صفحة من حياة محمد المجذوب
صفحة من حياة محمد المجذوب
بقلم: محمد الحسناوي
عرف المرحوم محمد المجذوب شاعراً وقاصاً وكاتب مقالات وتراجم، وهو في الوقت نفسه مصلح اجتماعي في حاله ومقاله، لكنه لم يعرف ممن نظموا الشعر الحر "شعر التفعيلة" أو أسهموا في التأصيل العروضي له.
في
مطلع حياتي الأدبية كنت أطالع مجلة (الآداب اللبنانية)، وأتابع على صفحاتها المعارك
الأدبية لا سيمــا
بعد مضي سبع سنوات من هذه الواقعة الأدبية عملت مساعداً للمرحوم أستاذنا الدكتور مصطفى السباعي في إدارة تحرير مجلة "حضارة الإسلام"، واستشرت الأستاذ المجذوب في فتح مجال للأعمال الأدبية وللسجال النقدي حولها فحذرني من مغبة الخصومات والإسفاف وما ينشأ عن تلك "الآفة" التي ابتليت بها مجلة "الآداب" على حدّ قوله، وشعرت بأن المرارة ما تزال تلقي ظلها على الأستاذ المجذوب من تلك المقالة البلقاء.
ماذا قال المجذوب وماذا قال الحلي:
في مقدمة مقالة المجذوب اعتراف بضغوط القيود العروضية على الشعراء منذ الشعر الجاهلي، وقد استغل هذا الضغط في عصرنا حتى انبثق "هذا اللون من الشعر الذي يسمونه الشعر الحر.." كما تناول المجذوب هذه المسألة في أحاديثه الإذاعية ومقالاته في مجلة (الأديب اللبنانية) وفي لقائه بالشاعر عمر أبي ريشة الذي أكد على أهمية "القافية، التي يعتبرها الشاعر أبو ريشة ضرورة فنية لا مناص منها" وظلت تعاوده هذه الفكرة لا سيما مع ظهور "بحوث حول الموضوع، ونماذج كثيرة من الشعر الجديد، لعل أبرزها ما كان من شعر شباب العراق.." "وبدلاً من أن أعمد إلى تفصيل ما أراه من الموضوع، أجدني مدفوعاً إلى معالجته عملياً بهذه المنظومة، التي أوحت بها إليّ فاجعة (قبية) الشهيدة"، وقد أجمل المجذوب ضوابطه المقترحة للتعديل الضروري في الشعر المعاصر بما يلي:
1 - تحرر من قيود البحور بالدرجة الأولى، والتزام التفاعيل.
2 - القافية، كقرار موسيقي، تشكل الوقفة الأخيرة في الوقفة الشعرية، لكنها لا تفرض نفسها في نهاية عدد معين من التفاعيل، وبهذا نتجنب الفوضى، التي يثيرها عدم الالتزام (لخطّة ثابتة في القافية) مما عدته الشاعرة نازك مأخذاً على الشعر الحر.
ويحتج الأستاذ المجذوب بالإضافة لرأيه ورأي الشاعرة الناقدة نازك الملائكة.. برأي "الأستاذ مصطفى سويف" من حيث اعتبار المقطع الشعري -قلّ أو كثر- من القصيدة (مجموعة متكاملة.. لها من التماسك الداخلي ما يجعلها تبدو للشاعر وحدة لا يمكن تجزئتها..(1)" "ولأن الشاعر لا يبدع القصيدة بيتاً بيتاً، بل قسماً قسماً.. في شكل وثبات.. في كل وثبة تشرق عليه مجموعة من الأبيات دفعة واحدة(2)".
3 - يراه طيّعاً لضروب الشعر الغنائي، طواعيته للقصص والملاحم والنوع المسرحي، ولعله أكثر انقياداً للضربين الأخيرين..
4 - هذا النوع من المنظوم لا ينزلق في هاوية الشعر المرسل (المنسلخ من القافية) ولا تفوته حسنات الشعر المرسل "تتذوق فيه النغم منساباً إلى قراره الأخير، القافية".
5 – "من الإسراف في الخطأ أن نحصر مفهوم الشعر في قيود العروض الموروثة وحدها"..
والجدير بالذكر أن الدكتور مصطفى سويف هو مؤلف كتاب "الأسس النفسية في الإبداع الفني – في الشعر خاصة", وهو كتاب يعتمد على مجموعة من الشهادات أرسلها إلى المؤلف عدد من الشعراء، كان من بينهم الشاعر محمد المجذوب نفسه..
