رحلتي مع مخيم القيادة
د. إيهاب الدالي
كاتب من غزة
بين الحنين إلى أرض الوطن واشتياقي لأمي وأبي وزوجتي وأبنائي وبين رسم طريق القيادة كنت أمضي بخطىً واثقة نحو مستقبل أفضل لوطن يستحق منّا الكثير ، فمنّا من يقف على الحدود ومنّا من يعد العدة من خارج الحدود وهناك من يدعو الرب المعبود.
كانت البداية على المعابر ... ركبنا الباصات التي تقودنا إلى الإسكندرية حيث هناك مخيم القيادية لصنع الرجال الذي أعده معهد إعداد القادة التابع لمؤسسة إبداع ومقرها قطاع غزة، وبصفّ منظم رفعنا أيدينا إلى السماء دعونا الواحد الأحد أن يحفظ لمصر أمنها وأهلها.
وعند وصولنا كان التعب والإرهاق يبدو علينا من معاناة السفر والتي وصفها رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بأنها قطعة من العذاب، في تلك اللحظة كنت واقفاً في الطابور بين زملائي ننتظر توزيع الغرف ولكنني لم أرَ أحداً منهم لأن تفكيري يتجه نحو مكان النوم، وسرعان ما انتبهت لتلك المنظومة التي لا تعرف الكلل إنهم إدارة المخيم الذين فكروا وخططوا ونفذوا وأحسنوا صنعا ، والله لم يناموا كما نمنا ولم يهدأ بالهم حتى اطمأنوا أنّ الابتسامة قد رُسمت على شفاهنا.
ومنذ اليوم الأول بدأ توجهنا إلى القيادة حيث كانت في شتى المجالات من حكومية وأمنية وسياسية ودبلوماسية، وجميعها ترسم الطريق السليم للإعداد السليم للنهوض بشباب فلسطين، بدأناه بصلاة الفجر جماعة وسمعنا درساً عن الصبر، فأثر في نفوسنا مما جعلنا نصبر على البعد عن الأهل وعلى تحمل برامج المخيم التربوية والدعوية والإدارية والثقافية والرياضية وتحمل المسئولية.
وكنا نتنقل جماعةً من الصلاة إلى الدروس الدينية إلى الإفطار الذي يزيد من روابط المحبة، فالكل يجتهد على جمع العديد من الأصدقاء حوله ؛ كي يكون بينهم ما يسمى بلهجتنا (عيش وملح) ، وبعدها بنظام الواحد تلو الآخر وبصمت يخيم على الأجواء تمتلئ قاعة المحاضرات، وكلنا آذان صاغية تستمع إلى المدربين الذين قطعنا المسافات الطويلة واخترقنا الحدود؛ كي نستفيد من خبراتهم.
وأما عن أول لقاء فقد كان مع خبير دولي أتحفنا بما سرده، و يا لها من محاضرة سلبت عقولنا ولم أدرِ هل صدفة أن تكون أول محاضرة لنا عنوانها "تصوراتك سر نجاحك"؟ كان لهذه المحاضرة أثراً إيجابياً في تفكيرنا وسلوكنا وممارساتنا طوال المخيم، ناهيك عن كلام المحاضر نفسه أضحى بمثابة العقل الباطني الإيجابي لنا.
كنّا على علم مسبق أن لنا أخوة في البلدان العربية والإسلامية يعشقون فلسطين وترابها؛ ولكنني وقفت إجلالا وإكبارا أمام دكتورة مصرية الجنسية فلسطينية القلب تروي لنا تاريخنا الفلسطيني ومأساتنا مع اليهود ومع المتآمرين علينا، كأنني أستمع إلى مؤرخ فلسطيني حيث الدقة في الانتقال بين التواريخ وروعة في السرد وإسهاب في الحديث.
وها قد انتصف الأسبوع فكنّا على موعد مع الذين يرسمون لنا طريق الحرية والكرامة، أحد السياسيين الفلسطينيين المقيمين في الخارج، أحببناه عن بعد ورأيناه عن قرب، قبَّلْناه واستمعنا إليه، أردتُ أن أهمس في أذنه قائلاً : "إنّ الشباب المبدع هم أمل الأمة وكنزها الثمين"، أسأل الله أن نلتقي به في المسجد الأقصى.
وأشرقت شمس اليوم الأخير للمخيم الذي كنّا مستمتعين فيه حيث كان الجو حاراً جداً، وكأنّ الشمس تقترب منّا لتودعنا مغطية أشعتها قائلة بلّغوا سلامي لكل المناضلين في أرض الرباط، لكم منّا ألف تحية أينما كنتم.
وكان يوم المؤاخاة .. يوم شعرت فيه كأنني أعيش في زمن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم أن قام بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كتثبيت لدعائم الدولة الجديدة، وهنا كانت المؤاخاة بيننا وبين أخوة لنا في مصر الحبيبة، كل واحد منهم يستضيف ثلاثة منّا في بيته، تناقلنا الأفكار وتعلمنا من تجاربهم وذهلوا من تجاربنا وصمودنا أمام الترسانة العسكرية الصهيونية، وذرفت عيناي دموعاً عندما اقترب موعد فراق ذلك البيت الإيماني الذي استقبلونا فيه محمولين على الأكتاف فرحين بنا، قبّلوا رؤوسنا، إنّهم يعشقون تراب فلسطين ورائحتها .
وأزف الرحيل..!، فركبنا الباصات حيث وضعت حقيبتي في آخره وأسندت رأسي لارتاح قليلاً، ومرّت أحداث المخيم أمام مخيلتي وكأنها شريط من الذكريات، محاضرة علمية، وأخرى سياسية، وغيرها إعلامية، ومباراة كرة قدم، ولعب التنس، والسباحة، وكذلك مقابلة بعض الوجهاء والمسئولين، وحضور ورشات عمل، وكأنّي أرى زميلي الذي كان ينام في السرير المقابل لي قد أصبح قائداً في مجال الهندسة المعمارية يخطط للبنية التحتية للدولة الفلسطينية، وزميلي في الغرفة الأخرى قد أصبح إعلامياً بارزا على المستوى الدولي، يُعْرف بقلمه للدفاع عن الحق وفضح جرائم الاحتلال، حينها استيقظت فوجدت نفسي على بوابة المعبر الذي تركناه يفصل الحدود بين قلوب الأحبة وأيقنت أنني فعلاً كنت في رحلة القيادة.
مادام في السماء من يحميني فليس في الأرض من يكسرني .