قطع رجله فرفض.كان لازال يأمل أن ينقلوه إلى صيدنايا.
في الليلة نفسها(9 حزيران 1990) اشتد عليه المرض وتوفي ما بين الواحدة والواحدة والنصف. جاؤوا ليلتها بمحمد البيروتي من مهجع 16 وهو طبيب من دوما يداويه ويشرف عليه، كنا نسمع أنينه ولا يسمح لنا بالبقاء إلى جانبه طبعا، بل يعرضنا هذا للعقوبة في اليوم التالي.
مكث لا يمشي بضعة أيام وخلال يومين انتهى .
ما استطاع الشباب تغسيله، فالرقباء فوق رؤوسنا باستمرار، يـمّمته وصليت عليه مع قلة، مع العلم أنه كان في المهجع مخبرون.
قبل شهرين من وفاته زاره أبوه وإخوته، كذلك حصل على زيارتين عام 84.
كما قلت كان متفانياً مضحياً شجاعاً، وكان من أعز أصحابي، أتمنى أن أذهب لأهله وأعزّيهم فيه، لأني في الحقيقة تأثرت جداً بوفاته.
شاع أنه ربما قتل لأنه اتصل بكل السجناء لكن لا، إذا كان قتل فلأنهم تأخروا عليه وكان من الممكن، بإذن الله، إنقاذ حياته.
لما خبرنا الرقيب أول صار يمصمص شفتيه كأنه يتأسف: كيف مات، كأن الرقباء حزنوا عليه لما روى لهم د. البيروتي تفاصيل وفاته.
الحقيقة كان حدثاً كبيراً على مستوى السجن، كلهم يعرفونه ويقدرونه ويعرفون خدماته.
كان دائم الابتسام يحب المزاح ويخفف عن المكتئبين، أحياناً أنا كنت أفعل الشيء نفسه معه، أخفف عنه، يحكي لي قصصاً عن أهله وعن دراسته في حلب، عن صداقاته.
أوصى بعباءته لحيان بارودي الذي خدمه كثيراً في مرضه وكان يساعده في عمله.
قبل وفاته بشهر رأى أباه في منامه، في رأسه دمّلة، ومعهما حافظ أسد، قال لزاهي: قم افقأ الدملة لأبيك فنهض وفتحها وطهرها.
لم نعرف تفسير هذا المنام حتى مات رحمه الله".
الهوامش:
* رأيت أن أحتفظ بلغة صاحب التجربة وأسلوب سرده الشفهي، قدر المستطاع.
1. صحيفة النهار اللبنانية(1/7/2003) مقالة بعنوان: الطريق إلى تدمر، جديرة بالقراءة للمهتمين بهذا الشأن. والكاتب عرف تجربة السجن خمس عشرة سنة، قضى آخر سنة منها في سجن تدمر.
2. لم يعترف صاحب هذه التجربة بذلك إلا تحت إلحاح، وكان أحد السجناء الذين أطلق سراحهم قبله ذكر لي سنة92، أن زاهي كان قريباً جداً منه، وكان كالمريد له، وأنه كانت بينهما مودة شديدة.
3. المقصود ما يجلبه الأهل عند الزيارة.
4. عندما يقول الشباب، فالمقصود شباب الحركة الإسلامية عموماً، وكانوا كما هو معروف، أكثر السجناء عدداً.
(5) حيث سجنٌ مدني قريب من دمشق، يسميه السوريون: شيراتون السجون.