رسالة إلى أمي الحبيبة العظيمة

يحيى أبو زكريا

المشرف العام  البرامج السياسية والإخبارية

[email protected]

[email protected]

يتذكّر الناس أمهاتهم مرة في السنة , في عيد أسموه عيد الأم , أما أنا فإني أذكر أمي في كل ثانية , و في كل دقيقة , وفي كل ساعة , هي روحي ومهجتي , هي بؤبؤ عيني و نبضات قلبي , و عندما أقول : أمّاه , يقشعّر بدني و يهتزّ كياني , إنّه العالم العلوي الذي ضمّني صغيرا و كبيرا . و في الواقع  لم أكن راغبا في نشر رسائلي إلى أمي الحبيبة  لعلمي بخصوصية الموضوع , لكني راجعت نفسي ثم قرّرت أن أنشر كل تلك الرسائل في كتاب بعنوان / رسائل إلى أمي , و أنا و الله على ما أقول شهيد لم أصطنع أحدوثة , ولا إقتبست موضوعا من رواية غوركي , لقد عشت كل كلمة قلتها , وما زلت .

 وأدعو كل إبن أو بنت للبّر بأمهما و أبيهما , و الإستمتاع بالوجود مع الشمس و القمر , الأم والأب , فدعاؤهما مستجاب , ورضاهما يجلب التوفيق الرباني , و يفتح الدروب نحو أكبر النجاحات في الحياة ..

بقلم / يحي أبوزكريا .

عذرا أماه فالقلب منفطر وبعدك دموع قلبي تنهمر .

باعدت بيننا المسافات تبعد تارات ولا تقصر .

ما كنت أعلم أنّ الدهر يخفي لي كيدا و ما كنت أحذر .

والدهر ديدنه الغدر وإن أضحك إمرءا يقبر .

أماّه قلبك الجياش يعلم عن حالي ويشعر .

أماه من فيض قلبك أستلهم الصبر فأصطبر .

كانت بسمتك مرهما لجروحي وبها حياتي كانت تزدهر .

غابت عني ضحتك فأنتهت حياتي و بذا حكم القدر .

أمّاه لا أريد أن أخاطبك بالنثر ولا بالشعر فأنت أكبر من النثر والشعر , ولا أريد أن أخاطبك بأحلى الكلام و أفصح البيان فأنت أكبر من هذا وذاك .

 منذ حكم عليّ القدر بالتجوال في المنافي و الأرصفة و الشوارع و المدن و العواصم والقارات ,  وأنا أبكي بدل الدمع دما عبيطا , نسيت كل الصور إلاّ صورتك الجميلة , مازلت أتذكّر قولك لي عندما شرع أهل الظلام في قتل الكتّاب والصحفيين في الجزائر , قلت لي : إذهب يا يحي بعيدا  فأن أراك غريبا ضائعا في بلدان الناس , خير لي من أن أراك قتيلا مذبوحا من الوريد إلى الوريد .

 لكنّ الغربة يا أمي ذبحتني من الوريد إلى الوريد فحبك الجيّاش لا وجود له في أرصفة المنافي و لا في الأزقة  , و قهوتك الرائعة التي كنّا نشربها عصر كل يوم لا وجود لها في مقاهي الأرصفة الضائعة هنا وهناك .

 ما زلت أتذكّر كلامك : ما أحلى جلسات الأحباب لو تدوم , نعم هكذا كنت تقولين.  أمّاه ألمّت بيّ الأوجاع من كل جانب ودموعي باتت ساخنة سخونة شوقي إليك , والله يا أماه لم أفعل شيئا في حياتي , وأنت تعرفيني جيدا , فمنذ صباي كان رفيقي الكتاب والقلم , ولم أك أدري أنّ الفكر هو أعظم جريرة في عصر كل حكّامه طغاة .

و أنت يا أمّي تلمّ بك المصيبة تلو المصيبة ولا أقدر أن أزروك أو أراك , ألمّت بكم المجازر الدائمة وأنا أتفرّج , ألمّ بكم الطوفان وأنا أتفرّج , ألمّت بكم الزلازل وأنا أتفرّج , بلغني أنّ العمارة التي تقطنينها في الجزائر العاصمة تضررّت وهي آيلة إلى السقوط وأنا أتفرّج ,

إلى متى يا أمي .

 والله لقد إنفطر كبدي وتفتتّ أعضائي , وقد تفتتّ أعضائي حقيقة , فما إن إنتهيت من عملية جراحية في الكلية , حتى دخلت غرفة العمليات لإستئصال المرارة و أشياء أخرى لا أقدر أن أرويها لك حتى لا تصابي بشظايا حزن قاتل .

لم يبق فيّ إلاّ القلب الذي يحمل كل هذا الحبّ لك , وكل الكراهيّة للطغاة والظالمين والذين بدون جريرة يلاحقون الإنسان ويحولون بينه وبين أن يلتقي بأمه أعظم كائن في الوجود .

بلغني يا أمّاه أنّ العمارة التي تقطنين فيها في الجزائر آيلة إلى السقوط , دعّي شقتك يا أماه ونامي في العراء أسوة بالمستصعفين الذين إفترشوا الأرض وألتحفوا السماء . نامي على أحشائي المتعبة , نامي على قلبي الذي دكدكه الزمن , نامي على روحي المتعبة , نامي في الفيافي و القفار يا أماه , المهم يا مهجتي  وبؤبؤ عيني , يامن كنت توفرين في مصروف البيت الضئيل  الذي كنت تحصلين من والدي المجاهد الذي قاد ثورة الجزائر هو و المجاهدون ورفض الحصول على أي إمتياز لإصراره على أنّه جاهد للّه تعالى وليس لدنيا ينالها  ,  هذا المصروف الذي كنت تعطيني إياه لأشتري كتبا و دواوين وروايات  هذه الكتب التي شكلّت ثقافتي و أفكاري وحبّي لجمالية الحياة و إنسانية الإنسان .

أمّاه أتمنى أن أراك ذات يوم وأشرب معك  قهوة ,لكن ماذا نفعل مع  من صادروا وطنا حررّه أبي ,  ماذا نفعل  مع من لا يحب نور الفكر و يدمن على الظلام و لا يحبّ النقد  ولا يحب الثقافة , بل هو مفطور على الظلم و الإستبداد و فتح السجون والمعتقلات . و محنة المثقف تزداد بشكل كبير في بلادي و في العالم العربي ,  و أنت تعلمين أنني وقبل  مغادرتي الجزائر كتبت قائلا :

إن المثقف إذا مال إلى السلطة قتلته المعارضة , وإذا مال إلى المعارضة قتلته السلطة , وإذا بقيّ حياديا قتله الإثنان معا .

 يا أمّاه فلتتضرر الأوطان وبيوت المستضعفين , و المهم  أن لا تتضررّ قصور الرئاسة وقصور السيادة التي يسكنها كبراؤنا الذين يتلذذون بصناعة الظلم والمأساة و ينتجون الحزن و الذين أقاموا مصانع للدموع  و الأوجاع و العذابات .

والعجيب يا أمّاه  أنّ الزلزال لا يطاول قصور الرئاسة و دوائر قرارات الظلم العالمي بل يصيب المستضعفين الذين لا يملكون قدرة على شيئ , أي حكمة إلاهيّة هذه يا أمّاه .

نعم يا أماه إن الله يملي لهم ليزدادوا كيدا , ثمّ يكبّهم في الدرك الأسفل من النار .

أمّاه سنلتقي يوما وسنجتمع يوما والذين أنتجوا الزلازل السياسية لا يمكن أن يبقوا سرمدا إلى يوم القيامة , وساعتها يا أمّاه سأفرح فرحة لم أفرحها في حياتي .

أماه , حبيبتي , كبدي , نخاع نخاعي  كم يشقّ في نفسي , وفؤادي , وكم تنهمر دموعي كالأنهار , كالشلال , وأنت تخبريني أنك تنتظرين على أحر من الجمر ظهوري في أية شاشة عربية , ثمّ تهرولين تجاهها و تقبلّين جهازا عديم الروح ينقل صورة مجرد صورة , و تضمّين الجهاز إلى صدرك , وتمرّرين خدّك الشريف على الشاشة , و تصرخين يحي , يحي يحياه , يحياه  , طال الفراق , طال البعاد , و أنا والله كأنني كنت أسمعك فيزداد غيظي على الظالمين و أتقرّب إلى الله بتعريتهم , و أرفع صوتي ضد مكرهم وظلمهم و إستبدادهم وسرقتهم لأموال الشعوب و أقوات الفقراء , كنت تصرخين بالدموع , و أنا أصرخ بقولة الحق .

كم كنت تتمنين أن تدوم برامجي ساعات وساعات , و كنت تخففّين وطأة الحزن بوضع الشريط المسجّل في الجهاز الرائي و ربما كنت توصلين الليل بالنهار و أنت تتأملين فلذة كبدك الذي حملته رياح الظلم بعيدا بإتجّاه المنافي .

