جيوس يا قريتي الخضراء
الهمسة الأولى
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
(جيوس: منظر عام وعدسة زياد جيوسي)
ذلك الصباح كان مميزا في حياتي بجماليته، فقد صحوت مبكرا على صياح الديكة وهديل الحمام وزقزقة العصافير وشدو قطرات المطر، فهل أجمل من هكذا صباح في جيوس بلدتي وبلدة أجدادي والتي تضم رفاتهم؟
منذ فترة طويلة وأنا أتجول في المناطق والبلدات لا أحمل معي إلا روحي وقلمي وعدستي، فجلت بلدات ومناطق كثيرة في الوطن وكتبت عنها حينا ونثرت في الفضاء صور عدستي حينا آخر، لم تكن جيوس تفارقني أبدا، ورغم أني التقطت عشرات الصور في زيارات عدة لجيوس، إلا أن نشري لها كان محدوداً، ربما هي أنانية العاشق الذي يخاف على معشوقته من عيون الآخرين.
ودوما كنت أتلقى ملاحظات من أبناء بلدتي منهم من أعرفه، ومنهم من لا أعرف من الجيل الشاب الصغير في العمر، ودوما يناشدوني أن اكتب عن جيوس بقلمي وأوثقها بعدستي، وكنت أعدهم بذلك ولكني كنت لا أفي بوعدي بسرعة، جريا على عادتي حين كنت أتلقى دعوة لزيارة بلدات الوطن، تاركا المجال لإشراقة اللحظة حتى تشرق، فالإنسان بحق نفسه ضعيف، ولم يكن من السهل أن أجول جيوس لأكتب عنها، فحجم المشاعر التي تنتابني وأنا أجولها أشعر بها أكبر، بكثير من أن يستطيع قلمي أن يعبر عنها، ورغم أني كتبت أكثر من مرة عنها، إلا أني لم اشعر أني استطعت التعبير عما يجول في روحي، فكتبت حين حرمت منها (ذاكرة جيوس)، وكتبت حين عدت لها وعانقتها: (عائد إليها)، وكتبت مرة وأنا محروم من زيارة أراضيها الزراعية التي استولى عليها الاحتلال خلف الجدار: (تنهدات جيوس فراشة أم ضوء).
(جيوس: المباني الحديثة)
ذات مرة وصلتني ملاحظة من شابة لم أعرف من هي، ووعدتها كما وعدت غيرها أن اكتب ذات يوم، ولكني فوجئت حين أعلمتني من هي وابنة من، وتبين أنها ابنة أحد أبناء عمومتي وهو صديقي في نفس الوقت، فأصبحت ملزما أكثر بالوعد؛ وخاصة بعدما شعرت بحجم الانتماء الذي يجتاح روحها وحبها لبلدتنا، وأثناء زيارة عابرة بمناسبة اجتماعية زرتهم والتقيتها، وتذكرتها وهي طفلة حين كنت أزور بيتهم، وأصبحت الآن شابة أنهت دراستها الجامعية وتحلم بغد أجمل، فقلت لها: هند يا عمي.. وعدتك أن أكتب عن جيوس وسآتي قريبا لأصور وأكتب.. هذا وعد وإن تأخر قليلا.
(جيوس: هنا كانت حكايات الأجداد)
نفذت وعدي وكنت أجول دروب جيوس صبيحة 24/12/2011 حاملا عدستي ومتأملا بنظرة أخرى الجمال وعبق التاريخ او لنقل ما تبقى منه، فبكل أسف أن الأبنية التي كانت تحمل هذا العبق والتراث لم يتبقى منها إلا القليل المهمل، واستبدلت بيوت (العقد) الجميلة بشكلها وأساليب البناء فيها بالعلب الاسمنتية الباردة والتي تخلوا من الجمال، حتى البناء باستخدام الحجر تقلص كثيرا، ففقدت جيوس كما العديد من بلداتنا عبقها والجمال ورائحة الأجداد وتعب سواعدهم، وما زلت أذكر أحاديث والدي أطال الله بعمره عن جيوس القديمة، وكيف كان التنقل للمرأة فيها عبر رواق يمر من أسطحة البيوت، وما زلت أذكر درب الزقاق والذي تعود قسم من ابنيته للفترة الصليبية، حيث كانت الحجارة المحفورة عليها الصلبان موجودة، والذي حين عدت لجيوس بعد 30 عاما من الغياب القسري بسبب الاحتلال في العام 1995، وجدته مهدوما بقرار من المجلس البلدي في تلك الفترة، فتألمت كثيرا ولم أجد عذرا مقبولا لما جرى، فالإدعاء أن الهدم لتوسعة الشارع عذر غير مقبول، وكان الأولى ترميم الزقاق بأكمله ليكون واجهة ثقافية وفنية وتراثية لجيوس التي أنجبت الشاعر الكبير عبد الرحيم عمر، التي عرفت منذ فترات متأخرة من الزمن، لكن وبكل أسف جرى الهدم ورميت الحجارة في طريق الواد، وربما سرقها الاحتلال كعادته ليعيد البناء في العمق الفلسطيني، مدعيا أن هذه الأبنية هي تراث أجدادهم.
