أنور العطار شاعر الحب والألم والطبيعة

أنور العطار شاعر الحب والألم والطبيعة

للأستاذ: علي الطنطاوي

هذه حلقة مفردة ليست منظومة في العقد، بل إنها الفصل الذي يأتي بين فصول الرواية (انتراكت) فسامحوني إن أخللت بسردها، وأعدكم أنني سأعود إليها.

أخذت جريدة "الشرق الأوسط" يوم الأربعاء 1/6/1405، فوجدت اثنين من بلدي، هفا إليهما قلبي، وأضرما –وما خمدت- لواعج الشوق إليهما في صدري، وضمّخا بالعطر كل ما حولي، فملأ الطيب مجلسي، وكيف لا، وهما عطار يكتب عنه عطري.

فكأنني انتقلت معهما إلى الغوطة في آذار، وقد كللت هام الأشجار فيها الأزهار، وغنت على أفنانها الأطيار، وأين مني تلك الديار؟ أين مني الغوطة –يا أسفي على الغوطة- لقد قطعوا شجرها، وبددوا زهرها وثمرها، وأقاموا عليها مقابر كبيرة للأحياء من البشر، لا تختلف عن القبور إلا بأنها طبقات فوق طبقات، وأن لها منافذ يدخل منها الضياء كما تدخل منها شياطين الإثم، إذ تكشف سر الجار للجار، حتى يراه في مخدعه مع أهله!

فيا أيها الأستاذ عبد الغني العطري لك الشكر.

لقد أحييت في نفسي طرفاً من ماضيَّ الذي حسبته مات، حين أثنيت على أنور، ولا ترجو على الثناء جزاء ولا شكراً، إنما هو الوفاء، وما أقل في الناس الأوفياء.

لقد صحبت في طريق الدراسة الطويل، ألوفاً من الطلاب، رافقتهم ثم فارقتهم، مشينا معاً في طريق واحد ثم انشعبت بنا الطرق، واشتبكت المسالك، فتفرق الشمل الجميع(1) وانقضت صحبة المدرسة، أجمل صحبة وأنقاها، وأثبتها على نوب الزمان وأبقاها:

أيا حبذا صحبة المكتبِ    وأحبب بأيـامه أحببِ

إنها الصداقة المبرأة من شوائب المطامع والمنافع، البعيدة عن المجاملة والمخادعة والنفاق. كنا جميعاً على مقاعد مشابهة، فرفعت الحياة ناساً منا فأعلت منازلهم، وخفضت ناساً، وتبدلت المقاييس، واضطربت الموازين، فتقدم من كان متأخراً في دروسه، وتأخر من كان متقدماً.

وكم منجب في تلقي الدروس
وصار  إلى الفاقة ابن iiالغنى
وقد   ذهب  الممتلي  iiصحة



 
تلقى    الحياة   فلم   iiينجب
ولاقى   الغنى  ولد  iiالمترب
وصح   السقيم   فلم  iiيذهب

لم يبق معي على الطريق من هؤلاء الألوف إلا اثنان، أنور العطار رحمه الله وسعيد الأفغاني سلمه الله.

وغاب الرفاق كأن لم يكن    بهم لك عهد ولم يـصحب

إلى أن فـنوا ثـلة ثـلة     فناء السراب على السبسب

يقول الأستاذ عبد الغني العطري:

"إن أنور العطار ظلم نفسه بعزلته وابتعاده عمن في أيديهم مفاتيح الشهرة، يفتحون أبوابها لمن يرونها معهم، يغشى مجالسهم ويغلقونها في وجه من ينأى عنهم".

ولكن هل ترى يا أيها الأستاذ العطري أن هذا من صنع أنور؟ هل طبعي أنا مثلاً من صنعي؟ إن الله كما يخلق الرجل قصيراً أو طويلاً، ولا يد له في طوله وقصره، يجعله مقبلاً على المخالطة أو معرضاً عنها.

وإن كانت عزلة أنور ظلماً منه لنفسه، فماذا تقول عني أنا؟ لقد كان هو الاجتماعي بيننا (أنا وهو) وكنت أنا المتوحد المتفرد. كان ينكر عليّ عزلتي، ويدفعني إلى غشيان مجالس الأدب التي يغشاها، ولقاء أهله الذين يلقاهم، فكنت أستجيب له حيناً، وأتأبى سائر الأحيان.

