مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ..!!
إبراهيم سعد الدّين
الآن.. بعد أن خَفَّتْ حِدَّة القصْف الإسْرائيلي لأحياء غَزّة (مع احتفاظ المُعْتَدي طبعاً بِحَقِّ العودة إلى القصف في أيّ وقت)، وبعد أن انسحبتْ دَبَّابات العدوّ الإسرائيلي من المواقع التي هَدَّمتْ بيوتها وجَرَّفتْ حقولها وأحالتْ خُضْرَتَهَا جَدْباً وعُمرانها خَراباً وأحياءها شُهَداءَ وجَرْحى ويَتامى وثكالى ومُشَرَّدين في العَرَاء ـ الآن بوِسْعِ العَيْنِ العَرَبِيَّة أن تنامَ قَريرةً فلا يُؤذيها مَشْهَدُ مَذْبَحِةٍ هُنا أو هناك، وبمقْدُور الضَّمير العَربيِّ أن يهجَعَ مُرتاحاً فلا تُؤرِّقه صَرخاتُ أو صَيْحاتُ وَجَعٍ أو نِدَاءُ استِغَاثة. أمَّا شهداؤنا الذين تجاوزَ عددهم المائة وعشرين شهيدا ـ بعضهم أطفالٌ رُضَّعٌ ونساءٌ وشيوخ ـً فحسْبهم أنهم نالوا شَرَفَ الشَّهادة. وأمَّا جَرْحانا الذين هم بضعُ مئاتٍ ممن بُترتْ أطرافهم أو شُجَّت رؤوسُهم أو بُقِرَتْ بطونهم في قصفٍ وَحْشِيّ غاشمٍ، أو قذائف محمومة لا تُميِّزُ بين أهدافها ـ فسوف تنفتِحُ أبوابُ المُستشفياتِ العربية في كََرَمٍ عَرَبِيٍّ أصيل لاستقبالهم. هكذا نُبْرئُ سَاحَتنا أمَامَ الله وأمامَ أنفسنا وأمام التاريخ..!! أليسَ هذا هو السيناريو الذي يتَكَرَّرُ مع كُلِّ عدْوانٍ ونزيفٍ للدَّمِ الفلسطينيّ خاصَّةً والدَّمِ العَرَبِيِّ على وجه العُموم..؟! الفَارقُ الوحيد هذه المَرَّة هو فارقٌ كَمِّيٌّ فقط يتَمَثَّلُ في كَمِّ الدَّمِ المَسْفوح والأطراف المُتناثرة والجُثث المُشَيَّعَةِ في نعوشِها. لا بأس.. فقد عَوَّدَتْنا المِحَنُ المُتتالية والمجازرُ المُتَعاقبة والضَّرْبُ المتَوَالي في مواقعِ أجسادنا الحَسَّاسة أن كثرة البكاء تُميتُ القلب، وكثرة المصائب تُميتُ الحِسّ فتتبَلَّدُ مشاعرنا، وتَسْمُكُ جلودُنا، ويَصيرُ الصَّمتُ ملاذَنا الآمن، حتى يتَكَفَّلَ الزَّمَنُ بمداواة الجُروحِ وتخفيف الفَجَائعِ انتظاراً لِعدْوانٍ آخر.
أمّا القَتَلةُ والسَفَّاحون الذين تلَطَّختْ أيْديهم بدمائنا فسَوفَ يُفلتون أيضاً من كُلِّ عقابٍ أو حِسَابٍ أو حَتَّى عِتابْ وينامون هم أيضاً قريري العَيْن، ما دام الفيتو الأمريكيُّ يمنحهم حصانة مفتوحة، والصَّمتُ العَرَبيُّ يَمْنحهم سِمَةَ مُرورٍ على أجسَادنا، ويفتَحُ لهم بَوَّابَةً للدُّخول والخُروجِ والولوغِ في دَمنا دون كلمةِ اسْتِنْكَارٍ أو مَسِيرةِ رَفْضٍ واحْتِجَاجْ.
وأمَّا أنتُمْ أيها القَابضون على جَمْرِكم وجُرْحِكم في غَزَّة وكُلِّ شِبْرٍ فلسْطينيّ مُسْتَهْدَفٍ بالجرائم الإسرائيلية شِبْه اليَوْمِيَّة، فلا تُؤَمِّلوا في مُعْتَصِمٍ أو صَلاح الدِّين يأتيكم من فِجَاجنا العربية المُستباحةِ بفضائياتِ العُرْي ومواخيرِ الفسادْ، فأرْضُنا ما عَادت تُنبتُ غير الصَّبَّار، وواقعنا ما عاد يُفرخُ غير أطروحات الاستسلام والخِزْيِ والعَارْ. العَدُوُّ من أمامكم ومن فوقكم ومن خلفكم ـ أرْضاً وبَحْراً وجَوّاً ـ ولا بَديلَ لكم عن وحْدَةِ الصَّفِّ ولأْمِ الجراحِ وتجاوز كُلّ أسباب الشِّقاق والانقسام من أجل مواجهةِ عَدُوٍّ لا يعرفُ غير لُغَةِ القُوَّة، ولا يَفْهَمُ سوى مَنْطق السِّلاح وحوار المقاومة. أولئك الذين يُرَاهنون على فِتَات دَوْلَةٍ أو شَبَحِ استقلالٍ أو شِبه سَلامٍ يجودُ به العَدوّ والإدارة الأمريكية المُتواطئة معه ـ واهمون.. واهمونْ. فمولد أنابوليس انْفَضَّ دون حتّى وعودٍ كاذبة، ولم يَتَمَخَّضْ إلاَّ عن سَرَابٍ جديدٍ ووَهْمٍ مُتَجَدِّد، بل ابتدعَ هواناً جَديداً وخَراباً مُتَجَدِّداً في مُصْطَلَحِ "الدّولة اليهوديّة" الذي سوف يُضيفُ بضعةَ ملايين أخرى من فلسْطينيّي الدَّاخل إلى الشِّتاتِ ومُخَيَّماتِ اللاّجئينْ.
وأمَّا نَحْنُ ـ أعْرَابُ القَرْن الحادي والعِشْرين ـ الذين أصابهم الخَرَسُ وشَلَّ الخوفُ ألسِنَتهم، واستوطَنُ السُّكوتُ على الهوانِ قلوبهم فلا أجِدُ ما هو أبلغُ من قَوْلِ الشّاعرْ:
من يَهْنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عليْه مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
لَقَدْ هَانتْ عليْنا أنفسنا فصَغُرْنا في أعْيُنِ العالم حتّى تَلاشَيْنا.