الصين بعيون عربية
د. محمد عبد العزيز ربيع
(نص محاضرة في ندوة "مركز الحوار العربي"
في منطقة واشنطن - الأربعاء 1/12/2010)
حين تنظر العين إلى الأشياء تلتقط من الصور ما يروق لها أو يستثيرها، ثم تقوم بارسالها على الفور إلى العقل، وهناك يقوم العقل بتجميع ما يصله من صور وتشكيلها على شكل شريط سينمائي صامت، يساعده على إدراك عملية تطور الأشياء التي سجلتها عدسة العين، لكن دون أن يفهم سبب التطور أو يحدد طبيعة القوى التي تقف خلفه. أما الأذن فتلتقط الكلمات التي تصلها من أفواه الآخرين ومن أجهزة الإعلام، وترسلها مباشرة إلى العقل على شكل جمل متناثرة قلما تكون مترابطة بسبب تنوع مصادرها وأحيانا تناقض مضامينها. وهناك يقوم العقل بتجميع تلك الجمل والكلمات وتنسيقها وربطها بالصور التي تجمعت لديه وتحليلها واستنباط نتائج يرسمها على شكل خارطة ذهنية تضع الأشياء في أطرها السليمة. إذ بينما تحكي الصور قصة التطور الذي يعيشه الواقع الحياتي.. من أين بدأ وأين وصل وفي أي اتجاه يسير، تحكي الكلمات قصة الفكر الذي يقف خلف الفعل ويشرح سبب القرار المتعلق به. وهذا يجعل بالإمكان تخيل الخطوة التالية، وما يُحتمل أن تكون عليه صورة المستقبل في المستقبل.
تحاول هذه الورقة رسم خارطة لتوجهات الصين السياسية والاقتصادية والثقافية بناء على زيارة قامت بها مجموعة من المفكرين والمثقفين العرب للصين تحت رعاية "منتدى الفكر العربي" في أواخر عام 2010، بهدف إجراء حوار مع مجموعة مماثلة من الصينيين. ولقد شرفني المنتدى باختياري عضوا في الوفد الذي شارك في ذلك الحوار. ويسعدني القول بأن الزيارة منحتني فرصة نادرة للتعرف على بعض الأماكن التاريخية في الصين، والاطلاع على بعض ما حققه الصينيون من تقدم صناعي وتنمية مجتمعية ونهضة عمرانية، وسماع وجهات نظر مجموعة من صناع القرار فيها، ومحاورتهم بشكل علمي لم تتدخل فيه مصالح شخصية. لكن الحوار، وبالرغم من أهميته، لم يغوص في أعماق البحر الفكري الصيني الواسع، وبالتالي لم يستطع تحديد مواقف الصين الحقيقية من العديد من القضايا الدولية والإقليمية التي كانت تشغل بال الوفد العربي ولا تزال. ويعود السبب في ذلك إلى صعوبة الحوار مع أية مجموعة تتمسك بفكرة إيديولوجية بغض النظر عن طبيعة الإيديولوجية المعنية، سواء كانت دينية أو قومية أو ماركسية، أو حتى رأسمالية. فالإيديولوجي لا يتحاور عادة مع الغير بهدف سماع وجهة نظر الآخر والتفكير فيما قد تحمله كلماته من نقد بناء، بل بهدف شرح موقفه، ومحاولة إقناع الآخر بوجهة نظره، والدفاع عن فلسفة حياته.
محطات الزيارة
كانت مدينة شانغهاي هي نقطة البداية بالنسبة لرحلتنا في الصين، قمنا هناك بزيارة الجناح الصيني في المعرض الدولي وأجنحة عدة دول عربية. ولقد كانت الترتيبات الصينية في غاية الدقة من حيث التنظيم وترتيب المواعيد والإلتزام بها، إذ بينما كان على الزوار العاديين الوقوف ساعات أمام بعض الأجنحة مثل الجناح السعودي بسبب الإقبال الشعبي الشديد، لم نقف دقيقة واحدة أمام الأجنحة التي زرناها، بل قام مدراء تلك الأجنحة باستقبالنا على الباب والترحيب بنا. ومما أسعدنا في جناح فلسطين المتواضع جدا رؤية عدد من الشابات والشباب الصينيين يقفون أمام صورة الرئيس الراحل ياسر عرفات لأخذ صور تذكارية، وأيديهم مرفوعة ترسم علامة النصر.
