ثلث قرن في ثلث ساعة
بقلم: عبد الله الطنطاوي
"نص الكلمة التي ألقاها الأديب عبد الله الطنطاوي
في حفل تكريم الدكتور عماد الدين خليل"
بسم الله الرحمن الرحيم
(وعنت الوجوه للحيّ القيوم، وقد خاب من حمل ظلماً)
الحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه، ومن اهتدى بهداه، واتخذ منه قدوة له في هذه الحياة، فاستقى من ذوقه الرفيع مادة لسلوكه، يفيض منها الذوق المحمديّ، والحكمة الإسلامية في القول والفعل، وفي الجدّ والهزل، وفي النصح والوعظ، لأنه يستقي من الإنسان الكامل الذي لقي الألاقي ممن رُبّوا على الخشونة، ومردوا على الجفاء أو النفاق، فعالجهم بخلقه القرآني السامي، حتى جعل من بعضهم بشراً أسوياء، وأبى الآخرون إلا أن يكونوا حصب جهنم.
نحن اليوم -أيها الإخوة- نحتفي بواحد من تلاميذ الرسول القائد، الإنسان الكامل، صلى الله عليه وسلم، ممن أخذوا منه الكثير، في السلوك القولي والعملي، فلا تندُّ منهم بذاءة في قول، ولا يشذّ منهم فعل، تجاه إخوانهم خاصّة، لأنهم عرفوا معنى قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
وما أظن عاقلاً يحبّ الشرّ، ويسعى في جلب الشرّ إلى نفسه.
ليس ما سأقوله قصيدة نثرية، إن جاز للقصيد أن يكون نثراً، في مدح الأخ الحبيب الدكتور عماد الدين خليل، أرجو عليها مثوبة منه، فقد سبقني جوده إلى ما عنده من كنوز فأتى عليها، ولم يبق لي من ذهبه سوى هذه الخلائق التي سأحدّثكم عنها بحضوره، على ترقّب وتوجّس، مخافة أن أقصم ظهر أخي بذكرها أمامه، وأنا لم أطلعه على موضوع هذه الكليمات، ولو عرف، لرجاني بدماثته المعهودة ألاّ أفعل، ولربّما حملني على ذلك، ولهذا تناءيتُ عنه منذ كلّفني الإخوة هنا في تحبير هذه الكلمة ليوم تكريمه.
كتبت كلمة لحفل التكريم هذا بعنوان: خلائق العماد، في النقد والانتقاد، أخذت مادتها من كتابه اللطيف (في النقد التطبيقي) وخلائقه في كتابه مع منقوديه، كخلائقه السلوكية مع إخوانه وأصدقائه ومعارفه، ثم بدا لي أن أتحدّث عن ذكرياتي أو بعض ذكرياتي معه، وهي كثيرة غزيرة تمتد إلى عام 1970 يوم زارنا في مدينتنا: حلب الشهباء، وما تزال، وسوف تستمرّ بإذن الله تعالى وفضله إلى جنان الخلد، وما ذلك على الله بعزيز.
كنت أقرأ ما تقع عليه عيناي من كتابات الدكتور عماد في الصحافة العربية، ومنها السورية، ثم قرأت كتابه البديع في بابه: (ملامح الانقلاب الإسلامي في عهد عمر بن عبد العزيز) رحمه الله تعالى فشدّني إليه، ووجدت ضالّتي عنده، وصرت أتلمّس الطريق إليه.
وفي أواخر تموز 1970 خرجت مع أسرتي الصغيرة إلى تركيا ومصايفها الجميلة، وبعد شهر عدت إلى حلب، وبعد دخولي إلى البيت بدقائق، قُرع الجرس، وإذا بالباب أخي الشاعر الأديب الناقد محمد الحسناوي. بادرني بهذا السؤال:
- هل تعرف مَنْ عندنا؟
قلت بلا وعي: الدكتور عماد.
سأل الحسناوي في دهشة: من قال لك هذا؟
فسألته: يعني سؤالك هذا أن الدكتور عماداً في حلب؟
قال الحسناوي: ألم تقل أنت: إنه في حلب؟
قلت: أنا وصلت إلى حلب قبل لحظات، وأنت أول من ألقاه، فهل هو في حلب؟
ابتسم الحسناوي وقال: نعمْ.. هو في حلب، جاءنا زائراً، واضطر لإجراء عملية الزائدة قبل أن يرانا، ثم سأل عنا دار الأصمعي، وأخبروني، فأسرعت إليه في المستشفى الطلياني.
