زيارة خاصة

ريما عبد القادر /غزة

[email protected]

كانت الساعة تقترب في عقاربها من العاشرة صباحا حسب توقيت مدينة غزة المحاصرة من يوم الأربعاء، حينما همست أمي الحبيبة بكلمات مرتجفة بالحزن حينما قالت لي :" سوف نذهب لزيارة حبيبي فادي". في ذلك الوقت نظرت إليها بنظرات سريعة حتى لا تختلف خطوط وجهي وتزيد من صعوبة الموقف إلا أنني بدون أي تردد أجبت بالموافقة وسرعة الانطلاق.

وما هي إلا دقائق قليلة حتى اقتربت خطوات أقدامنا من ميدان فلسطين الذي يبعد خطوات قصيرة عن مكان زيارتنا الخاصة، ورغم قرب المسافة إلا أنها بدأت كأنها رحلة مسافر إلى بلاد بعيدة حيث لم ينطق أحدنا بكلمة وكانت النظرات نتبادلها بين الحين والأخر، وكانت تحمل الكثير من الأمور التي ترجمها كل واحد منا بدون أي صوت.

وقبل الوصول بخطوات قليلة إلى بوابة المقبرة كانت والدتي الحبيبة تتكلم بكلمات ما بين الهمس والارتفاع تمتزج بحروفها الدموع، والبكاء:" آه يا حبيبي ..آه يا حبيب قلب أمك ..كم كنت تسير بهذا الشارع منذ زمان فهل كنت تعرف يوماً أن قبرك سيكون هنا ؟؟!..آه يا حبيبي ..كيف أنساك وأنت في قلبي...؟1".

في ذلك الوقت حاولت أن أذكرها بأن تستغل هذه الأوقات والزيارة للدعاء له وقراءة القرآن الكريم. وما إن دخلنا المقبرة حتى عجزت كلماتي عن المواساة إلا أنني حاولت أن استجمع ما يمكن استجماعه من قوة لنبدأ بتحية السلام على قوم مؤمنين هم السابقين ونحن اللاحقين، وكنت أخبرها بأن هذا قبر طفل صغير حيث أن حجم القبر كان يقول ذلك، وذلك القبر عائد لعائلة الداية، وهذا القبر يسكنه شاب من عائلة عاشور و..و..و.و..و..و.... إلى أن وصلنا إلى مكان أخي وحبيبي نحتسبه عند الله تعالى شهيدا فادي. في هذا الوقت شعرت بأنني لا أقف بجوار أمي بل أقف بجوار طفلة صغيرة فقدت والدها وهي تبكي بحرارة جعلتني أتمنى في نفسي بأن يكون أخي فادي"رحمه الله تعالى" هو الزائر مع أمي حتى لا أرى هذه اللحظات التي أشعرتني أن جدران قلبي يتمزق رغم علمي ويقيني أن قلبي والدتي يحبنا جميعاً بنفس معدلات الحب" اللهم صبرها وأحفظها يا عزيز يا مقتدر ياالله ".

وهذا الشعور كان يزداد بكل ثانية خاصة حينما كانت تنطق أمي "ادعو الله تعالى أن يحفظها" وهي تبكي وتقول:" لم أنساك يا حبيبي وكيف لي أن أنساك يا حبيبي ..الله يرحمك.. أنا مسامحك يا حبيبي .... كنت حنون يا حبيبي....."، وكانت تنظر إلي وتقول لي "سامحي يمه ..سامحيه "فكنت أبادلها النظرات وأنا أبكي وأقول إني مسامحه من قلبي فهو حبيبي وأخي.. خاصة أنه حنون طيب القلب حنون مع من عرفه وسمع عنه و...."، وكثير ما كانت تدعو الله تعالى قائلة:" يا رب لقد وضعت فادي أمانة عندك يا الله....." وهي تردد ما تحفظه من آيات الله تعالى وتحوط بيدها القبر.

رغبت أن أردد من آيات الله تعالى فخشيت أن انطق بحرف بغير موضعه فوضعت هاتفي النقال على تراب قبره حينما بدأت آيات الله تعالى تصدر منه من سورة الحشر والرحمان، وبعض آيات سورة البقرة.

لا أنكر بأنني تمنيت في نفسي أن تكون هذه الزيارة لبيت فادي، وأن يكون له زوجة وأطفال يرحبون بزيارتنا ونلاعبهم....رغم إنني كنت في هذا التفكير قد أخطأت كثيراً فالله تعالى بإذنه قد جعله عريس لحور العين ورزقه بإذنه تعالى كرامة الشهادة إن شاء الله تعالى تكون في سبيل العزيز العليم، شاء الله تعالى وما قدر فعل إن الله تعالى على كل شيءً قدير.

هذا الأمر جعل الأيام في نفسي تمر سريعاً حيث جعل أطياف شهر أيار في أيامه تقترب من 20/5 اليوم الذي رحل في أبانا"رحمه المولى عزوجل" ..هو اليوم الذي جعل يدور في ذهني سؤال واحد رغم علمي في إجابته ماذا كان سيفعل أبي إن كان على قيد الحياة يوم استشهاد حبيبه فادي؟؟؟؟؟؟؟ سؤال صعب جدا خاصة أنا فادي طفله ونجله الذكر الأول، وهو شبيهه فكل من كان يسأل من يشبه فادي فكانت الإجابة بسرعة يشبه والده. بعد هذا السؤال أقول في نفسي لقد رحل

أبي ليكون الفارق بين رحيله ورحيل فادي 10 سنوات ليجمع بينهما الرقم تسعة، فأبي الحبيب رحل في عام 1999م ، وأخي رحل بعام 2009م. كما أن التوافق لكم يكن في الرقم تسعة فحسب بل أن أبي رحل بعد أن عاش سنوات في بغداد العاصمة العراقية وعاش فترة الحصار والتهديدات الأمريكية بضرب العراق، كما عاش أخي في غزة أثناء حصارها والتهديدات المتوالية في ضربة موجعة من قبل الاحتلال الإسرائيلي على غزة وعاش بالوقت ذاته تنفيذ هذه التهديدات ليتلقى جسده هذه الضربة الموجعة ليرحل عن محبيه وكل من عرفه في 14/1 من العام الحالي، العام الذي أتمنى أن يرحل بسرعة فقد كان عام حزين حمل في قلبي وقلب كل من عرف حبيبي فادي الحزن وألم الفراق الذي كثيرا ما أحاول الاحتفاظ به لكن القلب ينطق قبل أن ينطق اللسان عن ذلك خاصة حينما يحاول أن يجمع بين قبري أبي في بغداد وأخي في غزة...فوداعا أبي الحبيب ...وداعاً أناملك الحنونة ..وداعاً ابتسامتك الحنونة ..وداعاً أبي ..وداعا أخي ..وحبيبي فادي ...وداعا...يا حنان يا منان يا واسع المغفرة ..اغفر لأبي وأخي وارحمهما واعف عنهما وأكرم نزلهما ووسع مدخلهما وأملأ قبرهما بالرضا والنور والفسحة والسرور، وأنزلهما منازل الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. ربنا افرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين..اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين ...."ربنا وتقبل الدعاء".