سافرنا بعد زيارة المعرض الدولي إلى مدينة إيوي التي اكتسبت لقب "مدينة الجوارب" بسبب تخصصها بتصنيع معظم ما يستهلك العالم من جوارب. وهناك قمنا بزيارة مصنع ينتج حوالي نصف مليون قطعة يوميا من الجوارب وملابس النساء الداخلية وملابس الأطفال. وبعد قضاء حوالي نصف ساعة هناك، أخذنا المرافقون لسوق المدينة الذي يعتبر أكبر سوق في العالم.. مبنى ضخم يحتوي على 15 ألف معرض تجاري، مما يجعل زيارة كافة المعارض تحتاج لنصف عام على افتراض قضاء 30 دقيقة في كل معرض. لكننا لم نقض في السوق سوى دقائق معدودة بسبب ارتباط مسبق مع نائب رئيس مدير المنطقة الذي دعانا لحفلة غداء في الفندق. وخلال كلمة قصيرة أطلعنا المسئول الصيني على ما يقومون به من نشاطات مختلفة، وتصميم الإدارة على تحويل المدينة إلى مركز تجاري عالمي يضاهي دبي، كما أخبرنا بأنه يتواجد في تلك المنطقة حوالي 5 إلى 6 آلاف عربي يعملون في التجارة. وبعد تناول الغداء، سارعنا بالسفر إلى بيكين العاصمة حيث وصلناها في حوالي منتصف الليل. ومما لاحظناه خلال زيارة مدينتي شنغهاي وإيوي، اهتمام الصينيين غير العادي باطلاعنا على مدى ما حققوه من تقدم اقتصادي وعمراني وما يتطلعون لتحقيقه من طموحات في تلك المجالات. وفي بكين بدأنا حوارنا المنتظر في صباح اليوم التالي مع زملاء صينيين يشاركون في صنع القرار السياسي والاقتصادي في البلاد.. كان "مركز الصين للدراسات الدولية" التابع لوزارة الخارجية هو الجهة التي استضافتنا وقامت بتحمل نفقات إقامتنا وتنقلاتنا داخل الصين.
التوجهات السياسية والاستراتيجية
كان واضحا منذ بداية الحوار أن الصين تشعر بثقة كبيرة بالنفس، وتنطلق من فلسفة سياسية تضع مصلحة الصين الذاتية فوق كل شيء، وأنها ترفع شعار "اشتراكية بخصائص صينية" كحزمة أفكار وخطة عمل لنظام مميز في إدارة الحكم والاقتصاد والتنمية المجتمعية والعلاقات الدولية. ويمكن القول أن تلك الخطة تقوم على سبعة مبادئ أساسية تشكل استراتيجية متكاملة تشمل كافة المجالات الحيوية:
1. ضمان حدوث التنمية الاقتصادية مع الحفاظ على الاستقرار السياسي.
2. إعطاء الأولوية لمتطلبات بناء الدولة وتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة.
3. التأكيد على مركزية الحكم والقيادة الجماعية والتكتم على القرارات والخلافات الداخلية.
4. التركيز على هيبة السلطة وإعطاء الأولوية لحرية الأمة وأمنها على حرية الفرد وأمنه.
5. إخضاع السياسة للاقتصاد، واخضاع المبادئ للمصالح.
6. عدم الخوض في قضايا دولية لا تؤثر مباشرة على أمن الصين ومصالحها الاقتصادية.
7. تجنب الدخول في نزاع سياسي أو اقتصادي مع أمريكا، على الأقل في المرحلة الراهنة.
8. تبني مبدأ "إدارة الصراع وليس حله".
