اليوم السابع تحيي ذكرى سلمان ناطور

القدس:15-2-2016 من رنا القنبر- خصّصت ندوة اليوم السّابع الثقافية الأسبوعيّة جلستها هذا المساء عن الأديب الفلسطيني الكبير سلمان ناطور الذي غيّبه الموت يوم 15 شباط الحالي.

بدأ النقاش ابراهيم جوهر الذي أشار إلى قيمة مشروع الراحل الثقافي واهتمامه بالذاكرة الفلسطينية محذّرا من تحالف الضباع لمن لا ذاكرة له. كما أشاد بسمات الكاتب الراحل الشخصية تواضعا وهدوءا وعمقا إنسانيا.

وقال الأديب محمود شقير:

التقيت سلمان ناطور أول مرة أواسط التسعينيات من القرن الماضي في القدس، وأمضينا وقتًا ممتعًا في أحد مطاعمها، تحدثنا خلاله عن هموم الثقافة وشجونها.

وكنت تعرفت إلى اسم سلمان من صحيفة الاتحاد الحيفاوية، ومن مجلة الجديد كذلك. وقد لفتت انتباهي كتاباته التي اتسمت بالسخرية، وأكدت ارتباطه بالذاكرة الفلسطينية وبالجذور.

ومن لحظة  اللقاء الأولى بدا لي سلمان شخصًا مهذبًا ودودًا، هادئًا حين يتكلم، ميالاً إلى عدم الإكثار من الكلام، مع أنه تحوّل في  السنوات الأخيرة إلى حكواتي يسرد الحكايات الساخرة الممتعة عن أناس حقيقيين من أبناء شعبه، وعن المعاناة التي سبّبها الاحتلال الإسرائيلي لهؤلاء الناس. ويسرد الحكايات كذلك عن الذاكرة التي أراد المحتلون محوها، فانبرى لهم سلمان حارسًا للذاكرة، وناطورًا لكل تفاصيلها الحميمة.

ولقد تعددت اهتمامات سلمان في ميدان الكتابة، فأظهر هذا التعدد عمق موهبته وصدق انتمائه لشعبه، ومثابرته على صياغة المأساة الفلسطينية في أشكال شتى من الكتابة. كتب المقالة السياسية والأدبية، وكتب القصة والرواية والنص المسرحي والحكاية، وكتب للأطفال قصصًا جذابة، وترجم عددًا من الكتب إلى اللغة العربية. ولم يكتف بممارسة الكتابة من برج عاجي منعزل، بل كان منخرطًا في معمعان النضال السياسي المباشر، ومدافعًا عن حق الأقلية الفلسطينية التي بقيت في وطنها في العدالة، ومكافحًا ضد التمييز العنصري ومصادرة الأرض والتطاول على الكرامة الوطنية للناس.

قبل شهر، كانت آخر رسالة أتلقاها من سلمان، وصلتني على بريدي الإلكتروني، لها علاقة  بشأن ثقافي ما، وكانت له وجهة نظر لم أتردد في الموافقة عليها. وكنا التقينا في رام الله قبل ثلاث سنوات، حين انعقد مؤتمر القدس الثقافي الذي أشرفت عليه لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية. وكنا انتظمنا أنا وسلمان وعدد آخر من الزملاء المثقفين في اللجنة التي تشكلت لوضع برنامج المؤتمر وتفاصيل انعقاده.

قبل ذلك بسنوات، عملنا معًا لفترة ثلاث دورات في لجنة أدب الطفل الخاصة بتحديد الفائزين والفائزات بجوائز مسابقة القصة المكرسة للأطفال، التي تشرف عليها مؤسسة "بديل" في مدينة بيت لحم.

وكنا التقينا في ندوات أقامتها مؤسسات ثقافية فلسطينية مختلفة، وكان سلمان بما اتصف به من سعة في ثقافته، وجلد في مثابرته، ودماثة في خلقه، مثالاً للمثقف الفلسطيني الذي يعي أبعاد الدور المناط به وبغيره من المثقفين الفلسطينيين، الدور الذي يتطلب كثيرًا من الإيثار وخلق أفضل العلاقات وأكثرها حيوية واستقامة داخل الوسط الثقافي ومع العاملين فيه، لضمان الوصول إلى إنجازات أدبية وفنية قادرة على تعزيز الثقافة الوطنية الفلسطينية، بصفة كونها حصنًا للصمود في وجه مخططات المحتلين الإسرائيليين، وعنصرًا فعالاً من العناصر المكونة للهوية الوطنية لأبناء الشعب الفلسطيني.

وكنت قد أشدت ذات مرة بواحد من كتب سلمان المكرسة للفتيات والفتيان، وقلت: في كتاب "سفر على سفر" لسلمان ناطور، تجوال داخل الوطن وخارجه، وتعرّف إلى أحوال الفلسطيني الذي عاش النكبة وما تلاها من معاناة داخل البلاد، ومن تشريد ولجوء ومنفى واغتراب، وجرّب صنوفاً من العذاب عند كل منعطف تجتازه القضية الفلسطينية. وثمة سخرية مُرّة في الكتاب، تليق بالمعاناة التي يسبّبها المحتلون الإسرائيليون للفلسطيني المتشبّث بوطنه وبجذوره، "المنتمي إلى مواقع الروح ومنابت الذاكرة"، المضطر بحكم إملاءات الواقع إلى التعامل مع المجندة الإسرائيلية، ومع المطار الإسرائيلي، ومع ملابسات العالم الخارجي في مطاراته وأماكنه الأخرى، ومع نظرة هذا العالم إلى الفلسطيني الذي يثير الشبهة لدى أي التباس، وبذلك تحدث المفارقات التي يمكن اعتبارها من نوع المضحك المبكي، وفي المحصّلة تبقى الذاكرة الفلسطينية حيّة رغم كل محاولات المحو والتزوير، ويبقى الإنتماء إلى الأرض هو المحور الأساس.

هذه الذاكرة التي يريدها سلمان ناطور أن تبقى حية رغم كل شيء، هي التي كانت في مركز اهتمام روايته "هي، أنا والخريف" التي فضح فيها أوهام المـتأسرلين من أبناء جلدتنا، الذين بذلوا محاولات شتى لكي يهدموا مكان الذاكرة الذي ورثته زينات عن جدها، وليقيموا في المكان منطقة سياحية تجلب السياح للقرية. وهم ينجحون في مسعاهم حين اعتقدوا أن زينات ماتت في المستشفى بعد تعرضها لجلطة في الدماغ.

غير أن صديقتها، ابنة قريتها، التي كانت تقرض الشعر ثم تعرضت للنبذ من أهل القرية، جميلة حسن العائدة إلى الحياة وإلى التحدي، تخبرهم بأن زينات لم تمت، وهي لا بد عائدة إلى قريتها وإلى مكانها الذي تعرض للعدوان. ولا تكتفي جميلة بذلك، وإنما تعمل جاهدة على دخول بيت زينات قبل هدمه، لإنقاذ أوراق وملفات ووثائق كان تركها جد زينات في البيت. إنها الذاكرة الفلسطينية التي تنتقل من جيل إلى جيل، وتبقى حية إلى أن يعود الحق إلى أصحابه، رغم العسف ومحاولات الطمس والتبديد.

سلمان ناطور غاب بجسده عنا، لكن إبداعه الأدبي ما زال معنا.

له الرحمة وبقاء الذكرى ولزوجته وأبنائه ورفاقه وأصدقائه ومحبيه خالص العزاء.

 وقال عبد الله دعيس:

سلمان النّاطور مترجما

تنوّعت إبداعات الكاتب الرّاحل سلمان الناطور، فقد كان مفكّرا وأديبا ومؤرّخا وكاتبا مسرحيّا، وقام أيضا بترجمة العديد من الكتب، لكتّاب يهود، من اللغة العبريّة إلى العربيّة، منها كتب أدبيّة وكتب في التّاريخ والسّياسة. فهل كان النّاطور مطبّعا ومعزّزا لثقافة الآخر عندما ترجم كتبهم وقدّمها للقارئ العربيّ؟ وهل رأى النّاطور أنّ المكتبة العربيّة فقيرة إلى تلك الكتب، أو أنّ العبرية قد تفوق العربيّة مثلما تفوّق اليهود الذين يتّخذونها لغة رسميّة على العرب في حروبهم واستباحوا أرضهم؟ أم أنّ النّاطور كان يبحث عن المعرفة في مكامنها، ويستغلّ معرفته للغة الأعداء ليعرّف القارئ العربيّ عليهم وعلى نمط تفكيرهم، وربّما على سبب تفوّقهم العسكريّ والسّياسيّ على الأمّة العربيّة.

إنّ المتتبّع للكتب العبريّة التي ترجمها المرحوم سلمان الناطور، يرى أنّه كان ينتقى الكتب التي يترجمها بعناية، ويختار الكتّاب الذين يترجم لهم بعناية أيضا، فهو لم يترجم إلّا النّصوص التي كان يرى أنّ القارئ العربيّ لا بدّ له من معرفتها حتّى يستطيع فهم الآخر، والتي تهمّ الباحث العربيّ إذا أراد أن يدرس تاريخ الكيان الصهيونيّ بموضوعيّة ويفهم أسباب تفوقه ومكمن القوة فيه وعوامل ضعفه؛ فلا يمكن هزيمة هذا العدو إذا لم نفهم طريقة تفكيره وثقافته ونظرته إلى الأمور. وعلى لسان سلمان النّاطور يقول: "الترجمة هي المصدر الأهم لفهم الآخر، ولا يهم إن كان صديقا أو عدوا. عبر ترجمة النصوص الأدبية يمكن فهم الآخر بصورة أصدق، فتعرف ضعفه وقوته وكل العناصر التي تركّب شخصيته وبالتالي يمكن بناء عليه أن تجيد التعايش معه أو محاربته. أنت لا تترجم الآخر من أجله بل من أجلك أولا وآخرا."

لكنّ الرّاحل سلمان النّاطور لم يترجم إلا للكتّاب اليهود المناهضين للاحتلال والذين يعترفون بحقّ العودة للشّعب الفلسطينيّ، فقد كان ينتقى النّصوص التي يترجمها بعناية مع أنّ الترجمة كانت بالنسبة له مصدرا للرزق؛ فهو لم يترجم النّصوص الشّائنة التي لم يحبّها أو لم يحترم وجهة النّظر فيها على أقل تقدير، لأنّ قراءتها وترجمتها كانت ثقيلة جدّا على نفسه لا يستطيع أن يحتملها، فتتحوّل إلى معاناة شخصيّة بالنّسبة له. يقول سليمان النّاطور: "الترجمة بالنسبة لي هي عمل معيشيّ أي أنّني أترجم مرغما، لكن بحبّ واحترامٍ للنصّ ولا أترجم نصّا لا أحترمه أو أحبه ولذلك فإنني انتقائيّ جدّا في الترجمة كي لا تتحول إلى معاناة."

لذلك فإنّنا نجد النّاطور يجنح إلى ترجمة الأدب لكتّاب يهود نأوا بأنفسهم عن العنّصرية ومساندة الاحتلال، فكاتب معروف بمواقفه الوطنيّة وحسّه المرهف، مثل سلمان النّاطور، لا يستطيع أن يقرأ أو يترجم لكاتب صهيونيّ يتبجّح بعنصريّته ويزوّر التّاريخ بعنجهيّة.

فترجمة سلمان النّاطور كتبا لكتّاب يهود لا تدينه أبدا كفلسطينيّ وإنما هي تفضح تاريخا يقوم على التّزييف وإنكار الآخر لدى اليهود الصّهاينة، وتعطي صورة أوضح لما حدث في فلسطين ولمعاناة الشعب الفلسطينيّ في ظلّ الاحتلال والتّهجير.

وتحدّث نمر القدومي عن رواية " هي، أنا والخريف " لسلمان ناطور فقال:

عندما تحضر الرّواية ويغيب عن الوجود صاحبها .. نلمس دفء الصّفحات، ومِدادا لم يجفّ عن كلماتها .. الرّوح تأبى أن تُغادر، لكن الجسد سبقها.. فكانت البصمات الأدبيّة والفلسفيّة والوطنيّة خير شاهد عليها. رحل الكاتب الفلسطينيّ "سلمان ناطور" إبن دالية الكرمل وترك من خلفه حروفًا نابضة، ومواقف رجوليّة عظيمة. كتب في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان، ولم ينسَ هدفه السّاميّ ألا وهو تكريم الإنسان. جاب البلدان والأوطان وعمل جاهدًا على لمِّ شمل الأدباء والمثقّفين من الخلاّن، وبقي همّ وطنه وشعبه أساس فِكره وكتاباته، وأيضًا مقاومة الطغيان.

أمّا روايته الأخيرة " هي، أنا والخريف " الصادرة عن دار "راية" في حيفا عام 2011 والتي تقع في 260 صفحة من القطع المتوسط، فقد تجلّت هذه الرّواية بذلك العمق الفلسفيّ والواقعيّ بين الرّجولة والأنوثة، صراع الخرافة والحقيقة، وسيطرة المجتمع الذّكوريّ المرير والقاتل أحيانا. إنّها حكاية إمرأتين في خريف العمر؛ "زينات" التي تمضي حياتها أسيرة خرافة غرسها فيها جدّها؛ ليخفي عنها موت والديها المأساويّ، و "جميلة" التي تظهر لتحميها من مؤامرة السّلطة التي ستهدم بيتها، وتبدأ بتحريرها ومعالجتها. هذا الجدّ الذي طالما كان يؤمن بتسلّط العقل عندما درس في بيروت، وراح يبحث عن مصادر الوعي العربيّ في سرمقند وبلاد الشّيشان. تدور أحداث الرّواية في قرية غير مسمّاه، وزمانها يمتد حوالي مائة عام. شاركه صديقه اللبنانيّ الذي عُيّن مُدرّسًا في القرية، وقد علّم "جميلة" كتابة الشّعر، فاتهمت بعدها بالعشق والغرام معه، وحُرمت من التّواصل. وهناك ثمّة شخصيات مأمورة كرئيس السّلطة المحليّة، ومن حوله موظفون ومهندس وعاملة إجتماعيّة، وكلّهم متورّطون في الصّراع بين العقل والعاطفة.

لقد فقدت "زينات" قدرتها الرّمزيّة على النطق حين عاشت وحيدة وصامتة أكثر من ستين عامًا داخل بيت تعلوه أسوار تفصله عن العالم المحيط، والسّبب هو المجتمع الذّكوريّ الذي أقصاها عن مركز الحريّة والفعل فيه. وعليه تعطّلت قدرتها على الحكي. إستطاعت "جميلة" أن تُعيد لها الصّوت من عمق الماضي الأليم، وكذلك هويتها المفقودة، واستطاعت على إثرها أن تُعيد لنفسها لغتها الشّعريّة من جديد. كان الرّاوي في الفصل الأول من الرّواية هو "الأنا" وهو صوت الرجل الذي يُعرّفه الكاتب بالضّمير، وفي نظري هو عقاب للسّلطة الذّكوريّة حين حُرّم من التّسمية. أمّا الرّاوي في الفصل الثّاني فهو الأنثى "جميلة حسن" التي تتسمّى بإسم مضاعف في لفظه ومؤكّد في معناه، وهو من الجمال والحُسن.

كان الرّاحل "الناطور" في هذه الرّواية مشغولاً بنصرة المرأة بصفة أساسيّة، وليس بهزيمة الرّجل، لأن الرّجل لا يُهزم كما يراه الكاتب. وهكذا وُلدت "زينات" من جديد، وصارت أنثى ناعمة وجميلة، وتخلّصت من مظاهر ذكوريّة شوّهتها وأربكتها، لكن كان ذلك بعد فوات الأوان. لقد حرص الكاتب في مواضع عديدة أن يوظّف بعضًا من الإشارات المسحوبة من الحقل الدلاليّ السّياسيّ، على النحو الذي نجده في نهاية الرّواية تمامًا في جملة مفردات: تحرّر، ميدان، حكّام، رئيس ... وبقي حذرًا في تجاوز المسموح إلى الممنوع في هذا السّياق تحديدا. لكن القارئ يستطيع، إن هو أصرّ على ذلك، أن ينقل الرّواية إلى فضاءات مختلفة ما دام الكاتب قد حدّد مجالها الفكريّ العام. "زينات" تحرّرت من تبعيّتها للّخرافة الشّيشانيّة، وهي في الأصل شخصيّة خياليّة ، مثلما قد يتحرّر الشّعب الفلسطينيّ من تبعيّته لوهم العالم العربيّ، وإستعادة صوته الفلسطينيّ الخاص الذي لا يُحسن التعبير إلاّ به. فقد كشفت هذه الرّواية المعاصرة عن إشكاليات البديهيّات التي تُشير إلى التماثل المتداول بين الوطن والأنتماء من جانب، وإلى المنفى/الشّتات وبين الغربة والإقصاء من جانب آخر، وتهدف إلى إعادة تشكيل هذه العلاقة من جديد.

لقد أدخل الكاتب -رحمه الله- بين السّطور العديد من الأفكار الفلسفيّة في الحياة، وكان أنيقًا في كتابته؛ لأنه يُجيد إختيار الكلمات، كما أنّه يُجيد سرد الحكاية بشكل مشوّق، وتصوير المواقف كذلك. أعتقد أن الأستاذ الرّاحل "سلمان ناطور" بهذه الرّواية حقّق الشيء الكثير؛ ليضع ذكراه في خانة الكتّاب المجيدين، لأنَّ مستوى عطائه كان دومًا متميّزًا وكبيرا.

ثم قرأت الكاتبة "نسب أديب حسين" ما جاد به قلمها عن الراحل.

وأشاد الأديب "جميل السلحوت" بالراحل مستحضرا وعيه المبكر لهويته وانتمائه الواعي الذي كان وراء هذا المشروع الثقافي الذي قدمه للمكتبة العربية والإنسانية

وقدّمت صديقة الندوة "ماجدة صبحي" شهادتها حول الراحل الذي اختار لوحة غلاف كتابه المميز "ستون عاما- رحلة الصحراء" من بين رسومات الفنانة "خلود صبحي" ابنة الصديقة ماجدة، وقرأت حكاية من حكايات الذاكرة التي احتواها الكتاب وهي حكاية عبد الحسن.

وقدّمت "هبة صبحي" شهادتها حول الراحل وتعرّفها على ابنه البكر "إياس" في المسرح. ووصفت سماته الشخصية إنسانا ومبدعا.

وقدّمت الكاتبة الشابة "عرين خليل" تعريفا بالأديب وإبداعاته.

كما تحدثت رائدة ابو صوي بهذه المناسبة.

وسوم: العدد 657