أما علي الحلي فلم يلتفت إلى مقالة المجذوب، بل اتجه إلى قصيدته المصاحبة: (آه لو تنفع آه) كما أنه لم يلق بالاً لعروضها الجديد – وهو موضع الشاهد بحجة إيمانه: "بأن التجديد في الشعر العربي الحديث ليس منصباً على الشكل الظاهري للعمل الفني.. قدر انصرافه إلى الجوهر" وإيمانه (بأن الشكل والجوهر لا يتجزآن، ولكني أرى، أن وراء هذه الفورة الصاخبة من شعر أكثر شباب العراق غولاً مخيفاً، قد يحدق في يوم ما بالشعر باسم التجديد الحر، ليلقيه في مهاوي الضلال، في بحران من الفوضى والانحلالية والتسيب" وهو ما يخشاه الشاعر محمد المجذوب نفسه. وهكذا خلص الحلي للحديث عن مضمون القصيدة (آه لو تنفع آه) ليسميه (رثاء) "قاصداً المعنى الكلاسيكي القديم.. وكنت أرجو أن يقدم لنا تجديداً في الجوهر الرثائي وطريقة تناوله الموضوع، مثل محاولته في التجديد الظاهري، لكيان العمل الفني في الشعر" وضرب مثلاً للتجديد "أن يخلق جوّاً من الانفعالات النفسية المنتجة، محفزاً طلائع البعث الجديد للانتقام من الاستعمار وزبانيته، والثأر للوطن الذي لوّثه العار اليهودي كيما تنطلق شرارة الحرية والاشتراكية والوحدة العربية.." "ولكنه أخفق إلى درجة بعيدة، وطلع علينا بروحه في القصيدة.. نواحاً.. بكاءً".
بصرف النظر عن تجاوزات الحلي- إهماله المقالة وعروض القصيدة الجديد- فإنه لم يفهم أو أساء فهم مضمون القصيدة الذي سماه "رثاء أو نواحاً" ذلك لأنه لم يفطن إلى ما وراء المعاني والأفكار "لازم المعنى" لأن الأدب الراقي والفن الجميل ليسا عملاً مباشراً، بل إن الانطباع الأخير الذي يخلفه العمل الفني في نفس المتذوق أو المتلقي هو الحكم، كما يرى كبار النقاد، فمسرحية شكسبير "عطيل" كانت خاتمتها انتصار الشر على الخير، حين يقتل (عُطيل) زوجته (البريئة الجميلة ديدمونة) بدافع الغيرة التي أشعلها مكراً الشيطان (ياجو) الذي بقي حياً في نهاية المسرحية أمام جثة ديدمونة وعطيل، والهدف الفني من انتصار الشر في هذه المسرحية، هو التحريض على إثارة النقمة في نفوس المشاهدين والقراء للمسرحية، فما غرض المجذوب من (رثاء) قبية الشهيدة إذاً؟ إن اللحن الحزين الباكي في رثاء أبي البقاء الرندي للأندلس سبب من أسباب جمالها وخلودها:
حـتى المحاريب تبكي وهي جـامدة حـتى المنابر ترثي وهي عيدانُ
لمثل هـذا يذوب القلب مـن كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان
إن التجديد لا يلغي المشاعر الإنسانية، ولا ينفي الموضوعات والأغراض القديمة كلها مثل الرثاء الصادق، قد يكون الاختلاف حول رثاء مؤثر أو رثاء بارد، بين رثاء دافع إلى العمل وبين رثاء مثبط مثلاً فكيف كان رثاء المجذوب؟
عنوان القصيدة (آه لو تنفع آه) يعدّ مفتاح القصيدة، وهو يحتل السطر الأول من المقطع السابع قبل الأخير من القصيدة، ويحمل دلالة إيجابية حين يأسف من سلبية النواح، وأن كلمة (آه) لا تنفع! وبهذا المصباح يحسن أن نرى أجزاء القصيدة وقد استنارت بانتقاد النواح، وعدم جدواه، يضاف إلى ذلك بعد تصوير تفاصيل المأساة الفاجعة ما أورده الشاعر:
1 - من تعريض بحماة الدار وبمشيئة "جنبول":
وحماة الدار –يا للعار- في نوم السكارى
لم تفُت أسماعهم تلك النداءات.. ولكنْ..