قلت: هيّا إذن إليه.
ووصل صوتي إلى زوجتي مستأذناً بالخروج ثم العودة مع أخ عزيز قادم من الموصل..
وكان لقاء استمرّ منذ تلك اللحظة في غناه.
وكانت لنا في حلب صولات وجولات وذكريات، في الحديقة العامة، وحديقة السبيل، وهما من أجمل الحدائق في بلادنا العربية، أو هكذا أحسبهما ويحسبهما العماد ومن زارنا من أحبتنا من العراق، والأردن، ومصر، ولبنان، وسواها.
كنا نجلس فيهما، ونتبادل الأحاديث في السياسة والأدب، وفي قضايا العروبة والإسلام، وبنى العماد علاقة حميمة مع أطفالي وأطفال الحسناوي، وأحبّوه وأحبوا هداياه، ولكنه نفر من أم كلثوم التي كان صوتها يملأ جواء حلب، في الحدائق، والشوارع، والسيارات وسواها.. وأهل حلب، أهل أدب وفن وطرب، وهم يعشقون أم كلثوم وصوتها وأغانيها، وبعضهم من الرجال والسيدات يدندنون مع العود بأغانيها.
وكان المزعج الثاني للعماد، تلك الطقطيقات.. موتورات الحمولة ذوات الدواليب الثلاثة التي تصمّ الآذان بأصواتها العالية.. والغريب -يا أبا محمد- أني خرجت في إحدى الليالي في مدينة جنيف عام 1986 أتمشّى مع أحد الأصدقاء، وفيما كنا نحلم حول بحيرة جنيف البديعة، سمعت صوت طقطيقة من طقطيقات حلب، فأسرعت نحو الصوت، فرأيتها كتلك التي في حلب، وعجب مني صاحبي الأستاذ محمد الجراح وقال: هل ذكّرتك بشيء؟
أجبت: نعمْ.. ذكرتني بحلب، وبضيف حلب الدكتور عماد الدين خليل.
وغادرنا العماد إلى دمشق فبيروت، ومنها إلى بغداد، بعد أن اتّعدنا أن نلتقي في بيروت. وبعد عامين من هذا اللقاء غادرْنا بلدنا إلى بيروت والتقينا هناك في صيف 1972 وكان بصحبته الأخ الحبيب الدكتور نبيل خليل، رحمه الله رحمة واسعة، فقد خسرته ميادين الدعوة والعلم والأدب، وكان أحد فرسانها المجلّين.. وكنت بصحبة الأخوين: محمد الحسناوي، والأديب الأصيل المبدع إبراهيم عاصي، رحمه الله حياً وميتاً.
كنا نحن الثلاثة ننزل في بانسيون إدلائيت، في حي الزيتونة غربي بيروت، وكان العماد ينزل في فندق راق في مصيف عاليه..
زرناه في فندقه الراقي، وتغدّينا معه، وفيما كنّا نقلّب الجرائد البيروتية، قرأنا خبر زيارة الشاعرة المبدعة نازك الملائكة، شفاها الله وعافاها، للبنان بصحبة زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة، ونزولهما في فندق الصخرة في مصيف بحمدون، واقترحت على الإخوة أن نزور الشاعرة الكبيرة، وحصلت الموافقة، إلا أن العماد رأى أن نزورها نحن السوريين الثلاثة، أما هو، فليس من المناسب أن يزورها، ويصل الخبر إلى العراق، ويتحدث الناس، ورحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه.
وبعد حوار ودّي بيننا، ذهبنا إلى ما ذهب إليه العماد، وضربنا موعداً مع الشاعرة وزوجها، وزرناهما نحن السوريين الثلاثة، وكانت جلسة لطيفة، سجّلتُ وقائعها في مقال طويل في جريدة الحياة.
وعندما عدنا إلى فندق الدكتور عماد، وأطلعناه على ما تمّ في تلك الزيارة، سُرَّ بذلك، وسُرّ أكثر باتفاقنا على مواصلة الحوار معها عبر الرسائل، وأطلعناه على كتابها القيّم: التجزيئية في الوطن العربي، الذي جاءها به مراسل دار العلم للملايين، ونحن ضيوفها وجلاّسها في الفندق، فقدّمت لنا نحن الثلاثة ثلاث نسخ منه، كانت الأولى بين هداياها من هذا الكتاب الرائع.