اكتشف الفريق العربي منذ بدء الحوار عمق الهوة التي تفصل الموقف العربي عن الموقف الصيني فيما يتعلق بدور الصين الممكن والمحتمل على الساحة الدولية. إن اهتمام العرب بقضايا فلسطين والعراق والأمن الإقليمي لم يُقابل بإهتمام مماثل من جانب الطرف الصيني. ويمكن القول إن الفريق العربي خرج بقناعة بأن الصين غير معنية كثيرا بتلك القضايا في المرحلة الراهنة، وربما لن تكون معنية بها في المستقبل القريب بالقدر الذي يرغبه العرب، ويعتقد البعض أن الظروف الدولية ومكانة الصين كقوة كبرى تحتمه. وعلى سبيل المثال، بالرغم من الضغوط العربية على الطرف الصيني لإعلان موقف مؤيد للموقف العربي حيال قضية القدس، إلا إن الصينيين تمسكوا بموقفهم الذي يدعو لإنسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية. وهذا يعني أن موقف الصين الذي تميز بتأييده شبه المطلق لتطلعات الشعب الفلسطيني لعقود أصبح اليوم محايدا بالمعني الغربي، أي منسجما مع موقف أمريكا وإسرائيل الذي يُخضع القدس والمستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية للمساومات.
قامت أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية بفرض نظام على العالم سمح لها بالهيمنة على الكثير من الدول والشعوب، وأتاح لها المجال بعد انتهاء الحرب الباردة لنشر فكرة العولمة التي تشمل الاقتصاد وحرية التجارة والثقافة. لكن كان على أمريكا في المقابل أن تدفع تكاليف إقامة وإدارة ذلك النظام من النواحي المالية وحمايته عسكريا. وكما يشير التاريخ، تسببت نظم الهيمنة في الماضي في إلحاق أضرار بكل دولة مهيمنة بسبب ارتفاع تكاليف النظام الذي أقامته وفرضته على الغير، وسمح في الوقت ذاته لبعض الدول المنافسة باستغلال ما وفره النظام من استقرار لتحقيق أهداف اقتصادية واستراتيجية على حساب الدولة المهيمنة دون دفع جزء من تكاليف النظام القائم. واعتقد أن الصين تحاول اليوم تحقيق الاستفادة القصوى من نظام الهيمنة الأمريكي وما يوفره من عولمة اقتصادية لبناء اقتصادها بالسرعة الممكنة لتغدو دولة عظمى. لكن الصين تهمل الجانب الثقافي بالرغم من أن الثقافة لا تقل أهمية عن الاقتصاد، وذلك بسبب ما لها من تأثير على طرق تفكير الشعوب وتوجهاتها ومواقفها من الغير.
وهذا يعني أنه ليس لدى الصين الآن استعداد لاتخاد مواقف تجاه قضايا دولية وإنسانية لا تمس مصالحها الاقتصادية والأمنية بشكل مباشر. وحيث أن الصين تستفيد من علاقتها بإسرائيل التي تقوم بسرقة الكثير من التكنولوجيا العسكرية الأمريكية وبيعها للصين، فإن القيادة الصينية رأت على ما يبدو أن مصلحتها تُملي عليها اتخاذ موقف من القضية الفلسطينية يساوي بين إسرائيل والعرب. ولذلك يقول المسئولون الصينيون إن الدعوة لانسحاب القوات الإسرائيلية لحدود 1967 وإقامة دولة فلسطينية يشمل ضمنا الدعوة لإنسحاب إسرائيل من القدس الشرقية، وبالتالي ليس هناك داعي للتعامل مع قضية القدس بشكل مستقل. ولقد وجدت الصين في قرارات هيئة الأمم المتحدة وعملية التفاوض غطاء كافيا لاتخاذ موقف شبه مؤيد لوجهة النظر العربية وغير متناقض مع وجهة النظر الإسرائيلية.
قد يبدو هذا الموقف منسجما مع نفسه وطموحات الصين التي تقتصر على الاقتصاد دون غيره، إلا أنني لا اعتقد أن أمريكا أو إسرائيل ستسمح للصين بالتوقف عن هذا الحد. إن أمريكا تضغط اليوم بشكل كبير ومتزايد كي تقوم الصين بتعديل سياستها المالية ورفع قيمة عملتها الوطنية على أمل أن يساهم ذلك في تعديل الميزان التجاري بين البلدين. كما أن إسرائيل لن تكتفي بموقف محايد، بل ستضغط للحصول على المزيد من التأييد حين تشعر بأن حاجة الصين لما لديها من تكنولوجيا عسكرية أصبحت أكثر إلحاحا. كان السيد ين جانج أحد المفكرين الصينيين الذين سمحت لي الظروف بالتحدث معهم عن قرب، وحين سألته عن خلفيته الدراسية ونشاطاته العلمية اكتشفت أنه قضى سنة في القدس بدعوة من معهد إسرائيلي كانت على ما يبدو كافية لإقناعه بوجهة النظر الصهيونية. السيد جانج عضو في أكاديمة الصين للعلوم الاجتماعية، وأستاذ في معهد دراسات غرب آسيا وأفريقيا، ونائب رئيس الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط.