شاء "جنبول" فصمُّوا عن صريخ الأبرياءِ
2 - واستنهاض الهمم والتذكير بالمجد البطولي الغابر، والإشارة إلى الطريق المطلوب:
أين أشبالُ الميامين.. هُداة العالمينا
أين أحفاد عليّ والمثنّى.. وبقايا العز والنخوة فينا
مسخ الجبْنُ سلالات الأسود
فاستساغوا الصفع من أيدي اليهود
واستهانوا بمواريث الإباءِ
3 – دعوة غير مباشرة إلى الثأر من خلال الإلحاح على فضح الجبن والدعاوى الكاذبة:
بُحّ صوت الحق.. والآذان دون الحق صمُّ
وتلاشت أنة الأشلاء في سمع الرمالِ
وتوارى أمل الثأر.. فلا خير بأشباه الرجال
عجزوا.. إلا عن التمثيل والقول الهراءِ
في هذا السطر الأخير تتجلى السخرية التي سبق للشاعر أن وقع عليها في مقاطع سابقة "وحماة الدار – يا للعار – في نوم السكارى" "لم تجد قبراً يواريها.." "فاستساغوا الصفع من أيدي اليهود" وتبلغ القمة في المقطع الأخير:
لستِ يا قبية في الأيتام بِدعا
كلنا في وحشة اليتم وفي الثكل سواءُ
سبق السهم فأرداكِ
وها نحن على إثر خطاك
غير أنّا نجهل الموعدَ، والمجهول يا قبية سلوى الضعفاءِ
فاعذرينا ودعينا نرتقبْ في أملٍ يوم اللقاءِ
فعلي الحلي لم يفطن إلى (معنى المعنى) الذي عناه الشاعر المجذوب، وهو التنديد بالضعف والاستسلام للواقع الذليل الذي هو خيار الأغلبية الصامتة بالإضافة إلى نوم "حماة الدار" و"مشيئة جنبول" مثل هذا النهج الفني الجميل متداول قديماً وحديثاً، وكان المسار المختار في قصيدة "خبز وحشيش وقمر" للمرحوم نزار قباني، فكيف نفطن له هناك، ونتعامى عنه هنا؟
يترك الناس الحوانيت ويمضون زمر
لملاقاة القمرْ
يحملون الخبز والحاكي.. إلى رأس الجبال
ومعدّات الخدر..
ويبيعون ويشرون خيال
وصورْ
ويموتون إذا عاش القمرْ(3)
إن تاريخ النقد الأدبي اليوم يسأل أسئلة تحتاج إلى أجوبة شافية: لماذا لم يرد الأستاذ المجذوب على (علي الحلي) في مجلة "الآداب" التي تعنى بباب "المناقشات" فيها. هذا أولاً. وثانياً: لماذا انقطع المجذوب عن نظم الشعر الحر وعن التأصيل له ولعروضه؟ قد يكون الجواب أو بعضه في أن الرجل غلب عليه الإبداع من شعر وقصة ومقالة ومسرحية، وقلّ نصيبه من النقد، نتيجة لمعادلته الشخصية، أو لنشأته الأدبية العصامية التي لم تأخذ بالدرس الجامعي التقليدي، وبالمناسبة أذكر واقعة معبرة عن تعامل الرجل مع مخالفيه، حينما عمل في جماعة إسلامية نشأ خلاف بينه وبين بعض الأفراد، فرفع الأمر إلى أولي الشأن، وكان حكم أولي الشأن في إنصاف المجذوب، ورد الدعوى ضده، وحين عرضتُ على سمعه بعض كلام مخالفيه تمثل قائلاً:
إذا رضيتْ عني كرامُ عشيرتي فلا زالَ غضباناً عليَّ لئامُها
سوف يذكر تاريخ النقد الأدبي جهود محمد المجذوب في التأصيل لشعر التفعيلة، فتخوفه من (الفوضى) التي تخوفت منها نازك الملائكة، كان في محله، فقد انتهى كثير من هذا الشعر إلى أبواب مسدودة، كما أن "الحرية المنتظمة" التي اقترحها هي التي غلبت على النماذج الشعرية الناجحة. هكذا جاءت غنائيات القباني ومسرحيات الشرقاوي وعبد الصبور وبسيسو وأمثالهم.
(1) الأسس النفسية للإبداع الفني - في الشعر خاصة- د. مصطفى سويف ط1 – ص 246.
(2) المرجع السابق – ص 248
(3) قصائد من نزار