آي مهجتي , يا نور المآقي , يا ماء السواقي , يا أقدس منحة من الخلاّق , كان يبلغني  و كنت أعلم أيضا , أنه و عندما يحين وقت الغداء أو العشاء , تتركين مكانا خاليا في المنضدة و طاولة الطعام , و تقولين لإخوتي هذا مكان يحي , سأسكب له الطعام الذي يحبّه , فقد كان يتلذذ هذا الطعام , وذاك الطعام ..

في عيدك الأبدي , وعيدك في كل عشر ثانية , وفي كل ثانية , وفي كل دقيقة , و في كل ساعة , وفي كل لحظة , فأنت نبض قلبي , وكلما نبض قلبي نادى حبيبتي يا من أرضعتني حليبا طاهرا و ألبستني ثيابا طاهرة , و دثّرتني في كل لحظة من لحظات الليل , وكنت صاحبة الفضل في إقامة جسر متين بيني و بين الثقافة , بين قلبي و الحضارة , بين وجودي والمطالعة  , و عندما دبّ الوعي في كياني , رحت تحرمين العائلة من الطعام  و أصنافه , و تخصّيني به لأشتريّ كتبا  ودواوين وموسوعات .

وكنت تقولين لي :

أبو الطيب المتنبي أولى من البطاطا

والبحتري أولى من الباذنجان

و الزمخشري أولى من الكمثرّى

و الزجّاج أولى من الفجل

و أبو الأسود الدؤلي أولى من الشمّام

و صاحب صناعة الإنشاء أولى من المحشّى

والقرطبي أولى من الباقلاوة

و أبو الشمقمق أولى من الفستق

و الفارابي أولى من البصل

و إبن سينا ذو الصيت أولى من الزيت

و الأفغاني أولى من الرمّان

و العقّاد أولى من الجمبري و الجراد

و إبن زيدون أولى من الزيتون 

ووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو

شكرا لك أماه , فأنا مدين لك بكل حرف تعلمته , وبكل كتاب قرأته , وبكل عبارة إستوعبتها و كل علم تفتّق  ذهني عليه , وكل فكر صاغ شخصيتي ,,,

لكن  يا أمّاه , يا مهجتي وناصيتي , عندما حان وقت سداد الدين و تعويضك عن سنوات الجمر و الصعاب , فرقّوا بيننا .

و لن أقول أبدا وداعا , و تاللّه لن أقول وداعا , فإمّا لقاء قريب , و لن يكون شيئ آخر , وكل حياتي أصبحت محطة إنتظار , محطة يعود فيه الفرع إلى الأصل , و الجزء إلى الكل , و الروح إلى الجسد , و الرؤية إلى البصر ووووووووووووووووووووووووو.

و إذا شاء الله و ألحقك بالرفيق الأعلى قبلي , فأبشرّك بأن روحي ستفيض بعدك مباشرة , وعندها نلتقي عند ربّ العالمين و سوف يجمع بيننا في دار الخلد , في دار لا ظلم فيها ولا إستبداد , وسوف يقتصّ من كل ظالم فرقّ بين أم وإبنها .

أما إذا فارقت أنا الحياة قبلك أمّاه  , فساعدك الله , وساعدني  , وشكرا لك على كل شيئ , و سأظلّ أقبّل قدميك كما كنت أفعل دائما إلى أن ألقى الله تعالى .

 أتذكرين عندما كنت أطرحك أرضا وأقبّل قدميك , فعلتها رضيعا وطفلا و فتيّا وكهلا , و  حتى لما تقدمّ بي العمر ما زلت أقبل قدميك قدميك .

وكنت أقول لإخوتي إشهدوا لي أمام الله أنني كنت أقبّل قدمي أمي يوميا , وكنت لا تقبلين مني هذا الفعل  و كنت تنهرين عن ذلك , بحجة أنني كبير في السنّ و الموقع الإعلامي و الثقافي , وكنت تقولين لا يجب عليك  القيام بهذا بذلك  .

 و كنت أقول لك : يا  أماه دعيني قرب جنّتي , فقد يأتي عليّ يوم لا أستطيع فيه تقبيل قدم من سعى لتكويني و تربيتي , و كنت أقول لك أماه رجاءا لا تحرميني من الجنة , فالجنة غالية وهي تحت قدميك , و ما زالت هذه الجنّة  تحت قدميك , و أنا بعيد عنك و عن الجنة , ولذلك دعيني أقول لك :  لقد قتلتني جهنم الأحزان وسقر الفراق , ولظى العذابات  يا أعذب ما في الوجود , و أصدق من أحبّ و أقدس من وطأ البسيطة , يا أمّاه.

و إلى لقاء قريب ..............إبنك يحي أبوزكريا .