التوجهات الاقتصادية
تشير السياسة الاقتصادية الصينية والحقائق على الأرض إلى أن الصين تسير على خطى الدول الآسيوية التي سبقتها على مضمار التنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي، وذلك بالعمل الدؤوب على بناء "دولة تجارية" وليس دولة قومية تقليدية. فالقيادة الصينية تقوم اليوم بتحويل الصين إلى شركة مساهمة عملاقة تهتم بعمليات الإنتاج الصناعي والتطوير التكنولوجي وتسويق بضائعها في الأسواق العالمية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح دون اهتمام حقيقي ببناء جسور تواصل ثقافية مع الشعوب التي تتعامل معها. وهذه هي السياسة التي اتبعتها اليابان وسنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية من قبلها. إن قيام تلك الدول بإهمال ضرورات التعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، والتعاطف معها وتأييد قضاياها العادلة ومساعدتها ماليا وتكنولوجيا أدى إلى فشل الدولة التجارية عامة في كسب أصدقاء لها في العالم. إن مما لا شك فيه أن اليابان نجحت نجاحا باهرا في تحقيق فوائض مالية كبيرة نتيجة لما حققته من تقدم صناعي وتكنولوجي وعلمي مكنها من غزو الأسواق العالمية. لكن ابتعاد اليابان عن إقامة علاقات ثقافية مع شركائها التجاريين جعل من السهل قيام أولئك الشركاء بشراء احتباجاتهم من دول منافسة تتمتع بنفس المزايا كما يحدث اليوم مع الصين. نتيجة لذلك، ليس بإمكان اليابان أو غيرها من دول تجارية آسيوية الإدعاء بأن لها شعب صديق واحد في الشرق أو الغرب، في آسيا أو أوروبا، في أمريكا الشمالية أو الجنوبية أو أفريقيا.
وحيث أن سياسة تجارية كهذه ليست من صفات الدول العظمى ولا تخدم مصالحها على المدى الطويل، فإن من شبه المؤكد أن تحاول الصين الجمع بين مصالح الدولة التجارية ووظائف الدولة القومية. وهذا يعني أن الصين ستواصل مد نفوذها إلى أماكن عدة من العالم سعيا وراء الموارد الطبيعية والأسواق التجارية، وبناء موانئ وقواعد شبه عسكرية لتأمين تلك المصالح وحمايتها. أما اليوم، فإن الصين ترى أن مجالها الأمني يقتصر على منطقة الجوار إلى حد كبير، بينما يمتد مجالها الاقتصادي الحيوي ليشمل كل أنحاء العالم، بدءا بالدول التي تستحوذ على موارد طبيعية وأراضي زراعية وفرص استثمارية مثل دول القارة الإفريقية. ويمكن القول أن سياسة الصين الاقتصادية ترتكز على عدة مبادئ أساسية، أهمها:
1. التوسع في الاستثمارات الخارجية بهدف تأمين احتياجاتها المتزايدة من المواد الخام والطاقة والمنتوجات الزراعية والأسواق التجارية، واستخدام ما لديها من فوائض مالية لتمكين شركاتها الوطنية من التمركز في أهم الأسواق الاستهلاكية في العالم. فالصين تبدو اليوم على استعداد للعمل في أي مكان، في ظل أية ظروف، والتعامل مع أي نظام كان، شريطة أن يكون الاستثمار مجزي من النواحي المادية والاستراتيجية.
2. فتح الأسواق الصينية أمام البضائع الأمريكية والأوروبية مقابل قيام دول الغرب بافساح المجال لنقل المزيد من التكنولوجيا للصين. وعلى سبيل المثال، يقول بعض الاقتصاديين والمسئولين الحكوميين الصينيين بإن السبيل الأمثل لتعديل الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة يكمن في قيام أمريكا بالسماح بتصدير التكنولوجيا الصناعية المحظورة مقابل قيام الصين بفتح أسواقها أمام البضائع الأمريكية.
3. تشجيع الصينيين على زيادة الاستهلاك بهدف توسعة السوق الوطني ورفع مستوى الحياة بالنسبة للفرد، وزيادة اعتماد الصناعات الصينية على الأسواق الداخلية.
4. تشجيع عمليات الخلق والابتكار والبحث العلمي من خلال إقامة المزيد من مراكز البحوث والدراسات والجامعات، والتوسع في تدريس اللغات الأجنبية. وبالرغم من حداثة النهضة العلمية في الصين، إلا أنها تجاوزت ألمانيا في عام 2007 بالنسبة لعدد طلبات براءات الاختراع.
5. الاهتمام بالتعليم والتدريب المهني وتدريس اللغة الإنجليزية بشكل خاص. وبسبب الاهتمام الكبير بهذه اللغة، فإن عدد الصينيين الذين يتقنون التحدث بها يتجاوز اليوم، وإن كانت الغالبية من الأطفال، سكان أمريكا.
6. تمتين العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار، خاصة الدول الأعضاء في منظمة دول جنوب شرق آسيا (بروناي، اندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، تايلاند، برما، كمبوديا، لاوس، وفيتنام)، إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية. إذ على سبيل المثال، تجاوز عدد السلع التي يتم تصديرها اليوم فيما بين دول جنوب شرق آسيا والصين دون رسوم جمركية 7000 سلعة.
وهنا أود الإشارة إلى أن توجه الصين نحو التعاون مع دول الجوار بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية كان له أهمية كبيرة في مساعدة الدول الآسيوية عامة على تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة دون خسائر كبيرة ومعدلات بطالة مرتفعة، وذلك خلاف ما حدث في أمريكا ومعظم دول أوروبا. إذ بينما لم تستطع أمريكا حتى نهاية عام 2010 استعادة ما خسرته من نمو اقتصادي بسبب الأزمة، استطاعت الصين خلال السنوات الثلاثة الأخيرة زيادة حجم ناجها القومي الاجمالي بما يزيد عن 20%.
التوجهات الثقافية
إن التركيز على ما حققته الصين من انجازات اقتصادية جعل القائمين على ترتيب زيارتنا يهملون البعد الثقافي. إذ لم يفكروا في ترتيب زيارة لمتحف نتعرف من خلالها على جانب من حياة الصينيين وتراثهم الثقافي. لكن بعد انتهاء جلسات الحوار، طلبنا من زملائنا الصينيين ترتيب زيارة للمدينة المُحرمة التي اكتسبت اسمها بسبب تحريم دخول الشعب إليها لعهود، بينما كانت تقيم فيها العائلات الإمبراطورية الحاكمة. وتبدأ المدينة بالساحة الحمراء حيث يرقد جثمان ماو تسي تونج، مؤسس الصين الحديثة. وفي تلك المدينة شاركنا آلاف الصينيين والأجانب في الوقوف في صف طويل لزيارة ضريح الزعيم الصيني. كان هناك تمثال كبير وجميل يُظهر ماو بشكل مُهيب تعلو وجهه ابتسامة كبيرة واثقة، وبعدها انتقلنا إلى حيث يرقد جثمان ماو محنطا في نعش زجاجي جعل الرجل يصغر في عيني كثيرا. وهذا جعلني أتساءل عن سبب تحنيط الموتى وعرض جثثهم كتحف أثرية لمن يريد أن يتفرج عليها مقابل دفع رسوم زهيدة.
مررنا بعد ذلك على ساحات كبيرة وعدة قصور متشابهة من حيث التصميم لم يُسمح لنا أو لغيرنا بدخولها بسبب قدمها وهشاشتها، كما شاهدنا أيضا حدائق صغيرة ولكن جميلة تتنوع فيها الأشجار المعمرة والنباتات والأزهار. وبينما كنا نتجول في تلك المدينة المترامية الأطراف، أخبرنا المرشد السياحي بأن آخر أبناء العائلة الإمبراطورية التي حكمت الصين، إبن أخ الإمبراطور الذي تنازل عن العرش في عام 1912، يتواجد في تلك المدينة بشكل مستمر.. بحثنا عنه حتى وجدناه. رجل تبدو عليه الهيبة والبساطة في آن واحد، يبلغ سنه كما أخبرني 65 عاما، أجاب على بعض الأسئلة التي اقتصرت على النواحي الشخصية، إذ قال بأنه لم يشارك في أفلام عن حياة الصين القديمة، ولا في أفلام وثائقية عن حياة عائلته، وأنه يعمل فنانا ويعيش على دخله من بيع لوحاته البسيطة.. مخطوطات جميلة باللغة الصينية. كان الدليل السياحي يترجم الأسئلة التي وجهتها لآخر أفراد العائلة الإمبراطورية دون أن ينظر في عينيه، وكأنه يرى في ذلك الرجل صورة الإمبراطور وهيبته التي اختفت عن الأنظار قبل قرن.
قمت مع الصديق سمير حباشنة في مساء ثاني يوم لنا في بيكين بنزهة ليلية بعد وجبة عشاء ثقيلة، استهدفت ممارسة رياضة المشي والتعرف على معالم المدينة القريبة من الفندق. وحين وصلنا إلى تقاطع الشارع الذي سرنا عليه مع الشارع الرئيسي التالي، شاهدنا عمالا يقومون بعزل زاوية التقاطع وإلى جانبهم سيارة شحن كبيرة. سرنا في طريقنا غير معنيين بما كانوا يفعلون، بعد حوالي نصف ساعة والمرور على معارض لأكبر دور الأزياء والمجوهرات في العالم اكتشفنا منطقة حديثة وجميلة مخصصة للتسوق والمشاة فقط، وذلك على النظام الألماني الذي يجعل أسواق المدن الرئيسية مناطق مغلقة للسيارات وفضاء مفتوحا للمشاة.. كانت تلك المنطقة تعج بالشباب الصيني والسياح الأجانب الذين يبحثون عن وجبات طعام خفيفة وتحف تذكارية يحملونها لبلادهم. لاحظنا أن الغالبية العظمى من الصينيين كانوا شبابا يشبهون في لباسهم ومشيتهم شباب أمريكا وأوروبا في مدن الغرب الرئيسية، ويأكلون في المطاعم الأمريكية سريعة الوجبات.
أما في المدينة المحرمة، فكانت الغالبية العظمى من الصينيين متقدمين في السن.. رجال ونساء بدت على وجوههم آثار التعرض طويلا للشمس.. كانوا على ما يبدو من العاملين في المزارع، وربما في المناجم والمصانع المفتوحة. وهذا عزز قناعتي بنظرية نشرتها ضمن كتابي الأخير الذي صدر عن منتدى الفكر العربي هذا العام تحت عنوان: "الثقافة وأزمة الهوية العربية". نظرية تقول بأن الثقافة والهوية شيئان متقاربان ولكن مختلفان من حيث الوظيفة والمرجعية، وإن من الممكن بلورة هوية وطنية قوية دون ثقافة وطنية جامعة. فزوار المدينة المحرمة كانوا يتطلعون إلى الإرث الإمبراطوري القديم وماو تسي تونج كرموز لهويتهم الوطنية، بينما يتطلع الشباب المتعلم والمُنعم إلى الغرب كرمز لهوية ثقافية وثقافة بديلة.
من الأشياء الهامة التي أود الإشارة إليها هنا، توجه الصينيين بشكل غير عادي نحو المادة لدرجة جعلت الفنادق تُحاسب الزبائن على فنجان القهوة أو الشاي الذي يصنعوه في غرف نومهم. إن الثقافة الصينية، وخلافا للمتعارف عليه، تقوم على المادة وليس على الروحانيات، إذ يتمنى الصيني لصديقه في عيد رأس السنة عاما جيدا يجني خلاله أموالا كثيرة، وليس الصحة أو السعادة أو طول العمر. ومن خلال الحديث مع المرشدين السياحيين والمرافقين والباعة في الأسواق اكتشفت أن معرفة شباب الصين بتاريخ وحضارات الغير من الشعوب شبه معدومة، وأن الجيل القديم من المثقفين كان أكثر معرفة بالثقافة العربية وتفهما للموقف العربي من جيل الشباب الذي سيتولى قيادة الصين في السنوات القليلة القادمة.
