مجزرة حماة الكبرى أنجبت عناقيد المجازر
القتل يثمر قتلا لا أمنا ولا استقرارا
زهير سالم*
تعاودنا مطلع شهر شباط أجواء مجزرة حماة الكبرى عام 1982 ، تعود بنا الأحداث الحاضرة دائما في القلوب والعقول عودا بعد عود فكأنها ما غابت ولا يمكن أن تغيب ...
كتبت في مثل هذا المقام منذ ربع قرن ( حماة المجزرة ليست ذكرى .. ولا يمكن أن تكون ) . وها نحن نعلم نبأ ذلك القول اليوم . لا يؤلمني كثيرا أن يتهمني بعض الذين لا يرون لله سنة ، ولا للتاريخ سيرورة ، بأني مجرد لاعب بالكلمات يختبئ وراء البلاغة وفنونها، في محاولة منهم لتجاوز استحقاقات الوقائع والقفز فوقها والتخلي عن مسئوليات تحملوا أمام الله والناس أمانتها ..
أكتب اليوم وشجرة القتل التي دسها حافظ الأسد وفصيلته في أرضنا تثمر عناقيد من المجازر، لتظل مجزرة حماة الكبرى بكل عنفها وتوحشها وعمقها واتساع دائرتها هي المجزرة الأكبر التي جرأت القتلة المجرمين المستبدين على كل ما كان بعد وعلى كل ما يحدث اليوم بعد عقود من السنين ..
اليوم في تقرير أممي للجنة التحقيق الدولية ، المشكلة بموجب قرار الأمم المتحدة ، تؤكد المسؤولة الأممية ( كاريلا دو بونتي ) في لجنة التحقيق الدولية في شهادتها القريبة : (إن الجرائم التي ترتكب في سورية تفوق كل الجرائم التي تمت خلال حرب يوغسلافيا السابقة ) . وقالت المسؤولة الأممية في تصريح في جنيف ( في سورية يتم القتل دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال . وتنتشر عمليات التعذيب ويتم التعذيب ببطء حتى يأتي الموت بطئيا ) . شهادة تؤكد أن المجازر التي ارتكبها صرب يوغسلافيا بحق مسلمي البوسنة والهرسك هي المجازر نفسها التي يرتكبها اليوم ( صرب المنطقة ) الأسديين وأشياعهم من إيران والعراق ولبنان في سورية وعلى أبناء الشام المبارك . إن شهادة الحق التي أدلت بها المسؤولة الدولية تفرض على المنصفين أن يعترفوا أن ما جرى على سكان المنطقة الحقيقيين منذ تل الزعتر والكرنتينا ومجزرة حماة الأولى وكذا مجزرة جسر الشغور وإدلب وسرمدا وحلب ثم مجزرة حماة الكبرى وما تلاها يبيح لكل شاهد منصف أن يكتب للتاريخ إن ما جرى على أهل سورية وفلسطين ولبنان على أيدي حافظ وبشار وأشياعهم يفوق ما ارتكبه الهوتو في رواندا من مجازر وما ارتكبه النازي القبيح في الهولكست من جرائم ...
في ظلال الحديث عن المجزر الأم بكل ما صاحبها من قتل ودماء وأشلاء ودمار وتوحش وعسف سنؤكد للمرة الثالثة والثلاثين أن الدم يستتبع الدم . وإن شجرة الدم لا تنبت أمنا ولا سلاما ولا استقرارا ، وهو الأمر الذي راهن عليه طويلا المتواطئون مع المجرمين ، الذين صمتوا وما زالوا صامتين عن جريمتهم . إن ما تعيشه سورية والمنطقة اليوم هو بعض الثمرات المرة لتلك المراهنات أو المراعنات الدولية الحمقاء
لن نبدئ ونعيد في أحداث المجزرة وفظائع ما ارتكبه المجرمون فيها ، والدلالات النفسية لتلك الارتكابات . ولكن من حقنا أن نسأل الذين غطوا على المجزرة ، وتستروا على مجرميها ، وقبلوا أن يتعاملوا مع اليد الملطخة بدماء الأجنة في بطون الأمهات : ألم يحن الوقت لينشروا على العالم ما رصدته أقمارهم الاصطناعية في سماء حماة في شهر شباط 1982 ، آما آن لهم أن يكشفوا للعالم صور الجريمة موثقة وهم الذين اجتمعوا في باريس بالأمس ليتحدثوا عن حرية الرأي وشفافية الإعلام؟!