لقد كتبت مقدمة ديوان أنور "ظلال الأيام" من نحو أربعين سنة (سنة 1367) ثم قطع الدهر ما بيني وبينه فابتعدنا قليلاً، كان هو في الشام وكنت في الرياض، فلما جاء الرياض، كنت في مكة، ثم زرت دمشق في إحدى زياراتي القليلة أيام إقامتي هنا في المملكة، فقابلته في بيته، وأخذت لنا صورة، ما كنت أدري يومئذ أنها المقابلة الأخيرة، وأن هذه الصورة ستبقى ذكرية عزيزة لأخ فقدته.

لما كان في مستشفى المواساة في مرض موته كنت أنا إلى جواره، ما يفصلني عنه إلا بضع غرف، وكنت مقيداً إلى سريري، أجرى لي الصديق الدكتور مظهر المهايني عملية ما استطعت بعدها أن أذهب إليه فأراه، ولكن زوجتي زارت زوجته، فخبرتني أنه صار جلداً على عظم، وأنه ليس أنور الذي عرفناه بل هو طيف له على صورته وعلى شكله.

ولما توفاه الله كنت قد خرجت من المستشفى، فمشيت في الجنازة وأنا والله في دنيا غير دنيا الناس، أصحبهم بجسدي، وفكري ونفسي مع أنور في أيامنا الخوالي، ثم لما انتهى الدفن، ووقف أهله للتعزية تركتهم وجست خلال المقابر، فقعدت بينها حيث لا يراني أحد، وما معي إلا قبور الموتى من حولي والماضي الذي حسبته مات في خيالي، وعلى يميني من بعيد قبر أبي وأمي، وأمامي من بعيد الحفرة التي ثوى فيها جسد أنور، وكرَّ شريط الذكريات فلم أعد أعرف أين أنا. لا أفكر في المكان الذي أقعد فيه، ولا في الزمان الذي أعيش فيه، لأن صداقتنا ولدت ذات يوم في هذه المقبرة.

هل تحبون أن أكشف لكم طرف الستار عن هذه القصة الطويلة، التي عشتها معه وعاشها معي؟

لابد إذن أن أعيد عليكم بعض ما كتبت في مقدمة الديوان، إنه فلمٌ طويل، فلمٌ حافل بكل جميل ونبيل، يمر بك في لحظات وقد تصرَّمتْ في تأليفه وإخراجه خمسون سنة، فلمٌ كنا نحن أبطاله، وكنا نحن ممثليه، فصرنا نرى فصوله تعرض علينا من بعيد.

الفصل الأول من هذا الفلم في (مكتب عنبر) في أعقاب الحرب العالمية الأولى سنة (1923) عندما أبصرت أنور العطار أول مرة، أبصرت فيه تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر، من غير أن يبدو عليه أثر الغنى، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران، خفيف الوطء حالم الخطى، كأنه طيف يمر على خيال نائم، يعتزل التلاميذ لا يثب وثبهم، ولا يلعب لعبهم، فسألت عنه من يعرفه فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار.

وما كنت أؤمن يومئذ بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين، ولا أرضى لنفسي أن أقرأ شعر المتنبي، ولا يرضى لي ذلك مشايخي، لئلا تفسد –كما قالوا- ملكتي. ولم أسمع باسم شوقي، فما لي ولهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار؟ لذلك ما طلبت صحبته، ولا ظننت أنه سيكون بيني وبينه اتصال، حتى كانت تلك المصادفة المسعدة التي كان لها في حياتي أنا، وفي حياته هو، أبلغ الأثر.

كانت هذه المصادفة على باب المدرسة (البادرائية) في ليلة من ليالي رمضان، كنت داخلاً إليها، فوجدت أنور خارجاً منها، فوقف يحييني ووقفت أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع، حتى جاء ذكر شوقي فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمس بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببت شوقي وأحببته. وأنت تلقى المرء أول مرة فتحس بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً.

سرٌّ ركّبه الله في نفس الإنسان.

وفهمت منه أنه يسكن في حارة تجاور الحارة التي أسكن فيها، فاصطحبنا، وذكرت موت والدي في تلك الأيام فحدثني عن موت والده وهو صغير، وجعلنا طريقنا على مقبرة الدحداح، والطريق منها إلى حارتنا أقصر، وهنالك على قبر أبيه وعلى قبر أبي، ولدت هذه الصداقة التي أثمرت شعراً ونثراً، وحباً وإخلاصاً، وكانت من أخلص الصداقات، وإن لم تخل من منغصات، شأن الناس في هذه الحياة.

وهنالك في مدينة الأموات ولدت هذه المودة التي لم يستطع أن يعدو عليها الموت، لأنها محصنة منه، ولأن الأدب أكسبها الخلود.

وكرت فصول الفلم تتوالى، فرأيتني قد غدوت صديقه وغدا صديقي يبثني شكاته وأبثه شكاتي، ويجد في حياتي مشابه من حياته، وأجد في حياته مشابه من حياتي، ألف بيننا اليتم، وأننا كنا مستورين على حالة هي فوق الفقر ودون الغنى.. حتى كأني هو، وكأنه أنا.

وصار يسمعني شعره فأجد بواكير شاعر متمكن، لا محاولات طالب مبتدئ، وأجد في هذه البواكير قوة في التعبير، وجدة في التفكير، وأبياتاً سائرة وصوراً رائعة، يرسلها تترى (أي متتابعة) يستقيها من معين ثابت لا ينضب، وكنت بطول ما نظرت في كتب الأدب، وألفت من آثار البلغاء، أستطيع –على صغري- أن أميز الذهب الخالص من الكلام، من النحاس المطلي بماء الذهب.

واستقبلت فيه العربية شاعراً جديداً ملهماً، وفتح له ولإخوانه الثلاثة جميل سلطان، وزكي المحاسني، وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي، وكلهم رفاقنا في المدرسة، فتح لهم أستاذنا محمد كرد علي أبواب المجمع، فأقام لهم حفلة تكريمية أنشد فيها أنور العطار قصيدته "الشاعر" التي رويتها من قبل، والتي أشار إليها وأثنى عليها الأستاذ العطري.

وكانت هذه الحفلة سنة 1346هـ ونشرت قصيدته في "الحديقة" التي كان يصدرها خالي محب الدين الخطيب في تلك السنة.

وشعر أنور في تلك الفترة آهات أبدعها الفن صوراً، ودموع صاغها البيان شعراً، ومقطعات حلوة ما أدري ما الذي زهد الشاعر فيها فلم يثبت منها في ديوانه "ظلال الأيام" إلا مقطوعة "الحمامة".

ورأيت فصول الفلم تتوالى، أبصر فيها كل دقيق وجليل من حياتي وحياة أخي في الصغر وفي الكبر، ورفيقي في السفر وفي الحضر، وأنيسي في المسرة وفي الكدر، أنور، رحمة الله على روح أنور.

رأيت أيامنا في المدرسة ونحن تلاميذ نعيش من الأدب في دنيا الخيال، إذ أعجزتنا دنيا الواقع أن نجد فيها ما نصبو إليه ونتمناه، لا نصدق متى ينقضي النهار حتى نفر إلى كتب الأدب، لنقرأ كل بارع من القول، ونتدارس كل رائع من البيان.

ورأيتنا وقد فرقت الأيام بيننا قليلاً، فاشتغلت أنا بالصحافة، وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم فكان مدير المدرسة الأولية في منين(2)، في هذه القرية النائمة في حجر القلمون الأدنى، ترى مواكب الأحلام بأجمل "عين" وأشدها سحراً وأكثرها فتوناً: عين منين، من لم ير عين منين، ما عرف سحر العيون، أزوره فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النعم، أسكر سكرين: سكر الجمال، وسكر البيان، وأخضع فيها لسحرين: سحر الطبيعة وسحر الشعر، وأجمع فيها الماضي البهي ذكرى حلوة، والآتي الشهي أملاً مرجى في حاضر ضاع في نشوة اللذة، حتى لم يبق لنا منه حاضر نحسه وندركه.

نقضي الأصباح نستمع إلى أشعار السواقي المنحدرة من الينبوع وأشعار أنور، ونقطع الأماسي عند الصخور التي أفضنا عليها من الحياة من قلوبنا، فصارت تحنو علينا، وتولينا الحب، وأرقنا عليها البيان، فأمست تحدثنا: تتلو علينا أحاديث الغابرين، وتقص قصص الأفلام، من غسان(3) أصحاب المجد المؤثل، فنحس كأنْ قد عاد الماضي، ورجعت "القصور البلق" عامرة، وبُعث المجد وعاش الحب، حتى لكأننا نسمع همس العشاق، وآهات نشواتهم، ووسوسة قبلاتهم، ونرى خيالات العناق من وراء الستار.

أيام سعدنا بها، وما سعدنا بالصخر ولا بالماء، ولكن بأحلام الشباب، رحمة الله على تلك الأيام.

ورأيتنا وقد صرت أنا معلماً في الجبل من دمشق، في المهاجرين، وصار هو معلماً في السفح في الصالحية، فكنا نرتقب المساء ارتقاباً، فإذا حل انحدرت أنا من هنا وانحدر هو من هناك، حتى نلتقي عند العفيف(4) نفرح بهذا اللقاء، فرح حبيبين التقيا بعد طول فراق.

ورأيت أيام العراق زهرة أيامنا، أنا وأنور، وزينتها أيام بغداد، (وقد حدثتكم عني وعنه وعن بغداد) كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور، ففيها اختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد، هو عهد القومية وشعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة وتراً جديداً، خرجت منه أطيب النغمات.

ماذا أصف؟ وعمَّ أتكلم؟ وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا من العواطف، وعالماً من الذكريات، وآلافاً مؤلفة من المشاعر كانت أثبت من الزمان، لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر.

رأيت هذا كله، وما هذا إلا تلخيص لحياة أنور، الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلد الملهمون، شعراء القلب والروح واللسان، لا شعراء الألفاظ والبيان، الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال، المترع بالخير الممتلئ بالحب. وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالجمال، وينفث السحر الحلال.

وفي هذا التلخيص تحليل لشاعرية أنور، فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن، صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري، ولا شيء يبعث الأدب العبقري كالألم العبقري كما قال الفريد دي موسى في أبياته المشهورات.

لقد بكى الأحلام الضائعة كما بكى الأوراق المتناثرة في "الخريف" وخلد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة، إذا أخذتم عليه ذلك فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غيره، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي، ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكون مشاعره في طفولته، قبل أن يشعر هو ليكوّن مشاعره كما يريد، ولو استطاع امرؤ أن يصغر فمه أو يجمل أنفه لاستطاع أن يبدل قلبه ويحول عواطفه.

لقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا، وفتح عينيه على الدنيا والحرب العالمية الأولى قائمة، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان: ولد في السنة التي ولدت أنا فيها سنة 1327هـ وقد كبّره الأستاذ مؤلف الأعلام، وصغره الأستاذ العطري، وميلاده الحق هو ما قلته.

فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وكان الفرح فيه مثال الفجر الأول، لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل، فهذا هو السبب.

ولا تلوموه إن تغزل، فتكلم عن الرؤى والأحلام، وترك الحقائق وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجمجم، فلم يكشف ولم يصرح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلا ذنباً، على صاحبه أن يستغفر الله منه. فإذا كان في شعراء اليوم من قصر شعره على مخدع الزوجية بغير زواج شرعي، وعلى ما يكون بين المرأة والرجل بغير إذن من الله، وكان شاعر الفسوق والعصيان(5)، فإن شعر أنور كشعر (نصيب) الشاعر الذي سمَّى قومه "ليلى" ليتغزل بها.

إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل الشباب، وإنه كان أعفّ وأشرف من أن يفكر في هذا أو أن يحاوله. وأنا أقول ما أقول عن معرفة به: أعرف عنه أكثر مما يعرف عنه ولده الذي انبثق من صلبه.

ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة، وقصر عليها شعره، ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعرف في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس. فإن أنور أمضى صباه كما أمضيت صباي في عالم ضيق، كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى مكتب عنبر، وتلك الساقية الصغيرة التي كتبت عنها في مجلة "الرسالة" من اثنتين وخمسين سنة، فارجعوا إليها لتقرأوها، وذلك الطريق الموحل الذي كان ينتهي عنده العمران، ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان (اسمه قفا) الدور وكان نهاية البلد، فصار الآن شارع بغداد، وصار في وسط البلد.

إن أنور يخشى أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه، أو يتجاوز حدوده، كما كان يخشى من قبل، وأخشى أنا، أن نتجاوز (قفا الدور) أو نتخطى مكتب عنبر.

ولكن عالم أنور الشعري واسع على ضيقه، لأنه عالم القلب: إن لم يمتد على وجه الأرض فإنه يمتد في العلا صعداً، حتى ليتصل شعره أحياناً بالدين، والإيمان ذروة السمو في هذه الدنيا وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن اقتصر عليها، ولا يضيق عليه متر واحد إن سما حتى اتصل بالسماء.

عاش أنور في عهد جد ويقظة، وإقبال على العلم والعمل، وحفظ عشرات القصائد من جياد أشعار العرب، فجاء أسلوبه كالماء الصافي: فيه عذوبة ولين، وفيه، إن تدفق، قوة ومضاء، وكان في شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات، وطالبي إعجاب العوام. وكان نسجه كالحرير المتين المصوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسج الرخيص الذي يتمزق من الشد، وتذهب ألوانه من رؤية الشمس.

ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له من قبله من الشعراء، بل على طريق شقَّه هو لمن بعده من الشعراء. كان أنور إمام جماعة الشباب، ولم يكن مؤتماً تابعاً، ولولا نفس من شعر شوقي في مثل قصيدته "ليل الحزين" من بواكيره وروح من الأدب الفرنسي في بعضها. لقلت بأن أنور لم يقلد في أسلوبه أحداً أبداً. وهل لشاعر مثل الذي لأنور في وصف الطبيعة، وفي وصف البلدان، وفي وصف الرؤى والأحلام، حتى يقلده أنور؟.

*   *   *

لقد قلت يومئذ في مقدمة الديوان، إنه ديوان الوفاء للعربية: نخل مفرداتها فاختار أطيبها، وعرض أساليبها فاصطفى أحلاها. وديوان الوفاء لأقطارها: جرى بردى منذ الأزل، وقال لبنان، فهل قال شاعر بردى مثل الذي قال أنور؟ هل نظم في لبنان مثل ما نظم؟ هل يعرف القارئ في الشعر الحديث قصيدة في وصف الطبيعة أعظم من "لبنان" التي اشتمل عليها هذا الديوان؟.

أنا لا أبالغ ولا أغالي، وهذا الشعر الحديث بين أيدي الناس، فمن عرف أعظم منها فليقل.

ولكن "المعاصرة" حرمان، وأزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون هذا الشعر وهذا النثر، الذي يلقى بين أيدي الناس، فتميز الجوهر من الزجاج، والذهب من النحاس، وهناك بعد أن يذهب الرجال، وتنقطع الصداقات والعداوات ولا ينفع إلا الأدب الذي يستحق الخلود، يومئذ تعرف قيمة قصيدة "لبنان" وقصيدة "بردى"، وهنالك بعد أن يعدو النسيان على أسماء كثيرة تملأ اليوم الأسماع، وتشغل الناس، يحتل اسم أنور العطار مكانه مع أسماء الشعراء الخالدين.

هذا كلام قلته أكثر من أربعين سنة فإن لم يأت ذلك اليوم فلا بد أنه آت.

كنا نعد الشعراء الكبار في دمشق أربعة هم: خير الدين الزركلي، ومحمد البزم، وخليل مردم بك، وشفيق جبري، وكان أصحاب الصحف يبدلون المقاييس فيقدمون من يرونه هم أحق بالتقدير، فيعرف الناس اسمه، ويقرؤون شعره، ويهملون غيره، فلما هدأت هذه الضجة وانطفأت هذه القناديل، وسطعت شمس الحقيقة، احتل كل مكانه الذي يستحقه. وكان شعراء الشباب من رفاقنا أربعة هم الذين كرمهم الأستاذ كرد علي رحمة الله عليه وعليهم، خليفة الشيخ طاهر الجزائري في تشجيع الناشئين، والأخذ بأيدي المبتدئين. وكان أنور العطار أشعرهم، إن لم يكن أوسعهم أفقاً، وأكثرهم تنويعاً، فهو أجودهم ديباجة، وأحلاهم أسلوباً، وأحسب أنه سيكون أبقاهم ذكراً.

وبعد، فالشكر للأستاذ نجدة فتحي صفوة الذي أعاد لنا ذكرى أنور العطار وما نسيناه، والشكر للأستاذ عبد الغني العطري الذي دفعني إلى نشر هذا الكلام.

إن الساعة إنما تسير عقاربها، وتحركها حركتها هذه الملوبات(6) أي اللوالب، وكان عندنا جماعة هم ملوبات (أي لوالب) الحركة الأدبية في دمشق يدركون خامدها، ويسيلون جامدها، ويبعثون اليقظة فيها، وكان منهم الأستاذ عبد الغني العطري.*

أعتذر للقراء إن قطعت سلسلة الكلام عن رحلة الشرق وتكلمت عن أنور العطار، رحمه الله، وأعدهم أنني سأعود في الحلقة المقبلة من هذه السلسلة.

            

الهوامش

(1) أي المجموع.

(2) منين: إحدى القرى القريبة من دمشق.

(3) غسان: الذي ينسب إليه الغسانيون والغساسنة ليس رجلاً ولكنه نبع ماء نزلوا عليه وموضعه في جبل الدروز عند قرية سلطان باشا الأطرش.

(4) العفيف: حي من أحياء دمشق يقع في أدنى سفح جبل قاسيون.

(5) يأخذهما جزافاً، بلا وزن ولا (قبان).

(6) الملوب: على وزن مكرم وهو ما يسميه الناس باللولب.

* من كتاب (رجال من التاريخ) لأديب العربية الكبير: علي الطنطاوي، رحمه الله تعالى. صادر عن دار المنارة في جدّة –السعودية.