واستمرّ التواصل مع السيدة الكريمة نازك بعد أن عدنا إلى الوطن، وعادت إلى جامعة الكويت، وقبل اعتقالي بيومين في نيسان 1979 وصل إليّ ديواناها: للصلاة والثورة، و يغيّر ألوانه البحر، وعليهما إهداءان لطيفان، وأوصينا إخواننا في الكويت بأن يتواصلوا معها، ويقدّموا إليها ما تحتاج، وكان ذلك، والحمد لله تعالى..
وزارنا العماد في غرفتنا المتواضعة في البانسيون، وشاهدنا ونحن نعدّ الغداء المتواضع بأنفسنا، ونغلي الشاي، ونكسر البطيخة، وأمضينا ليلة تاريخية على شطآن بحر بيروت، وبجانب فندق سان جورج العريق، ثم عدنا بعد منتصف الليل، عدنا إلى غرفتنا، ونام معنا، وأصرّ أن ينام على الأرض، وننام نحن على الأسرّة.
وقمنا في الصباح نعدّ الفطور، وشاركنا في إعداده، وهو يعبّر عن سعادته في هذه الغرفة.
وفي سوق الغرب، وهو من المصايف الجميلة في ضواحي بيروت، زرنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة، رحمه الله رحمة واسعة، واستقبلنا في ساحة الفندق الدكتور عبد القدوس أبو صالح، ووالده الشيخ ناجي أبو صالح، رحمه الله تعالى، ويبدو أن النادل أراد أن يطربنا، ففتح المسجل، وانطلقت منه موسيقى صاخبة ما عدنا نفهم ما يقوله بعضنا لبعض، ثم جاء الشيخ عبد الفتاح، وسألنا:
- هل تطربون لهذه الموسيقى؟
ثم نادى النادل، وقال له في دعابة ورقة:
- يا أخي نحن مشايخ، لا تطربنا موسيقى الجاز، ضع لنا موسيقى الصبا، النهوند..
وأخذ يعدّد للنادل أسماء الموسيقى المطربة..
انصرف النادل، وأخرس المسجّل، لأنه عرف أن الشيخ وزبائنه لا يريدون الموسيقى.
ثم التفت إلينا الشيخ وقال:
- قد تتساءلون: كيف يعرف الشيخ أسماء هذه الموسيقات كلها وهو شيخ؟
ولمّا لم نجب، قال:
- كان هناك شيخ يعظ في المسجد، ويبيّن لهم حكم الإسلام في الخمرة، ثم قال الشيخ الواعظ:
- كل أنواع الخمور حرام: العرق، والبيرة، والويسكي، و.. و..
وذكر لهم سبعين نوعاً من الخمور، فالتفت الناس بعضهم نحو بعض يتساءلون: ترى... كيف عرف الشيخ كل هذه الأنواع من أسماء الخمور، إن لم يكن ذاقها وشربها؟
وتفرّس الشيخ في وجوهنا ثم قال:
- وأنتم.. هل ستقولون ذلك؟
وضحك الشيخ، فانفجرنا ضاحكين، ولعل الدكتور عماداً كان أعلانا ضحكاً، وعندما ودّعنا الشيخ وخرجنا، قال لنا العماد في إعجاب بخفة روح الشيخ:
- ما هذا الشيخ؟ يعظ وهو يداعب، ودعابه وعظ أيضاً.
وفي بيروت اتفقنا على إصدار سلسلة كتب باسم (أصوات) تغنينا عن المجلة التي لا يسمح البعثان لنا بإصدارها، وصدر العدد الأول منها في عام 1978 وشارك فيه خمسة كتّاب، كل كاتب بأقصوصتين، والكتّاب المشاركون هم: د. عماد، ود. نبيل خليل، وإبراهيم عاصي، ومحمد الحسناوي، وعبد الله الطنطاوي. ثم كان الاعتقال فالتشريد، وقد أعدنا طباعة المجموعة في دار الفرقان في عمان عام 1982.
ثم حاولنا إصدار مجموعات مشتركة من (أصوات) شهرياً، أو فصلياً، وجلسنا -الدكتور عماد والداعي لكم بالسلامة- مع الدكتور فتحي الملكاوي، واتفقنا، وراسلتُ عدداً من الكتاب والأدباء والشعراء ليشاركوا في (أصوات) وجمعنا مواد ثلاثة أعداد، ونضّدنا العدد الأول، ولكنه لم ير النور، لأسباب سوف نذكرها في غير هذا المكان، للتاريخ فقط.. فشلنا وتراجعنا ونحن نستعير بيت حكيم المعرة، باستبدال فعل بفعل:
يحطّم بعضنا بعضاً ويمشي أواخرنا على هام الأوالي
وحقُّ الأوالي التكريم من الأواخر، لأنهم كان الماهدين لهم.
ودارت الأيام، وابتلينا من البعثيين في سورية والعراق، نقلوا الدكتور إلى المتحف من الجامعة التي شعر أبناؤها بفراغ لا يملؤه غيره، ونُقلنا نحن من وزارة التربية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومكاتب دفن الموتى، ثم إلى السجون والمعتقلات.
وشاء الله أن نكون تحت كل نجم في بلاد الله الواسعة، ومنها العراق..
وكان الشوق إلى لقاء الأحبّة في العراق عارماً، وخاصة الدكتورين الشقيقين: عماداً ونبيلاً رحمه الله، ولكننا كنا نخاف عليهما من الطغيان، فكنا نرسل بعض أبنائنا الأذكياء ليتسللوا إلى بيته العامر في الموصل، وكان أولئك الأبناء يجدون عنده الدفء والحبّ والأريحيّة والكرم.. هكذا كنا نتواصل، كنا نخشى عليه وعلى أخينا الرائع نبيل، وكان الشوق يدفعه إلى السؤال عنا في بغداد، ونحن نتهرب منه، خوفاً عليه.. أقولها للمرة الثالثة.
وتدور الأيام، ويشاء الله أن نلتقي في باريس في آب 1990 وكانت فرحة اللقاء غامرة، لفتت أنظار إخواننا المجتمعين، وكانوا من شيوخ الحركة الإسلامية العالمية، وتوقّف الحديث دقائق، ريثما تبرد حرارة اللقاء، وما كانت لتبرد، ولكنه الحياء من تعطيل اللقاء.
كنت مدعوّاً إلى مخيّم صيفي ضمّ آلافاً من الرجال والنساء والأطفال، وكان العماد مدعواً لإرساء دعائم جامعة دعوية تقوم في أوربا، تابعة لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، وقد قامت الجامعة، وبدأت تؤتي أكلها الطيّب بإذن ربها منذ عشر سنوات ولله الحمد.
ثم كان التواصل في عمّان الأمن والأمان، بعيداً عن أعين الرقباء والحاقدين والحسّاد، نلتقي الفينة بعد الفينة، نتباثّ الهموم والمتاعب والمخاطر التي تحتوش الأمة الإسلامية بشعوبها ودولها، وتأتي الهموم الأدبية والنقدية في المحل الثاني من تلك الهموم العاصفة، والمخاطر الكوارث الكواسر، على ما في الأمة من ألوان التخلف والعجز، وعلى ما في مثقفيها من نفاق، وقحة في السير في ركاب الطواغيت.. وعلى الرغم من لائحة مشاغله الكثيرة، كنّا نسترق سويعات الصفاء من الكدورة التي تملأ حياتنا، وإذا تباعدت اللقاءات لظروف العراق وأبناء العراق المقهورين المكبوتين، كان الهاتف والرسائل هي البدائل التي تجدي ولكنها ما كانت لتغني عن اللقاء.
والله يشهد أنني كنت وما أزال، أطالع في حياته الخصبة الحافلة بالآمال والآلام، شجاعةً، وكرماً، وأريحية، وتسامياً عن سائر أشكال الأنانيات التي تتسربل بسرابيل مخادعة، فيها من الرياء، والنفاق، والكذب، والتعالم المفضوح ما فيها.. وكنت أستقي من ينابيع الفضائل النفسية لديه، وهي فضائل لم تَشُبْها شائبة من الأمراض النفسية، كجرب حبّ الظهور، والحسد، والحقد، والغيبة، والنميمة وما إليها من أمراض تحاماها بطبعه السليم، فانعدمت في مجالسه، التي خَلَصَتْ من تلك العاهات والتشوّهات الخلقية.. وهي فضائل عزّ وجودها في زمن المادية الكثيفة الثقيلة.. زمن حضارة الطين والأطيان.