الحركة العمرانية
تخلفت في بيكين لمدة يومين بعد سفر معظم الزملاء، قمت خلالهما بزارة معهد الصين للدراسات الدولية مرة ثانية، وزيارة سور الصين العظيم ضمن رحلة سياحية عادية منحتني فرصة المرور على عدد كبير من الأحياء الحديثة المكتظة بالفنادق، والتسوق في "سوق الحرير" الذي أنصح كل زائر لبيكين بزيارته. وفي الطريق إلى السور الذي يبعد عن المدينة حوالي ساعتين بالسيارة، ويبلغ طوله حوالي 7 آلاف كلم، رأيت مئات العمارات العملاقة في مراحل مختلفة من البناء، كما رأيت شبكة طرق ليس لها مثيل في العالم. وكما علمت فيما بعد، أقامت الحكومة الصينية 6 طرق دائرية حول العاصمة التي يبلغ عدد سكانها 18 مليون نسمة، وتعادل مساحتها مساحة بلجيكا. وفي داخل بيكين، رأيت شوارع ذات اتجاهين يبلغ عدد مسارب كل اتجاه ثمانية، بينما يبلغ عرض الرصيف على كل جانب حوالي 15 مترا. لذلك يقال أن نصف مشاريع البناء الجارية اليوم في العالم توجد في الصين، وأن من المتوقع أن تقيم الصين خلال العقدين القادمين ما بين 20 إلى 50 ألف ناطحة سحاب جديدة. ولهذا استهلكت الصين من الحديد والصلب في عام 2009 ضعف ما استهلكته الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي واليابان مجتمعة.
إلى جانب الترتيب المحكم للتنقلات وإدارة الجلسات وتفاصيل الزيارة والحرص على الوقت، لاحظت اهتماما غير عادي بالنظافة وتخطيط المدن والحرص على إقامة الحدائق العامة وتجميل كل موقع على الطرق. وعلى سبيل المثال، أقامت الصين في مدينة بيكين عشرات الشوارع العريضة التي تخترق المدينة بخطوط مستقيمة تمتد مسافات تصل أحيانا 30 كلم. ليس هناك شك في أن فتح تلك الشوارع كلف ملايين الفقراء بيوتهم وذكرياتهم التي جرفتها معدات البناء وتجاوزتها قرارات قيادة مصممة على إقامة مدينة حديثة تصلح عاصمة لدولة عظمى. لكن الروح السائدة بين الناس الذين صادفناهم يغلب عليها الرضا عن النظام والاعتزاز بالانجازات، وليس التباكي على الاطلال. فكثير من الشباب يقضي يومه كاملا في الشركة التي يعمل فيها، وأحيانا ينام في مكتبه ولا يعود لبيته إلا مرة كل بضعة أيام.
قمت مع الصديق سمير حباشنة بعد يومين بنفس الجولة السابقة، وكان الهدف في هذه المرة البحث عن مكان لتناول وجبة طعام خفيفة. وحين وصلنا إلى التقاطع الذي رأينا فيه عمالا يقومون بعزله، دهشنا بوجود نصب فني كبير يزيد ارتفاعه عن ستة أمتار، قام العمال بنصبه وغرس الأشجار والأزهار من حوله وتحويله إلى منتزه صغير ونظيف يبدو عمره سنوات وليس ساعات. ولقد علمت فيما بعد أن شركة صينية أقامت مبنى كبير من 15 طابق، يتحمل الهزات الأرضية القوية خلال 6 أيام فقط. هكذا تبني الصين وتعمر وتنمو، تحسب الثواني وليس الأيام، وتنجز في ساعات ما يحتاج في دول أخرى لسنوات. كل الإنجازات التي شاهدناها تمت بسرعة البرق، فالصينيون لا يعرفون إضاعة الوقت، ولا هدر الموارد، ولا المناكفات التي تعطل العمل وتضعف الإرادة.. ربما كانت شعوب جنوب شرق آسيا أكثر شعوب العالم وعيا بأهمية الوقت والعمل، وبأنها في سباق مع الزمن، وأن بإمكانها كسب الرهان وتحقيق ما تريد تحقيقه من انجازات.
ملاحظة أخيرة
تقودني قراءتي لما عاشته الصين عبر ربع القرن الماضي من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية إلى نتائج محددة تتعلق بطريقة تفكير النخبة السياسية الحاكمة وتوجهاتها على الساحة الدولية. أما زيارتي لتلك البلاد ومشاهدتي لبعض ما تم انجازه على أرض الواقع، فقد اقنعتني بأن لدى الصين قدرة هائلة على تحقيق معجزات اقتصادية وصناعية وعمرانية كان من الصعب تخيلها قبل عقود. ولقد جاءت تجربة الحوار مع مجموعة المفكرين والمثقفين لتعزز قناعاتي بأن النخبة السياسية والاقتصادية في الصين تجاوزت كل الشعارات القديمة والمبادئ التي حالت سابقا دون انطلاقها لتحقيق التقدم بمفهومه العصري.
