كلمة السيدة رفيدة الزرقاء
كلمة السيدة رفيدة الزرقاء
"فيما يلي نص الكلمة التي ألقتها السيدة رفيدة الزرقاء في فرع رابطة الأدب الإسلامي في عمان، وذلك ضمن الندوة المخصصة عن الأستاذ مصطفى الزرقاء وعلي الطنطاوي ومحمد المجذوب رحمهم الله جميعاً."
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم.. طبتم وطاب ملتقاكم..
أدعـو قبـور أحبائـي لتسمَعنـي وهل تجيب دعاء الثاكـل الحُفــرُ
ظمـأى ويندى ثراها لوعة وهوى إذا ألـمَّ بها مـن غُربتـي خبــرُ
أحنـو على كل قبرٍ من قبورهـم أبكيهِ.. حتى بكى من لوعتي الحجرُ
لا أريد أن أكتمكم بأنني تساءلت بيني وبين نفسي ماذا عسايَ أن أبث المحبين لوالدي -وهم كُثر- ولله الحمد..
وإنهم لمن ذوي المقام والبيان، والحَوْل والطوْل، والكرامة.. فاستقرّ بي الرأي على أن أذكر جانباً من خصوصيته معي، ذلك أن جوانب شخصيه الأخرى المتعددة تناولها ويتناولها إخوة صِيد غطاريف..
أذكر أنني عندما كنت في مراحل دراستي الأولى طلبتْ منا المدرّسة أن نشتري قاموساً ليكون مرجعاً لغوياً وتثقيفياً للطالب، فأجبتها -آنذاك- بعفوية، واندفاع:
- أنا لا حاجة بي لشرائه فـ (بابا قاموس كبير).
وما زلت أذكر كيف غالبت مدرّستي ابتسامتها وأردفت:
- ومع ذلك فلا غنى لك عن (القاموس الصغير)..
كانت المناقشات والمحاورات (زميلة) لحياتنا اليومية ولطعامنا وشرابنا.. عندما كنتُ أزوره في عمّان وقد باعدت بيننا المسافات ثم عندما أقمت عنده في الرياض في سنواته التسع الأخيرة، فمهما اختلفنا في بعض الآراء، أو الاستنتاجات -وأشهد بأنه كان أباً ديموقراطياً في هذه الخصلة المميّزة- كان يجمعنا (الاتفاق الحتمي) عندما ينتهي بنا المطاف إلى دوحة الأدب.. ودوحة الأدب هي الدوحة التي لابدّ منها، بل لا مناص من أن نفيء إليها مهما كانت طبيعة المواضيع التي كنا نتجاذبها.. وكلانا -الوالد رحمه الله وأنا- تُردّ إلينا العافية.. وتغشانا متعة روحية علوية رائعة رائعة.. تُذيب جليد الأعماق.. وتهدهد الفكر والقلب، والجسم والوجدان..
كنا (نتصافى) ونهنأ في مجلس العلم والأدب ذاك..
وكنت إذا ما أردت منه مطلباً أحاول أن أستنجد بذاكرتي لتسعفني، فأستشهد له بشاهد من شواهد فنون الأدب المتنوعة وأقول محدّثة نفسي: ربما هذه هي الطريقة الأليق، والأمثل.. وربما الأكثر جدوى لمن هو في مثل نباهته وتوقّده ودقّته، وعبقريته اللغوية، وطربه للكلمة المناسبة في المقام المناسب.. ومع ذلك فما كانت ذات جدوى مومّلة وساطتي الأدبية تلك... مقابل ذلك كنا إذا ما تساجلنا في أمر وأراد أن يخصمه معي، كان لإدراكه -كأب- بولعي الأدبي هذا وبأنني أوخذ بالكلمة الرائقة، وبالحرف المضيء، وبأنّ فيه مقتلي الذي ارتضيته، وأستعذبه... كان يرشقني بالعذب المصفّى من جعبته ذات النبع الجموم.. فكنت أشرب عللاً بيد نهل على هذا المنوال من رحيق أحاديثه، ومنوعاته التي لا تنتهي.. وتمتدّ.. وتمتدّ..
من يَعُلُّ النديّ بعدك بالشهــ ــد المصفّى ومن يسدّ الفتوقا
ولـك الطرفة المليحة تـغنـي عـن نقـاش وتسكت المنطيقا
كانت فصاحته -رحمه الله- تسحرني..
وكان إلقاؤه يشدهني..
وكانت طريقته في الاستقصاء للاستدلال والاستنتاج، والتعليل والتبرير تبهرني..
وأنا لا أريد أن أغالي في ذلك فهو -رحمه الله- بشرٌ تحتمل آراؤه الخطأ والصواب.. فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة..
كانت والدتي -وطفاء- رحمها الله، مولعة بالأشغال اليدوية، وكانت إذ ذاك ستباشر بتطريز لوحة جدارية تمثل (قاعة الأسود في قصر الحمراء) في أندلسنا.. فأشار عليها الوالد بأن تزينها بأبيات شعرية، تطرّزها فتكون من مكمّلات المنظر، وهي لشاعر أندلسي يرثي فيها أمجاد الأجداد.. فتصبح اللوحة متكاملة الفن، لمن يفقه هذا الإنجاز الرفيع.. ولما لم يستطع -رحمه الله-- أن يستذكر أو أن يحصل إلا على البيتين الأولين.. ما كان منه إلا أن نظم البيتين الثالث والرابع..
والأبيات التي أصبحت أربعة هي:
وقفتُ بالحمـراء مستعبـراً مـعتبراً أنـدب أشـتاتـا
فقلت: يا حمرا ألا فارجعي قالت: وهل يرجع من ماتـا
ضيّعني أبنـاءُ من شادنـي هيهات قد فات الـذي فاتـا
كأنما آثـار مـن قد مضوا ثـواكـلٌ ينـدبن أمـواتـا
في إحدى جلساتنا القريبة العهد قلت له:
لقد قرأت لأحدهم بأنه جمع أولاده وقال لهم مخاطباً:
"لقد أحسنتُ إليكم حتى قبل أن تولدوا..
قال له أولاده:
وكيف؟ فأجابهم:
لقد تخيرتُ لكم أماً تزهَون بها وتفخرون، ولا تحقّرون.. فهذا إحسان مني إليكم بعد إحسان الله علينا جميعاً.."
حمداً لك اللهم، ثم الحمد، مثنى وثلاث ورباع بأن تفضلت علينا وأكرمتنا، بأمّنا وأبينا..
أحبّتي كلمـا غامـت طيوفهـم هتفتُ لا تبعدوا عني.. وقد بَعدوا..
تطوف عينُك في الزوار سائلـةً عن الحبيب الذي ولّـى وتفتقــدُ
يدعو فتُفتـح أبوابُ السمـاء له ويمسحُ الدمعتين الواحـد الأحـدُ
ولا حول ولا قوة لنا إلا بك يا رباه.
رفيدة الزرقا