نحن لا نحتاج إلى هذه الصور في أحداث عشناها ، فأصوات استغاثة المستضعفين الذين عدا عليهم المجرمون ما تزال وستظل تملأ أسماعنا ، شلال الدم المتدفق من القلوب الصغيرة ما يزال يملأ أعيننا ؛ نحن نطالب بهذه الصور فقط لنجعل هؤلاء المتجلببون بجلابيب المدنية والحرية وحقوق الإنسان يقفون عراة أمام مرآيهم ، أمام جيل جديد من أبناء الإنسانية الذين سنظل نراهن على عقولهم وقلوبهم.
المجزرة الأم وسوابقها وما صاحبها من مجازر هي التي شجعت المجرم الابن في 2011 على أن يمضي سريعا ، طريق المجرم الأب ، طريق الدم وليتفوق عليه فينفذ في غضون أربع سنوات عناقيد من المجازر الوحشية تتم جميعها تحت الغطاء نفسه من تواطؤ وصمت عالم الاستكبار والإثم والعدوان ..
لقد أيقن المجرم بشار ، أخذا من درس أبيه ، أن بإمكانه أن يقتل بلا حدود ، وبكل وسائل القتل وأساليبه بالترويع والتجويع بالقصف والتدمير بالغاز الخانق أو بالنابلم الحارق ثم يجد نفسه مؤهلا في عالم تسوده الجريمة والمجرمون أن يخلع في لحظات ثياب الجزار ، وأن يمد يده ليصافح في عالم الجريمة أكبر الكبار ممن يسمون أنفسهم قادة وزعماء وسياسيين ...
يعيش شعبنا اليوم أجواء المجزرة الكبرى ، والدم ما يزال يخد أخاديده على ثرى الشام الطهور في حماة وفي حمص وفي غوطة دمشق الفيحاء وعلى جبهة حلب الشهباء في حوران والساحل ودير الزور ، يعيش شعبنا الملحمة وهو أكثر إصرارا على السير في طريق الحق ، طريق العدل والحرية والكرامة ..
رسالتنا اليوم إلى كل المراهنين على سياسات الإخضاع أو الإنهاك بالقتل أن القتل لا يثمر إلا القتل . رسالتنا إلى المتواطئين مع القتلة المجرمين دعما أو تشجيعا أو صمتا فليس بيننا وبين هؤلاء القتلة بعدُ أي رسائل . نؤكد للمسترسلين في منح الرخصة بقتل السوريين ، وشن حرب الإبادة عليهم : أن الدم يستتبع الدم . وإنكم كما علمكم السيد المسيح ( إنكم لن تجنوا من الشوك العنب ولن تجنوا من الشوك إلا الشوك ) ...
بقلوب مؤمنة خاشعة تستنزل الرحمة والرضوان على أرواح شهداء المجزرة الكبرى وأرواح شهداء سورية وفلسطين ولبنان الذين قضوا على أيدي ( القاتل المعتمد ) الذي كان وما يزال ..
وبقلوب مؤمنة ثابتة تملؤها العزيمة والتصميم نمضي على طريق الحق ، وطريق العدل ، العدل الذي يحقق السلام لأرواح الشهداء ، والكرامة والحرية للإنسان ...
يطلقون أيدي المجرمين بالقتل والتدمير ثم يلقون علينا المواعظ في العفو والصفح . ويحدثوننا دون ملل عن اليوم التالي و الحل السياسي والعدالة الانتقالية ..
لكم الله
ثم ما تجني سواعدكم أهلنا في الشام ..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية