بشار الأسد يُرّحل الأب باولو عن سورية
يعز علينا أن تفارقنا
زهير سالم*
سيغادر الأب ( باولو دالوليو ) المقيم في سورية ، حبا بها ، أرض النبوات اليوم أو لعله غادرها بالأمس مرحلا بأمر بشار الأسد . لم نشأ ان نستعمل الكلمة العربية المعبرة عن الحالة العملية لأمر الترحيل ، احتراما لمقام الرجل الذي اختار الشام موطنا فأحب أهلها وأحبوه .
في دير ( مار موسى الحبشي ) للسريان الكاثوليك في قلب جبال القلمون ، منتصف الطريق بين حمص ودمشق عاش الأب باولو أكثر من ثلاثين عاما يحمل رسالة الحب والسلام والإخاء . يغادر الأب باولو سورية وقلبه معلق بترابها وإنسانها ولسان حاله يقول : ولولا أن الطاغية أخرجني منك ما خرجت .
وقبل أن يلجأ الأب باولو إلى السفارة الإيطالية أو ربما يتوارى فيها كانت قد صدرت بحقه منذ الميلاد الماضي مذكرة إبعاد أو توقيف . ففي ظل سلطة التشبيح الأسدية تختلط الأمور فلا يميز الإنسان الاعتقال عن الطرد عن الترحيل . لقد ظل الأب متواريا بعيدا عن يد الطغاة لأيام طوال . وكانت الجريمة التي ارتكبها الراهب الإنسان أنه دعا في ( رسالة الميلاد ) بشار الأسد إلى الاعتراف بالتعددية الحقيقية والإقرار بالحريات ، والمحافظة على سلامة الشعب السوري . وحذر من خطورة تجاهل هذه المطالب التي أصبحت الخبز اليومي لشعوب الأرض قاطبة . أي أنه دعاه إلى جوهر ما دعا إليه المسيح ومحمد قبل أن يعرف العالم مواثيق حقوق الإنسان . التي تتكشف اليوم مع الصمت عما يجري في سورية عن كذبة كبرى في أقدس مقدسات ثقافة العصر الذي نعيش .
كانت جريمة الأب باولو أنه أطلق دعوته تلك ، وأكدها بأن طالب بكامل الاحترام للمستشفيات والأطباء والممرضين ليقوموا بأعمالهم بشكل إنساني حيادي ؛ لقد أصبح في تصنيف بشار الأسد إنسانا غير مرغوب فيه . وربما كان يطيب لشبيحة الأسد أن يتهموا ( الأب ) المتحدث عن حق الرب والعبد بأنه إرهابي أو سلفي أو أصولي أو من الإخوان المسلمين !! ولعل جنسيته الإيطالية وليس ديانته المسيحية هي التي منعتهم من ذلك . لدينا العديد من الحالات التي اعتقل فيها مواطنون سوريون مسيحيون بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين على خلفية مطالبتهم بالحرية والعدل !!!
وفي الوقت الذي يتمادى فيها العديد من أصحاب العمائم والقلانس في الاستغراق في لعبة التشبيح الأسدي وفي العبث بكلمات الله ، أو في التخويف من الشباب المطالب بحقه في الحرية والكرامة فيزيفون ويخادعون ؛ كان الأب باولو من القليل أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض ...
وفي الوقت الذي يعلن فيه البعض اتحادهم مع ادعاءات الفاسدين والسراق والكذابين فيعبرون عن مخاوف من زوال سلطتهم ، أو تقلص ظلهم ، وكأن شباب سورية المطالب بالعدل وبالحرية وبالأمن والأمان هو الذي فرّغ بيوت اللبنانين أيام مد الأخطبوط أذرعه هناك ، وكأن هؤلاء الشباب الذين يلهجون باسم الله ( الحق .. والعدل .. والسلام .. ) هم الذين اختطفوا أبناء لبنان فغيبوهم عن أعين وقلوب أمهاتهم وأسرهم ؛ في الزمن النفسي الكئيب لهؤلاء الذين يأتمنون الذئب ويحتمون به ؛ كان الأب باولو يمد جسورا وينسج حبالا للوصل مع هؤلاء الشباب الحر الجميل..
ومنذ مطلع هذا الشهر وقبل أن يغادر الأب باولو الوطن الذي عشقه توجه إلى ( القصير ) إلى قلب الملحمة ليتبرع هناك بدمه ، فيؤكد الأواصر ويعالج بالكلمة الطيبة المشتركة بعض الجراح .
يؤمن الأب باولو كما يؤمن كل العقلاء أن على من يريد أن يعيش في ظلال الحب أن يعرّش دواليه . وأن على من يحرص على العدل أن يروي غراسه. وأن على من ينادي بالإخاء أن يؤمن بكرامة الإنسان . وأن من يدعو إلى الحب والعدل والإخاء لا يحتمي برواق الظلم ، ولا يوظف كلمات الله في خدمة القتلة والجزارين . يتساءل كل العقلاء كم هم حمقى وكم هم قساة أيضا أولئك الذين يظنون في الظالم المستبد حبيب الفناء عدو الحياة راعيا لوجودهم أو حاميا لأمنهم أو حتى لمصالحهم .
في القصير جلس الأب باولو على بساط الثوار الأحرار ، وأكل من خبزهم ليقول لهم ببساطة وثقة ( البقية من النصارى أمانة في أعناقكم بوصية من رسول الله عليه السلام . ) وليضيف ( سورية التي نضحي جميعا في سبيلها سوف تحترم الإنسان بالدرجة الأولى . إن مجتمعا متنوعا كهذا عليه أن يستفيد من حسن الجوار ومن الأساس الاجتماعي وخصوصيات سورية الرائعة حتى نبني الظروف الثقافية الحضارية لاجتياز نظام لا أحد يريده حتى أصحابه ...)
تقبل الثوار الوصية بالرحابة والترحاب قالوا إن تلك الوصية هي التي حفظت جمالية هذا المجتمع على مدى ألف وخمس مائة عام . لم يعرف فيها هذا المجتمع إقصاء ولا استئصالا ..
الأب باولو .. نعما ما أوصيتنا بهم ولا نظنك ستنسى أن توصيهم بنا . وكم يعز علينا أن تفارقنا ؟!
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية