كلمة في تأبين العالم أبي الحسن الندوي
كلمة في تأبين العالم أبي الحسن الندوي
عبد الله الطنطاوي
"نصّ الكلمة التي ألقاها الطنطاوي في حفل تأبين العالم الرّبّاني الأديب الكبير أبي الحسن الندوي (رحمه الله) الذي أقامته رابطة الأدب الإسلامي العالمية في الأردن، بالتعاون مع مجمع اللغة العربية الأردني، وفي مقرّه في عمان في 1/3/2000"
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه، والحب والتقدير والتحيّة لكل من والاه، وبعد:
أيها الأخوة الأحبّة.. أيتها الأخوات الكريمات. يطيب لنا التحدّث عن صاحب هذه الذكرى، العالم الربّاني، والداعية الحكيم الرمز: أبي الحسن علي الحسني الندوي، تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه.
والحديث عن الفقيد ذو شجون وشؤون، فعن ماذا يتحدّث المتحدّثون في هذه الدقائق المسرعات الخُطا؟ عن مناقب أبي الحسن؟
عن زهده الذي بلغ به شأواً ندر فيه الأكفاء في هذا الزمان، على كثرة من عرفنا من الدّعاة الرجال.. فلم تر قطُّ عيني في مثل زهده إلا لدى شيخنا العالم الربّاني سعيد الطنطاوي، مدّ الله في عمره وبارك..
فقد كان الندوي أزهد الناس بما في أيدي الناس، وبما في جيوبهم، وألسنتهم، زهد في المال، كما زهد في الجاه والمنصب، وفي سائر مفردات حطام هذه الدنيا التي يقتتل حولها الناس.
أم نتحدث عن علمه الجمّ الذي برز في عشرات الكتب، ومئات الدراسات والمباحث المنثورة في سائر أرجاء عوالم القراءة خاصة، في الصحافة العربية والإسلامية والعالمية الأخرى.. فقد كتب الشيخ في الأدب، والفكر، والتاريخ، والتراجم، وتاريخ الحضارات، وفي العبادات وسواها..
ولكنّ هناك علماء وأدباء ومؤرخين ومفكّرين يملؤون الدنيا بضجيجهم، ويشغلون الناس بطروحاتهم، فما الذي يميّز أبا الحسن من أولئك؟
إن الذي يميّز أبا الحسن، هو العمل بما علم، وتعليم الناس ما يعلم، بقلب حي، وذهن متوقّد، وعقل يراقب الله في كل ما عقل ويعقل، وبرأس شامخ بالإسلام، آلى ألاّ يطأطئ إلا لله، وبروح سبوح في ملكوت الله، فما يُعلّم لدنيا، بل لدين وأمّة، عاش لهما، وعمل من أجلهما، فكان بذلك، أحد أمراء الدعاة في عصره، وكان القدوة العملية لكل من يريد أن يدعو إلى الله على بصيرة، على علم ينمّيه العمل الصالح ويطهّره ويزكّيه.
لقد كان أبو الحسن مفكّراً إسلامياً من طراز فذّ، تفتّش عنه في وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، فلا تكاد تجده.. تقرأ أسماءً، وتفتقد أسماء، والندوي من بين من تفتقد، أمّا السبب والأسباب، فاسألوا عنها أهل الإعلام، والمطابخ الإعلانية، وبيوتات الديكور والأزياء وصناعة العلماء والأعلام والأدباء..
وسقى الله أيامك الخوالي، يا ظئر العروبة والإسلام يا دمشق، فقد عرّفتنا على رجالات هذه الأمة وعظمائها، يوم كنتِ قلب العروبة النابض بالشموخ، موئلاً للأحرار، وملاذاً للمجاهدين الأبرار، وبيتاً دافئاً للمهاجرين في سبيل الله والحرية، وواحة للعلماء العاملين، يرتادونك من كلّ حدب وصوب، فاحتضنتِ -فيما شهدناه في صبانا- مفتي فلسطين، ومجاهدها الكبير الحاج أمين، ومحي الدين القليبي، والبشير الإبراهيمي، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، والجواد الطاهر، والإمام المودودي، والشهيد نواب صفوي، وعشراتٍ غيرَهم، واستمعتِ إليهم، وإلى المحتفى به اليوم، أبي الحسن الندوي.. عرفناهم في الخمسينيات من القرن الذي فات، وتابعناهم، وخدمناهم وأفدنا الكثير الكثير منهم..
أمّا أبو الحسن، فقد عرفناه بحركته الهادئة الوقور، ولكنها دؤوب، عندما جاء دمشق ليحاضر في علمائها وسياسييها ومفكريها، الذين كانوا يحضرون محاضراته في جامعة دمشق، وفي كلية الشريعة فيها، إلى جانب الطلاب، ومنهم ناس كبار: كالسباعي والزرقا والمبارك والدواليبي والأميري، وقسطنطين زريق، ويوسف العش، وعبد الوهاب حومد، وسعيد الأفغاني، وأمجد الطرابلسي وبهجت البيطار، ونمر المصري، وأحمد مظهر العظمة، وكفتارو ومحمد علي ظبيان، وأحمد الدقر، وعبد الرؤوف أبو طوق... وسواهم.
جاء ليحاضر في كلية الشريعة، فحاضر فيها، وحاضر في مراكز الإخوان، والجمعية الغراء، وسواهما من الجمعيات والمحافل الثقافية..
وما كان يصرف لحظة من وقته في غير فائدة..
وكان يولي الشباب عناية فائقة، ويهتمّ بهم، فيستجيب لهم إذا دعوه إلى سهرة، ويستقبلهم في النُّزل الذي ينزل فيه، يؤاكلهم، ويسامرهم، وأكلُه معهم دعوة، وسَمَرُهُ معهم دعوة، وليس له معهم إلا الدعوة ولا الكيفية التي يجب أن يكون الدعاة عليها، كما يتحدث معهم في أمور المسلمين، وما يعانونه من ويلات، ويبثّ فيهم الأمل في إمكانية النهوض، وإزاحة صخور التخلف والانحطاط عن القلوب التي آضها طول السُّرى في حوالك الليالي، وعوابس الأيام..
كان يشرح لنا نحن التلاميذ من طلبة المدارس الثانوية عام 1956 كان يشرح لنا أمراض الأمة، وضعف أخلاق الرجال، وانهيار القيم أمام سلطان المال والشهوات، ويأسى لتكالب العلية على الدنيا، وتفريطهم بحق البلاد والعباد، ويتمعّر وجهه وهو يتحدث عن تخاذل العرب، وتخلّيهم عن رسالتهم العالمية، ودورهم القيادي في مسيرة الحضارة، ويحزن لانصراف الشباب عن معالي الأمور، وتعلقهم بسفاسفها. ويقول:
- المعوَّل عليكم يا شباب، في تحرير فلسطين، وطرد الاستعمار، وتحرير العقول من وثنيات الجاهلية الجديدة، والقلوب من التعلّق بمظاهر الحياة المادية، وهذا لن يكون إلا إذا كنتم رجالاً.. رجالاً.. والرجولة إيمان وأخلاق، وبطولة ونخوة، وشهامة ومروءة، وشجاعة وكرم.
ترى.. هل بقي شيء من الوقت لأقف وقفة قصيرة أمام همّ آخر من هموم هذا الرجل العملاق؟.
يقول الندوي:
"منذ أن تطورت فيّ القدرة على الكتابة، والخطابة، والدراسة، كرّست ما كنت أملكه من قدرة محدودة للتعبير، وما توفّر لي من وقت على قضايا العالم العربي، وكانت الأمة العربية والدول العربية مجال عملي، وشغلي الشاغل، وموضع دراستي وخطابي."
