حمص تروي الحكاية 1
الحلقة الأولى: همسات حمص
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
حمص في الليل من أعلى القلعة – عدسة: زياد جيوسي
حين أقرر مغادرة رام الله مسافراً تنتابني دائماً حالة من القلق، إذ أشعر أنه من الصعب عليّ أن أترك رام الله خلفي، على الرغم من أن رام الله ترافقني دائماً في حقائب القلب، وعمّان تنتظرني بلهفة العشاق.
غادرت رام الله في الثانية بعد ظهر يوم الخميس الحادي عشر من تشرين ثان للعام ألفين وعشرة متجهاً إلى عمّان الهوى، وفي الطريق كانت مشاهد المستوطنات المغروزة في رؤوس الجبال كأنها طعنات في القلب، تثير القرف والغضب في الروح، حتى وصلنا إلى استراحة أريحا لتبدأ معاناة الخروج مع الاحتلال الذي يتحكم بكل صغيرة وكبيرة من إجراءات المغادرة، والذي منعنا من المغادرة وأغلق المعبر بعد أن وصلت الساعة التاسعة والنصف ليلاً، وعدنا إلى رام الله بعد منتصف الليل، لتضمني رام الله من جديد وتحنوا عليّ، وتمنحني الحب والشوق والعشق حتى تودعني في الفجر إلى ربى عمّان لأعانقها بعد اثنتين وعشرون ساعة من المعاناة التي فرضها الاحتلال، فتفتح ذراعيها وتحضنني بكل المحبة، وتسكب عليّ شلالات من مشاعر الحب والحنان، فليس هناك من حبٍّ يأسرني كما ربى عمّان، حيث ألتقي بعض الأحبة والأصدقاء، وأصوم يوم وقفة عرفات وأمارس طقوس العيد في أول يومين.
حمص: شارع الحميدية ومئذنة مسجد الدالاتي المشهورة- عدسة زياد جيوسي
في عمان شدني الحنين لزيارة مدينة حمص في سوريا، فأول وآخر مرة التقيتها فيها كانت سنة (1973) وما زالت تنقش ذكراها في الذاكرة، وفي السنوات الأخيرة عاد إليها أبو شمس، أحد أبنائها وهو من أعز أصدقائي منذ فترة الدراسة الجامعية، وكنت قد وعدته بزيارته وحمص حين تتاح لي الفرصة، لذا قررت وزوجتي السفر إلى حمص في صبيحة الخميس الثامن عشر من تشرين ثان ثالث أيام العيد، فركبنا السيارة متوكلين على الله إلى مدينة حمص، وما أن عبرنا الحدود السورية حتى شعرت بروحي ترف وتحلق بالفضاء، وما أن أطللت على مطالع دمشق حتى ألقيت عليها السلام واعداً إياها باللقاء حين العودة من حمص، وواصلنا الطريق إلى حمص حتى وصلناها عصراً، والتقينا أصدقاء العمر بعد مرور خمسة عشر عاماً من الغياب عن بعضنا، فكان لقاء الأصدقاء ولقاء حمص، التي بدأت منذ لحظة إطلالتنا عليها تروي لنا الحكاية، حكاية التاريخ وحكاية الحاضر، وتهمس بأذني بأجمل الهمسات التي بدأت روحها تهمس بها، فبعد أن ارتحنا من السفر وتناولنا أطيب الطعام من تحت يديّ سيدة البيت، حتى خرجنا برفقة صديقي وزوجته في المساء بجولة في السيارة في أنحاء المدينة، لتكون مقدمة لنا للإطلالة على بهاء المدينة التي تغيرت كثيراً عما عرفته في زيارتي الأولى، ونعود بعدها لنسهر ونستعيد الذكريات وما مرت به حياتنا في فترة الغياب الطويل، فكل منا تعرض لظروف صعبة.
كعادتي صحوت مبكراً والجميع نيام، خرجت إلى الشرفة فتنشقت عبق ياسمينة ألقت عليّ الصباح، ولعل ياسمينات رام الله أبلغتها أنني عاشق للياسمين، فرحبت بي، وجلست في الشرفة والشمس الناعمة في الصباح المبكر، أسجل ملاحظاتي عن الوصول للحورية حمص والجولة الليلية في حواريها، في الدروب والأزقة والجمال، وعن لقاء صديقي بعد الغياب، حتى نهضت زوجتي من نومها، وصحا أهل البيت جميعاً من نومهم، احتسينا القهوة معاً، واستعدت وأبو شمس بعضاً من طرائف فترة الدراسة في بغداد، وأسماء أصدقاء لنا من زملاء وزميلات الجامعة، وذكريات تخصنا ونحن شباب متحمسون مفعمون بالحيوية والصحة، ثم تناولنا إفطاراً شهياً كانت الأطعمة السورية المشهورة أساساً له، وبقينا نتحدث حتى ذهبنا لأداء صلاة الجمعة في مسجد قريب، لنذهب بعد الصلاة إلى البيت ونرافق زوجتي وزوجة صديقي وأبناءه الرائعين المهندس شمس والغالي محمد لنبدأ جولتنا في المدينة والتعرف إليها وسماع حكايتها التي بدأت حمص ترويها لنا، لكنها حكاية لن يكون لها نهاية، فحمص وحسب المصادر التاريخية مدينة ضاربة جذورها في التاريخ، وتعتبر ثالث أهم المدن السورية وتقع في وسط سوريا، ويعود تاريخها إلى العام 2300 قبل الميلاد، وكانت تسمى في عهد الرومان باسم (أميسا) ولها تاريخ عريق، وتلقب باسم مدينة خالد بن الوليد. ولعل أقدم موقع سكني في مدينة حمص هو تل حمص أو قلعة أسامة، ويبتعد هذا التل عن نهر العاصي حوالي 2.5 كم، ولقد أثبتت اللقى الفخارية أن هذا الموقع كان مسكوناً منذ النصف الثاني للألف الثالث قبل الميلاد، ولقد ورد اسم حمص محرفاً في وثائق (أيبلا) المملكة السورية الشهيرة، وما زالت الدراسات الأثرية قاصرة عن تحديد تاريخ حمص في العصر البرونزي والحديدي، ومن الممكن أن تكون حمص نفسها قد تم تأسيسها على يد (سلوقس الأول) حيث يذكر الفيلسوف (سترابون) قبيلة تدعى (أميساني) تعيش حول العاصي في جنوب (أفاميا) وقد صنفها الرومان قبيلة عربية.
حمص: مسجد ومقام خالد بن الوليد- عدسة زياد جيوسي
بدأنا جولتنا في مسجد الصحابي خالد بن الوليد الذي أُسس في القرن السابع للهجرة بأمر من الظاهر بيبرس، وأعيد بناؤه بشكله الحالي في عهد السلطان عبد الحميد في القرن التاسع عشر، ويتميز بجماله وقبابه التسعة ومئذنتيه الجميلتين، ويتصف بالتناوب بين اللونين الأبيض والأسود في حجارته ممزوجاً بطراز معماري سوري جميل، وفي الحديقة الجميلة للمسجد كانت هناك مسلة حجرية منقوش عليها ما قاله سيف الله المسلول حين دهمته الوفاة: "لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء"، فهمست لنفسي: أين أنتم الآن يا أحفاد خالد؟ وندخل المسجد فأقرأ الفاتحة على روح ابن الوليد وعلى روح ولده الصحابي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى روح الصحابي عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وصليت وأبو شمس العصر جماعة في المسجد، ثم تجولت في داخله وفي صحن المسجد، ألتقط الصور وأسجل الملاحظات السريعة، والمسجد يقع على ربوة متسعة، ومشهده العام يذكرنا بتاريخ مجيد، والمسجد يتمازج بالمرمر الأبيض مع الأسود، باستثناء المئذنتين فهما بلون أبيض كأعمدة النور، أما داخل المسجد فمضاء بأنوار وإضاءة تأتيه من أربع عشر نافذة، وله ثلاثة محاريب آية في الجمال، وفي الوسط ينتصب المنبر الرخامي المملوء بنقوش هندسية ونباتية، وفيه المحراب الأوسط ووضع بجانبه شمعدانان نحاسيان كبيران، وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب جميلة، وفي الركن الشمالي الغربي يجثم ضريح القائد خالد بن الوليد الذي لقبه الرسول عليه الصلاة والسلام بلقب سيف الله المسلول، وبجواره ضريح ولده عبد الرحمن، وهو من تولى إمارة حمص لمدة عشرين سنة، وقد وضع فوق ضريح ابن الوليد قبة مزينة بالزجاج، ونقشت وطعمت واجهته بنحاس مزخرف، كما يوجد للمقام باب قديم من خشب الصندل المعتق، وقفل من فضة، وفي أقصى اليمين شمالاً يقع مقام عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وصحن الجامع مستطيل وله رواق شمالي وآخر جنوبي، ويوجد في الجهة الشرقية للرواق قاعات خصصت اثنتان للمعهد الشرعي ويليه قاعة كبيرة ضمت المتحف الإسلامي، ويضم أثاراً إسلامية مهمة أهمها المنبر الخشبي المصنوع في حمص سنة 1197م، وعليه نقوش وزخارف وأبيات شعرية، وسنجق خالد بن الوليد الذي كان يرفع أيام خميس المشايخ، وقوس إسلامي قديم، وبعض الأواني النحاسية والمصاحف القديمة.
حمص: مقام خالد بن الوليد- عدسة زياد جيوسي
خرجنا لنجول في مناطق حمص المختلفة، فدخلنا إلى الحواري والدروب والأزقة، ولأن تجوالنا كان في يوم جمعة فقد كانت الأسواق مغلقة، والشوارع تقل فيها الحركة، فأوقفنا السيارة بأحد الدروب وتجولنا سيراً على الأقدام، وفي وسط المدينة وقبل أن نتجه إلى منطقة الحميدية والمنطقة القديمة، زرنا مسجد الدالاتي، وهو مسجد قديم، بني في سنة 1905م- 1325 هجرية، وهو من المساجد الجميلة، ويمتاز هذا الجامع بمئذنته المضلعة، ومئذنته فريدة في تصميمها من الحجر الأسود مع الزنار الابيض، والمسجد يقع في شارع الحميدية ويعود للعهد العثماني المتأخر، ويمتاز فناؤه بوجود أقواس غاية في الجمال والسعة، وقد أطلق عليه الاسم بعد تجديده وذلك تيمناً باسم بانيه الحاج حسين الدالاتي وبمساعدة الحاج إسماعيل كريدية، ويشتمل على منبر خشبي للخطابة ومحرابين وسدة من خشب ورواق للصلاة، ورواق للوضوء وبئر وساحة مكشوفة، وخزان ماء للسبيل، وطابقين أرضي وأول، وجامع الدالاتي يتميز كباقي الآثار الحمصية بحجارته السوداء التي تميز المعالم الحمصية المعمارية.
قلب مدينة حمص الذي يفصل القديم عن الحديث – عدسة: زياد جيوسي
وفي شارع الحميدية حيث يتمازج القديم بالحديث سرنا مسافة طويلة في ظلال عبق التاريخ والهدوء بحكم العطلة الرسمية، وكانت عيناي تلتقطان فوراً الأبنية القديمة، فأقفز لتوثيقها بالصور، وأمتع روحي بجماليتها، حتى وصلنا إلى مطرانية السريان الكاثوليك، التي سيكون لها حديث خاص هي وكاتدريئة السيدة العذراء أم الزنار والزنار المقدس وقلعة الحصن ودروب حمص وجمالها وآثارها التي تروي الحكاية، في الحلقات التالية من حكاية حمص التي روتها لي وهمستها في أذني.
حمص: قلب المدينة الحديث – عدسة: زياد جيوسي
صباح ماطر في رام الله، المطر لم يتوقف عن الهطول طوال الليل مبشراً برحمة الخالق على عباده. أطل من نافذتي وأمسح وجهي بقطرات المطر، وأستعيد ذكرى حمص وزيارتي لها، أتابع أخبار الفضائيات وابتسم لأحفاد خالد وهم ينفضون آثار السبات وينهضون من جديد، يحلمون ويعملون من أجل فجر جديد وصباح أجمل، أحتسي قهوتي ككل صباح مع طيفي الذي لا تفارق روحه صومعتي الراميّة، أستمع لشدو فيروز وهي تشدو:
أذكر الأيام لمحاً والهوى / في حنايا الغاب عند الجدولِ
حين كنا والهوى حلو الغِوى / نتشاكى في حنين القبلِ
ضمنا الليل على بوح طوى / كل ما في قلبنا من غزلِ
فأنا إن أشتكي مر النوى / لا تلمني يا حبيبي الأجملِ
و.. صباحكم أجمل.