(جيوس: نافذة تراثية في بيت حلمي الخريشة)
جيوس هذه البلدة الصغيرة والجميلة ترتفع عن سطح البحر حوالي 320م، وتقع على الطريق الرئيس بين طولكرم وقلقيلية عبر محور الكفريات، وتبعد عن الطريق الرئيس بين نابلس وقلقيلية حوالي 4كم، وتبلغ المساحة الكلية لأراضيها 12600 دونم، وتحيط بأراضيها أراضي قرى صير، وكفر جمال وفلامية وعزون وأراضي مدينة قلقيلية، وتزرع فيها الأشجار المثمرة كالزيتون والحمضيات وتعتمد الزراعة على المياه الجوفية ومياه الأمطار، وقد أصبحت كافة آبار الماء خلف الجدار البغيض الذي سرق الأرض والأحواض المائية بقرار من الاحتلال الصهيوني الكريه، .وللبلدة أراضٍ في السهل الساحلي وتسمى غابة (جيوس) جرى احتلالها عام 1948 عام النكبة الفلسطينية.
(جيوس: بعض من الكهوف التي تروي الحكايات)
جيوس ضاربة القدم في التاريخ، وتشير الآثار إلى أنها تعود كمركز عمراني إلى الفترة الرومانية والبيزنطية، كما تشير لذلك الآثار التي كانت في (خربة نشة) من خرب جيوس، والتي احتل نصفها عام النكبة، ووجد فيها أعمدة من المرمر وفخاريات ومغائر وذهب قديم استولى عليه الاحتلال، وحسبما أفادني المهندس والصديق وصفي قحوش (أبو رائد) أن خربة نشة كان لها بوابة تم إزالتها في أواخر فترة الحكم العثماني، حيث كانت المنطقة عبارة عن معسكر للجيش العثماني من ضمن مجموعة معسكرات تصل إلى وادي عويضة شمال البلدة، ولا اعرف إن كانت عملية الإزالة للسرقة أم لنقلها واستخدامها بأحد القلاع في المنطقة، وحسبما روى لي أبو رائد عن والده المرحوم الحاج عثمان قحوش، أن صرير هذه البوابة كان يسمع من جيوس، وكما أشارت المغائر والكهوف التي كانت مسكونة والتي تقع تحت البلدة الحالية، أنه ربما يكون تاريخ جيوس أقدم من فترة الرومان أيضا، لكن بكل أسف أن هذا التاريخ غير موثق من خلال دراسة ما يمكن من آثار، ولا يوجد حفريات للبحث عن التاريخ، ولم تشهد المغائر تحت جيوس الحالية وحولها، إلا حفريات من لصوص الآثار وسرقة آثار كثيرة من قبل الاحتلال، وتشير بعض المصادر التاريخية أن الصليبيون أعادوا بنائها وأسموها (لارجيوس) والتي حرفت إلى جيوس لاحقا، بينما ينسب البعض اسمها إلى تجمع الجيوش فيها بحكم موقعها الاستراتيجي بالقديم، فيقال أن اسمها كان (جيوش) ثم حرف إلى جيوس عبر الزمن.
(جيوس: بوابة تراثية)
منذ الصباح كنت أجول البلدة مستغلا تحسن الطقس نسبيا لأتمكن من التقاط الصور بشكل واضح، فتجولت أطراف البلدة حتى الجدار، لأنتقل بعدها لقلب البلدة، فجيوس قرية صغيرة وإن شهدت امتدادا محدودا، فمعظم أراضيها الغربية أصبحت خلف الجدار البشع، وامتدادها بالجهات الأخرى ليس سهلا، وإن تم التوسع بصعوبة لطبيعة الأرض، فتجولت وسط البلدة متأملا ما تبقى من بقايا أبنية تراثية، واحتسيت القهوة مع ابناء العمومة شفيق وحلمي الخريشة، ومن ثم نزلت معهم لتصوير مغارة الشهيد، وهي مغارة مهملة ويروى أن أحد المجاهدين طورد من الجيش البريطاني واستشهد على مدخلها، فثار أهل البلدة لمقتله واستشهد منهم سبعة في نفس اليوم.
ثم بدأت التجوال وحيدا في دروب جيوس وأزقتها، فتأملت منطقة تسمى (الهربّه)، لأنها ورغم انخفاضها وتجمع المياه بها، إلا أن المياه تهرب منها بسرعة، وربما تتسرب إلى المغائر والكهوف الممتدة تحت البلدة، لأواصل التجوال وتوثيق اللحظة بعدستي في مناطق عدة في البلدة، بما فيها زيارة المدرسة والبلدية واللقاء برئيس المجلس البلدي بفترة تجوالي الأخ محمد الشماسنة أبو الطاهر، وهو صديق قديم وحدثني الكثير عن مشاريع وأحلام سيأتي أحاديث عنها لاحقا في الهمسات القادمة من مقالات جيوس.
صباح جميل ولطيف، أصحوا من نومي على هديل الحمام على نافذتي، أفتح النافذة وأسقي حوض النعناع والأزهار، أحتسي كوبا من الشاي الأخضر مع روح طيفي التي ترافقني، أحمد الله على نعمائه واستمع لشدو فيروز تشدوا:
(معك راح ابقى يا حبيبي معك، لو دبل الورد و ما عاد في قمر، خلصت القصص و اغاني السهر، معك يا حبيبي راح ابقى على طول، في الصيف وبالشتي و بشمس الحقول، بالليل الغريب عالسفر المجهول، انا يا حبيبي معك معك، يا حبيبي بدي ابقى سنين حتى لو بعدنا و صرنا منسيين، ع سياج الايام بسفر الاحلام انا يا حبيبي معك).
فأشعر بفيروز تخاطب جيوس باسمي، فاليوم ذكرى يوم الأرض، وهل أجمل من وطني ومن الأرض التي لا تكف عن مخاطبتنا جميعا وهي تحلم بالحرية قائلة: صباحكم أجمل..