ويستعير من الشاعر العظيم إقبال قولَه:
"إن كان مزماري عجمياً، فإن ألحانه عربية، ونغمي عربي".
ولهذا كان يخاطب العرب حيث حلّ، بما دعاه الدكتور القرضاوي (اسمعيات).. اسمعي يا مصر، اسمعي يا سورية، اسمعي يا كويت.. أقدّم نموذجاً منها:
يقول في أولاها:
"احرصي -يا مصر- على رجولة أبنائك وأخلاقهم، وصوني شبابهم وشرفهم، ودينهم وصحّتهم، من أن يعبث بها العابثون، أو يتّجر بها المتّجرون، ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق، ويحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لتروج بضاعتهم، وتزدهر تجارتهم.. أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة، والصور العارية، والأدب المكشوف..
كافحي -يا مصر- الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمّة، وطاردي كلَّ من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك، إنّ العالم العربيّ قد أحلّك من نفسه محلاً رفيعاً، ووضع ثقته فيكِ، فلا تصدّري إليه من أدبك وموضوعاتك ما يرزأه في إيمانه وأخلاقه..
إنّ هذه الروايات الخليعة، والأدب الماجن، أفسدُ وأضرُّ بالأمّة من الحبوب المسمومة، والفواكه الموبوءة.."
وهذا نموذج آخر قدّمه من الإذاعة السورية بعنوان: اسمعي يا سورية، شرح فيه سرَّ مجدها الغابر. وأنها شملت الجزء الكبير من العالم، بعطفها ورحمتها وظلالها الوارفة، وكيف تستعيد الآن هذا المجد، وأن الشعوب لا تتبوأ منصب الحبّ والعزّة والكرامة باللغات والآداب والمدنيات والقوميات، بل إنها تتبوأ هذا المنصب برسالاتها، ودعواتها الخاصة، وأهدافها الصالحة، وخدماتها المخلصة للإنسانية البائسة، وأن على الشام أن تجاهد لها. 1/ 260
هكذا كان هذا الإمام الربّاني في سائر أحواله، في حلّه وترحاله، شخصية عامة، عربيّة إسلامية، وإنسانية عالميّة، من جيل العمالقة، من البقايا الذين تحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، ولن يكون آخر العنقود في تلك السلسلة الذهبية: الأفغاني، وعبده، ورضا، والبنا، والمودودي، والنورسي، والسباعي وسيّد ومحمد قطب وسواهم من عمالقة الفكر الإسلامي الحديث، والحركة الإسلامية الحديثة.
أيها السادة والسيدات:
عرف الندوي أمراض المسلمين، وأسباب انحطاطهم وتخلّفهم عن ركب الحضارة، وفكّر في الحلّ الذي ينتشلهم من الوهدات السحيقة التي تردّوا فيها، ووجدها في استئناف الحياة الإسلامية، بتمثل الإسلام شريعة وأخلاقاً، ومنهج حياة، وهذا لن يكون بغير التربية النظرية والعملية، وهذا لن يكون إلا بتربية الأجيال الجديدة على الإسلام، واعتمادها في المدارس بشكل خاص، ودعا في محاضراته إلى وجوب نشر الدعوة بين طلبة المدارس عامة، والدينية خاصة، وبيّن الأخطار التي تهددها وتهدد مستقبلها فيما لو اقتصرت على التعليم فقط، وانطوت على نفسها، ولم تتصل بالشعب، ولم توقظ فيه الشعور الديني.
كان يأمل أن تكون الأجيال القادمة خيراً من الجيل الذي يعايشه،، فيما لو رُبيّت على الإسلام، وأنها سوف تفرض على الدنيا إنسانيتها ومبادئها، ولا ترضى لنفسها هذا الخنوع الذي نحن فيه..