كانت الصين خلال فترة الكفاح ضد الاستعمار الغربي والنضال من أجل التحرر الوطني دولة فقيرة تعاني من التخلف والفقر، ويقودها حزب يحمل أفكارا ثورية تؤمن بتحرير الإنسان والأرض من هيمنة القوة العسكرية واستغلال رأس المال، وهذا جعلها تغدو حليفا لشعوب العالم الثالث بما في ذلك العرب، تشاركهم المظالم والطموحات. أما اليوم، فإن الوضع مختلف تماما.. مشاغل الصين الأساسية ليست فكرية أو فلسفية، ومصالحها الأساسية ليست في الترويج لفكرة ثورية، بل في التصنيع والتصدير والتنمية المجتمعية، وتوفير مصادر ثابتة لما تحتاجه الآن وفي المستقبل من مواد خام ومنتجات زراعية، والتطور إلى دولة يقوم الاقتصاد فيها على المعرفة. وفي ضوء هذه التطلعات والتوجهات، وجدتْ الصين نفسها تبتعد عن العرب وعن غير العرب من شعوب العالم الثالث، وتعيد تقييم علاقاتها معهم على أساس ما يتوفر لديهم من موارد طبيعية ومواقع استراتيجية تساعدها على تحقيق أهدافها الاقتصادية والأمنية بعيدة المدى.
في ضوء هذه الحقائق والاستنتاجات يمكن القول أن العرب، وربما شعوب العالم الثالث عامة في طريقهم لخسارة الصين وما تشكله من ثقل اقتصادي وسياسي واستراتيجي على الساحة الدولية، مما يعني أن على شعوب العالم المغلوبة على أمرها أن تعتمد على أنفسها. إن الصين لم تتحول بالقدر الكافي لتصبح جزءا من الطرف المعادي لطموحات تلك الشعوب، لكنها، وبكل تأكيد، لم تعد جزءا من الطرف المغلوب على أمره، ذلك الطرف الذي يعيش في مستنقع من التخلف والفقر والظلم والاستبداد والتبعية، ويتطلع لتنمية موارده واستعادة حريته وكرامته.. لذلك كان على هذا الجزء من العالم أن يصحو من سباته، ويأخذ زمام المبادرة، ويسخدم ما لديه من موارد طبيعية وبشرية ومصادر طاقة لتنمية بلاده وتحرير شعوبه، وتعزيز موقعه على الساحة الدولية.
تشير الأرقام المتعلقة باستهلاك الطاقة إلى أن استهلاك الصين ازداد بمقدار عشرة مرات منذ عام 1980، مما جعلها تتجاوزت الولايات المتحدة في منتصف عام 2010. كما تشير الأرقام أيضا إلى أن استهلاك الصين من الطاقة العالمية سيبلغ حوالي 20% بعد عشرين سنة. فهل بإمكان العرب استخدام أهم وأخطر مادة استراتيجية في التاريخ لحماية مصالحهم وتحقيق نهضة تنموية شاملة في بلادهم؟ إن العرب يشكلون أكبر كتلة بشرية تجمعها وحدة الثقافة واللغة والدين والتاريخ، لكنها لا تزال مشتتة، تعاني من التجزئة والتخلف والتبعية وغياب الوعي وعدم القدرة على الاستفادة من تجارب الغير من الشعوب، وتقوم في الوقت ذاته بتبديد مواردها وإضاعة الفرصة تلو الأخرى.. إن العرب بحاجة لصحوة ثقافية واجتماعية وسياسية تمكنهم من النهوض من كبوتهم التي طالت، وتأهلهم للقيام بدور دولي يتناسب مع إمكانياتهم المادية والبشرية وتراثهم الثقافي والعلمي. ودون ذلك، لن يكون للعرب مستقبل في المستقبل.
*د. محمد عبد العزيز ربيع: كاتب وأستاذ جامعي من مواليد فلسطين مقيم في العاصمة الأميركية.