حنين حار
حنين حار
|
|
محمد الحسناوي نعيم الغول
مهداة إلى الأستاذ محمد الحسناوي في حفل تكريمه، وإلى كل من أُبعد ظلماً عن وطنه.
تعلقت عينا (الأستاذ حامد) بالرجل منتظراً أن يحدد الثمن. كان مستعداً لدفعه مهما بلغ. جاءه الصوت مشحوناً بشهامة ذكرته أن بعضها لم يمت بعد: "ثمن ماذا يا أستاذ؟! لم أفعل سوى أن أفرغت محتوياتها، ثم أغلقتها وهي فارغة؟".
سأل بلهفة: "في "جسر الشغور"؟"
ردّ الآخر متراجعا خطوة: "الكذب خيبة، بل في حلب؟!"
خيبة الأمل التي خالطت محياه رحلت مسرعة: "لا عليك، وهل حلب قليلة؟ ألا تتفضل وتدخل يا أخي؟".
شكره الرجل وانصرف. حملها.. وضعها على مكتبه.. جلس يتأملها. صرخت عيناه دهشة حين رآها تمتلئ أشجاراً.. جداول.. زهوراً.. رأى رذاذاً خفيفاً يطارحها جميعاً الحياة. روائح تراب لطالما غاصت قدماه فيه طفلاً انبعثت منها احتضنته، دارت به عقدين ونصف من السنين منذ اقتلعته يد بطش وطوّحت به بعيداً عن القرية التي منحته هواء صرخته الأولى، وأقسمت له أذناه أنهما سمعتا فيها تسبيحاً يتردد صداه، ويطغى على ما سواه.
وحين أشاح بوجهه ماسحاً الحنين الذي انحدر حاراً محرقاً من عينيه، طالعته وجوه زوجته وبناته وأولاده، والأسئلة في فم كل منهم طفل شرس يتفلت من أمه في طريق تمر بها العربات مرور المؤمن بأرض ذات خسْفٍ. كلماته أطفأت حيرتهم: "طلبت من سائق صديق يعمل على خط الشام/ عمان أن يأخذ القنينة هذه ممتلئة بالماء، ويفرغها في "جسر الشغور"، ثم يغلقها دون أن يملأها بشيء. (الله يرضى عليكن) لا تفتحوها. أمامكم العمر كله لتعودوا وتُسكنوا رئاتكم هواء الجسر.. أما أنا فليس لي إلا أن أقنع بما في هذه!".