رحمك الله أبا مجاهد

رحمك الله أبا مجاهد

د. محمد سعيد حوى

في وداع أخينا أبي مجاهد صفوح جنيدي رحمه الله نستذكر معاني:

المعنى الأول: أن أخانا كان أحد الذين تحققوا بمعاني التضحية، هذا المعنى المهم في حياة الأمة، ذلك أن الأمة إذا سارت في طريق التضحية سادت وعزت، وتطهرت من مرض الغثائية؛ حب الدنيا وكراهية الموت، وإننا إذا تأملنا في أسباب تخلف الأمة وانحطاطها فلأنها فقدت القدوة، وأهم مقومات القدوة التضحية، ذلكم أن التضحية لا تتحقق في الفرد إلا إذا تحقق بأركان أربعة: الصبر والرضا والتوكل على الله والعلم، وجماع ذلك كله التزكية، فإذا ما اقتضى الأمر موقفاً صدع بالحق كائناً ما كان الأمر، فإذا ما ترتب على ذلك ابتلاء صبر، ولن يمضي في طريق الصبر والثباتِ عليه وتحمل نتائجه إلا إذا كان راضياً عن الله وعن أحكامه، متوكلاً عليه.

ونحسب أن فقيدنا أبا مجاهد من أولئك الصابرين المحتسبين عند الله، الراضين بقضاء الله، ولا نزكي على الله أحداً، فهو أولاً صبر على سجن الطغاة وظلمهم، فأمضى سنوات من ريعان شبابه في سجونهم، وأحسن استثمار الوقت في ذاك السجن، أثراً عن الصبر، فاغتنمه بمجالسة العلماء وطلب العلم، ومدارسة كتاب الله، فكان من آثار ذلك ملازمة للوالد الشيخ سعيد حوى في سجن المزة، وهو يحدثنا عن تلك الفترة فيقول: أحصيت للشيخ سعيد في اليوم الواحد أربعة عشر درساً، وثانياً: صبر على المرض، وكل من زاره في مرضه ما رآه إلا مبتسماً راضياً محتسباً.

وقد لازم عدداً من العلماء منهم: الشيخ وهبي غاوجي الألباني، والشيخ سعيد حوى، والشيخ أحمد الجمال الحموي، والشيخ نافع علواني.

ومن آثار التضحية في فقيدنا: الهجرة في سبيل الله، فلما كان الثبات على الحق اقتضى أن يهجر الأهل والولد، لينجو بدينه؛ لم يتردد في ذلك لحظة واحدة، ولئن قال الظالمون: دَعُوا هؤلاء ـ يعني المجاهدين من أبناء الإخوان والمهاجرين ـ يموتوا خارج بلادهم، فإنا نقول لهم: وهل أنتم بمنأىً عن الموت، وهل أنتم بمنأى عن انتقام الجبار من الظالمين، ثم ما عرف الظالمون معنى الهجرة في سبيل الله وفضلها وعطاءاتها، وما عرفوا أن كل بلاد المسلمين واحدة بالنسبة للمسلم، وأنه حيث استطاع أن يقيم أمر الله فثم بلده. ولقد تحقق فينا في هذا البلد الطيب، من نعم الله والأمن مصداق قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)، وهاهم أصحاب رسول الله خرجوا من مكة مهاجرين وفاتحين، فما عاد منهم أحد إلى مكة، فكانوا منار خير وعلم وإشعاع نور إلى يوم الدين في كل مكان، وهؤلاء المهاجرون قد بثوا خيرهم حيثما حلوا.

المعنى الثاني: كما نستذكر في ذكرى فقيدنا العلم وأهله، فقد كان حريصاً على مجالسة الشيوخ محباً لهم، متتبعاً لدقائق المعرفة الفقهية، متحرياً لمذاهب أهل السنة والجماعة، يحرص على الجمع بين العلم والذكر، ولا نزكي على الله أحداً.

وهذه المعاني: التضحية (وما اشتملت عليه من صبر ورضا وتوكل) والهجرة والعلم، ومجالسة الصالحين والعلماء؛ هي مقومات بناء المسلم والمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، على طريق إقامة دين الله وشرعه وحكمه.

والمعنى الثالث: نجد في فقيدنا تمثله حقيقة الإخاء والجندية الصادقة، فقد كان حريصاً على علاقاته مع إخوانه بعيداً عما يكدر صفوها، دائم الابتسامة صافي القلب، لطيف المعاملة، لين العريكة، حسن الأخلاق، شديد الأدب.

وأما عن جنديته فطالما كانت الجماعة في موقف واحد فهو مع الجماعة، فإذا ما رأى اختلافاً واجتهادات نأى بنفسه عن هذه الخلافات.

ولما مضى فإني أتمثل قوله تعالى: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)، راجياً أن يكون الفقيد واحداً ممن تمثل بهم هذا المعنى.

ونسأل الله أن يجمعنا بهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.