طوال ثلث قرن، عرفته في سائر أحواله.. أحوال الرضا والغضب، كان ذا لسان عفّ، يتناءى بصاحبه عن البذاءة العارية والملفوفة بغِلالات غِليّة صفيقة.. وعن الفحش والتفحش في الجدّ والهزل، وفي القول العادي، وفي النقد والنصح، فلسانه ما عرفت الغلظة ولا الفظاظة إليه سبيلاً قط، وكذلك قلمه الذي نهل من معين قلبه المسكون بالذكر الحكيم، وكأنهما.. كأن لسانه وقلمه قد تقاسما وتعاهدا معه ألاّ يورداه موارد الهلكة، وألا يكبّاه بحصائدهما في مالا يرضاه الله له في هذه الدنيا، وأن يبرئا ذمّته من أعراض الناس يوم يقوم الناس لربّ العباد.. وها نحن أولاء نشهد أننا ما شهدنا مَهْلِكَ فضيلة في مجالسه وكتاباته وصلاته بسائر الناس..
يا حسرة على العباد!
كم أوردتهم ألسنتهم وأقلامهم وأضغانهم من موارد باعدت ما بينهم وبين الناس، وخاصة الأسوياء منهم، وجلبت لهم الكراهية والمقت، وكان الأحرى بالعليمة منها، أن تجلسهم على عروش القلوب، لو كانوا يعقلون.
إنه ذو نفس رضية، يزور عمان، فيخفّ محبوه إلى استقباله والاحتفال به، ونزور (بمعيّته) بعض الأصدقاء ، وخاصة الأخ الراحل الحبيب حسن التل، تغمّده الله بفيض رحماته، فقد خسرتُ وربما خسرنا بفقده أخاً حبيباً، وصديقاً صدوقاً.
زرناه مرة، وتحدّثنا عن الحداثة والحداثيين، واشتدّ أحدنا على سفاهة بعضهم، وتطاولهم على القيم العربية والإسلامية، فابتسم أبو بلال وقال:
- كأنكم لم تسمعوا قول الله تعالى:
(قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله).
وتساءلنا: يرجون أو لا يرجون أيام الله؟
قال أبو بلال: لو قال يرجون، لكان الأمر عادياً.. فمن الطبيعي جداً أن تغفر للمؤمنين، وأن تخفض جناحك لهم، ولكن الخارق، أن تغفر لغير المؤمنين.. لمن لا يرجون أيام الله.
قال العماد في دهشة: والله كأني لم أسمع هذه الآية العظيمة قبل الآن.
فتناول أبو بلال المصحف من أمامه، وفتح على سورة الجاثية، وقرأ الآية الرابعة عشرة:
(قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله، ليجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون).
وقدّم إلينا المصحف لنقرأ الآية بأعيننا.
العماد متسامح بطبعه، وقد طرب ذات ليلة وأنا أدندن بهذين البيتين البديعين للإمام الشافعي، رضي الله عنه وأرضاه:
من نال مني أو علقت بذمّته سـامحتـه لله راجي منّته
كيلا أعوّق مؤمناً يوم الجزا أو لا أسوء محمداً في أمّته
فانطلق لسانه يردد في إعجاب: أو لا أسوء محمداً في أمّته..
إن صديقنا العماد يجمع بين صفتين كريمتين متلازمتين، كأعلى ما يمكن أن يتحلّى به الأتقياء الأنقياء، وهما: الذلة على المؤمنين وللمؤمنين، والعزة على الكافرين.
(أذلةٍ على المؤمنين، أعزةٍ على الكافرين)
والتحلي بهاتين الصفتين معاً، من المزايا النادرة في أكثر مسلمي العصر.
إنه يأسى لحال أولئك الذين تجتالهم الشياطين، بما يُلقون على أسلات ألسنتهم الحداد، وبما ينفثون في قلوبهم المراض التي تحبّ أن تشيع الفاحشة من القول في الذين آمنوا، فيتسقّطون العثرات، فإن لم يجدوها افتعلوها.. كان وما يزال يأسى لحال هؤلاء، ويدعو الله أن يعافيهم منها، مع علمه بصعوبة ذلك.
وكلُّ جراحة فلها دواء وسوء الخلق ليس له دواء
* * *
لكل داء دواءٌ يستطبُّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها
ويعجبه قول القائل:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي، والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنّما وجه الكريم خصيب
ويعجبه قول الشاعر:
من لم يبت والحبُّ حشو فؤاده لم يدر كيف تَفَتَّتُ الأكبادُ
كان يحاضر مرة في جمعية مركز الدراسات، فتصدَّى له واحد ممن تستهويهم وتأخذهم شهوة الكلام بتعليق لا طعم له سوى الإسفاف، وتحمّله ولم يردّ عليه، وحسناً فعل، فهؤلاء ممن قال الله فيهم (ولا هم يستعتبون).
