الانتفاضة على نظام الأوغاد
مضى شهر كامل على اندلاع الانتفاضة الثورية اللبنانية، والشعب المنتفض على حكم الأوليغارشية والطائفية ونظام المافيا لا يزال يملأ الشوارع والساحات.
الإنجاز الأكبر للانتفاضة هو قدرتها على الاستمرار وتوسعها الأفقي، والخيال الخلاق الذي يجعلها تستخدم أساليب مختلفة وتتأقلم مع المتغيّرات وتواجه آلة قمعية لا تملك سوى سلاح واحد هو التهديد بالحرب الأهلية.
ويحدثك البعض عن أزمة الانتفاضة! بينما تكمن الأزمة في مكان آخر، إنها أزمة طبقة بكماء فقدت قدرتها على الحكم ولا تستطيع أن تعد سوى بالعودة إلى لعبة الصراع على الكراسي التي سئمناها.
المسألة ليست ثقل دم جبران باسيل، كما كتب أحد الصحافيين في معرض دفاعه عن الوزير المتباكي على شرف أمه! المسألة هي في ثقل دمهم كلهم. كل أعضاء النادي السياسي الحاكم صاروا ثقلاء على العين والأذن.
إنه نظام الأوغاد.
«معجم المعاني» اقترح علينا الكلمة الملائمة لوصفهم، فالوغد هو الأحمـق، الدنيء، الرّذِل ضعيف العقل، وجمعها أوغاد ووُغدان ووِغدان.
المسألة ليست في الفساد، صفة الفاسدين ليست ملائمة، إنهم لصوص، يسرقون مال الدولة والشعب، ينهبون وهم يدّعون الدفاع عن طوائفهم، أو يبيعوننا كلاماً ممانعاً تحوّل إلى أداة لقمع الشعوب.
الأزمة ليست في صفوف الانتفاضة، فالشعب يطالب ولا يفاوض، وعليهم هم أن يجدوا صيغة أو تسوية يدفعون ثمنها وحدهم. لا يستطيع القتيل أن يدفع دية عن القاتل. على المجرم أن يدبّر حاله ويجد حلاً لأزمة سببتها لصوصيته وحمقه ودناءته.
تعالوا نتفرّج عليهم وهم يتخبّطون في محاولة حل الأزمة.
ماذا فعلوا؟
هرّبوا أموالهم هم وشركاؤهم من أصحاب المصارف إلى الخارج وقالوا إن السيولة فُقدت.
تداعوا إلى اختيار صيغ حكومية متذرعين بشرعية مجلس النواب، كأنهم لا يزالون يصدّقون فعلاً أنهم يمتلكون شرعية ما.
حاولوا في البدء حماية الحكومة مختبئن خلف ورقة إصلاحات لا تصلّح شيئاً، وتقترح بيع القطاع العام، من أجل أن يتربّحوا من السمسرة.
سقطت الحكومة في الشارع، فاخترعوا صيغة حكومة تكنو-سياسية، ووجدوا في ملك «الزيتونة باي» السيد محمد الصفدي، بعد بحث مضنٍ عن رئيس للحكومة، ضالتهم.
تصرّف السيد باسيل بصفته وكيلاً على الجمهورية ورئيس ظل، فأفسد الطبخة الصفدية التي لم تكن سوى محاولة فاشلة لترقيع السلطة.
سقط الصفدي في طرابلس قبل أن يُكلَّف، مسجلاً سابقة استقالة رئيس حكومة من دون تكليف ولا تأليف.
إنهم يتخبطون في الحضيض.
يهددون بالحرب الأهلية لكنهم لا يجدون خصماً يريد أن يتكلم معهم لغة السلاح.
يقمعون الناشطين والطلاب على الطريقة الأسدية ثم يُجبَرون على إطلاق سراحهم.
قتلوا الشهيد علاء أبو فخر بصلافة ووقاحة، فأتاهم جواب استمرار الانتفاضة وتجذّرها.
خاضوا انتخابات نقابة المحامين متحدين، تناسوا خلافاتهم المزمنة، ليكتشفوا أن الانتفاضة حققت نصرها الأول في عقر دارهم، وأن المرشح المستقل ملحم خلف، انتصر وسط هتاف المحاميات والمحامين للثورة.
ويسألونك ماذا تريد الانتفاضة؟
الشعب يريد سقوط النظام، والنظام سيسقط؛ لأن طبقة الأوغاد الحاكمة فقدت قدرتها على الحكم، وهي تتفكك بتناقضاتها وعجزها.
هم ينتظرون تعب الانتفاضة، والانتفاضة تنتظر قيامهم بالانتحار.
عليهم أن يجدوا حلاً للكارثة الاقتصادية، فالطبقات المتوسطة والفقيرة ليست مستعدة لدفع الثمن، ولن تسمح لهم ببيع الدولة.
وهم عاجزون وبلا خيال.
خيالهم لا يتعدّى خطاب العمالة للسفارات، وهو خطاب ساقط وبلا أية صدقية، فإذا كان هناك من عملاء للسفارات فهم الزعماء الطائفيون الذين لم يتزعّموا إلا بفضل العمالة للخارج.
انتهت المسرحية الطويلة التي بدأت منذ مئة سنة عندما أعلن الجنرال غورو ولادة دولة الطوائف من قصر الصنوبر، الذي هو ملك للشعب اللبناني، وصار ملكاً للسفارة الفرنسية بفضل منحه من قبل شارل حلو للفرنسيين في زمن الطوائف.
انتهت اللعبة.
لم يعد في جعبة الأوغاد سوى التلويح بالحرب الأهلية.
والحرب الأهلية ممنوعة.
إذا حاولوا القيام بـ 7 أيار جديد فلن يقاومهم أحد بالسلاح.
سنقاومهم بالانتفاضة السلمية المستمرة.
وهم يعلمون ذلك، ويعلمون أن مقتلهم هنا.
لن ينخدع أحد بالكلام الطائفي، ولا بخطاب الحرب الأهلية.
الانتفاضة دفنت الحرب الأهلية، وأعلنت أن هناك شعباً يولد من ركام النظام الطائفي الذي أوصل لبنان إلى حضيض أكبر أزمة اقتصادية في تاريخه.
لا تتلطّوا خلف أصابعكم، لا أحد أجبركم على النهب، نهبتم بملء إرادتكم.
تمتعتم بالغيبوبة الطائفية التي فرضتموها على الشعب، وتنمّرتم وتذأّبتم وبنيتم القصور، وتمتعتم باليخوت، وتزعرنتم، والآن جاء وقت الحساب، وعليكم أن تجدوا حلاً.
وأنتم لا تملكون الحلول.
أوقفوا هذه اللعبة، قبل فوات الأوان.
انصرفوا الآن قبل الغد، اختفوا، فالجمهور انفضّ من حولكم، فأنتم مجرد ماضٍ لم نعد نحتمل رؤيته.
شابات لبنان وشبابه صنعوا وطناً يليق بهم.
وهذا الوطن الجديد هو الأفق والمعنى. إنه جزء من مخاض ولادة النهضة العربية الثالثة.
والنهضة الثالثة تولد اليوم في بيروت وبغداد والخرطوم، وغداً ستستعيد دمشق والقاهرة، وكل عواصم العرب.