ولهذا عمل لتربية الأجيال المتوالدة، وكتب للأطفال والفتيان والفتيات، محاولاً صياغة أذهانهم صياغة جديدة تمهيداً لإيجاد مجتمع إسلامي يجذب القلوب، فترنو بأبصارها إلى مستقبل تكون فيه قادرة على التصدّي الحقيقي، لا الإعلامي، لمن يحسبون أنهم سادة الدنيا، وجبابرتها، وهم لصوصها، وسفلة السفلة فيها..
وهذا لا يتأنّى إلا بإحداث انقلاب في الحياة والسلوك والأخلاق.. إلا بصياغة حياة المسلمين صياغة إسلامية، وسكبها في بوتقة التعاليم الإسلامية السمحة.. وإلا بإعادة الإيمان بصدق الإسلام، وبكونه منهجاً أبديّاً للحياة، وإلا بالدعوة إليه، واتّباعه في الحياة، وإلا بإيجاد الحماسة المتقدة والعاطفة المشبوبة له في القلوب.. وإلا بإنشاء البيئة الإسلامية التي تكون قدوة تُقتدى، ومثالاً يحتذى، في هذا العالم المضطرب القلق، وللإنسانية المعذّبة المضطهدة اضطهاداً ليس له مثيل في التاريخ...
والندويُّ الربانيّ الحكيم، يحاول إشاعة الأمل في نفوس قرائه، وتلاميذه، والمستمعين إليه بإحسان، إشاعة الأمل في نفوس الصغار والكبار، وفي نفوس المُتْعَبين والمحبطين من العلماء ودعاة الإصلاح، كما في نفوس المنفتحين على الحياة، والخائفين، والراكضين، والمتوحّلين، في شِراك الماديّة الطاغية.
يا سادة.. أيتها السيدات.
الحديث عن الندوي طويل طويل، وأدعو الدارسين أن يقدّموه إلى الناس داعية حكيماً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حكيماً مع العامة، حكيماً مع طلبة العلم، حكيماً مع الخاصّة، حكيماً مع العلماء، حكيماً مع الحكّام، حكيماً مع الحركات الإسلامية، حكيماً مع العلمانيين. وبسبب من حكمته هذه، سلم عرضه من الألسنة التي لا ترعى إلاّ ولا ذمة فيمن تنقد، وأن يدرسوه أديباً ذا أسلوب رائق فصيح، فهو من بقايا الفصاح في هذا الزمان.. وذا خيال خصب، يقرّب به الحقيقة التي يريد أن يتحدث عنها، وليس تهويمات طائرة في الفضاء.
وأن يتحدثوا عنه مفكراً، ورحّالة، ومترجماً.، ومؤرخاً، وصاحب تراجم وسير.. وصحفياً، ودارس حضارات.. ولكن.. من يجرؤ على الكتابة عن قلبه الحيّ، في زمن موات القلوب؟
بقي -أيها السادة والسيدات- الندوي الرمز.. فهو رمز للعالم المسلم الحقيقي، وللأديب الإسلامي المتميّز، ورمز للفكر الإسلامي، وللمفكر الإسلامي، وهو رمز لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، التي فقدت بفقده من لا يعوَّض، في زمن نحن في مسيس الحاجة إلى الرمز.. إلى المرجعية.. بعد أن فرّغوا الأزهر من محتواه، ونزلوا به، وبعد المحاولات الحثيثة لإجهاض الحركات الإسلامية بعزلها عن الحياة، وحرفها عن رسالتها، والإساءة إلى رموزها، وتجريح الأحياء منهم والأموات.. لابدّ من الرمز المجدّد، ليكون القدوة الحيّة العاملة، وحتى لا نبقى قلقين. في انتظار نائب بريطانيّ، يقود حملة لرفع الحصار عن شعب العراق البائس المظلوم.. والسلام على أبي الحسن في الخالدين..
وعليكم في الأحياء العاملين ورحمة الله وبركاته..