وعندما خرجنا من المركز قال في مرارة:
- ألا يعلم هؤلاء أن المحاضر يحتاج إلى كلمة حنان؟
إنّ العماد قمة في الذوق في تعامله مع إخوانه وغير إخوانه، ولم أسمع ولم أر من يأخذ عليه تصرّفاً غير لائق، أو كلمة جارحة، وبهذا الذوق الرفيع كسب قلوب إخوانه واحترامهم، ولم يكن يوماً ثقيل الظل في مجلس أو من المنفّْرين الذين تتمنّى على الله أن يخلّصك منهم بما يشاء وكيف يشاء.
إذا جالسته، فكأنك تجلس مع نفسك، وإذا حاورته، مكّنك من الكلام حتى تنتهي وتقف عن الكلام، وهو يصغي إليك في اهتمام، ولا يبدو عليه التحفّز للردّ واستباق الحديث، ثم يحاورك ويدلي بحججه بصوت خفيض يصل إلى آذان من يكلمهم، ولا يؤذيهم، وهو صاحب الصوت الجهير في المنتديات والجامعات.. يحاور في سكينة وهدوء، وهو مقبل عليك بكليته، ولا تشعر معه بوطأة من كلمة أو حركة أو سكون طوال جلوسك معه، مهما طالت الجلسة والجلسات، بل تتمنّى أن يطول الجلوس، ويمتدّ الحديث والحوار، لتفيد منه علماً، وخلقاً جديداً، فهو خفيف الظل في حديثه، خفيف الدم في سمره، خفيف الروح في سائر أحوالك معه، وأحواله معك..
كنت أسمع عنه من بعض زملائه وطلابه، وبعض هؤلاء لا يعرفون طبيعة العلائق بيني وبين العماد. كنت أسمع الإطراء منهم، وهم من جنسيات شتى، وألتزم الصمت، ولا أشاركهم الحديث عنه، حتى أعلم ما يقولون وما يبطنون، وكنت أحدّث نفسي وأقول لها:
"يا نفس.. قد وقعتِ على الكنز، فحذار أن يفلت من يدك. عضّي عليه بالنواجذ ولا توجعي ولا تطمعي.."
ولحبّ الطلاب إياه، وتعلّقهم به، نقلوه من الجامعة إلى المتحف الحضاري، ليبعدوه عن طلابه، ويبعدوا الطلاب والزملاء عنه، وقد فرحنا ونحن في حلب، بنقله إلى المتحف بدلاً من المعتقل.
لا يكرهه إلا حاقد على الإسلام والداعين إليه بإحسان، وإلا حاسد يحسده على ما أسبغ الله عليه من نعم الإيمان، والأخلاق، والعقل، وما إليها من الشمائل الرضيّة، ولهذه الأسباب وغيرها، أحبّه كل من عرفه أو جالسه أو صادقه أو سافر معه، أو زامله، أو درّسه، ولهذا كثرت الدعوات إليه من سائر أنحاء المعمورة، وتداعى العقلاء من الدعاة إلى تكريمه، ولقد شهدته في أوربا مكرماً معزّزاً، كما هو في بلاد العرب والمسلمين، يحفّ به المعجبون، وهذا لا يأتي من فراغ، ولا من العلم الذي حصّله وحسب، فقد يكون بين المؤتمرين من هو في مثل علمه ومن هو أعلم منه، ولكنه الخلق الكريم الذي يتحلّى به، إلى جانب العلم والدين وسواها من المزايا والصفات التي جعلت له شعبية كبيرة، في المغرب خاصة، وتسابق طلاب الدراسات العليا لتقديم أطروحاتهم ورسائلهم عنه، كما تسابقوا للاحتفال به، كما نحتفل به اليوم ونكرمه هنا في عمان، وكما سيلقى ألواناً من التكريم في أي مكان يحلّ فيه، ولا نامت أعين الحاسدين.
إنه داعية، وهذا شأن الدعاة الصادقين الوعاة في كل زمان ومكان، وما ينبغي لهم إلا أن يكونوا كذلك.. وما شهدت إلا بما علمت، وعلى مثل هذا فليكن الدعاة.
كـانت محادثة الركبان تخبرنا عـن العماد خليل أطيب الخبر
حتى التقينا، فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
والحمد لله رب العالمين.