يوم طويل... لكنه حافل!!
من اليوميات
يوم طويل... لكنه حافل!!
فراس حج محمد /فلسطين
اليوم هو الخميس، الثلاثون من تشرين أول عام 2014م، والمدينتان هما: رام الله ونابلس، والمكانان هما: اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، والمركز الثقافي لبلدية نابلس- حمدي منجو.
على الرغم من أن بداية ذلك اليوم كانت بداية سوداء بما فيها من رائحة الخوف والموت والأحلام المزعجة والكوابيس المقضة للمضجع فسيطرت على المزاج، فعكرته، وسرقتني من نفسي طوال طريقي الطويل إلى مدينة رام الله، فكنت أتوقع أن أموت في كل لحظة، أحببت أن يكون آخر ما أكتبه لأميرتي شيئا ما ليكون آخر شيء مني لها من حياة توقعتها ستنتهي ذلك اليوم، في تلك اللحظة! ولكنني عشت وها أنا أكتب عن ذلك اليوم، أشعر أن الموت كان حاضرا وبشدة، ولكنه تأجل!!
لم أكن أستطيع الحديث، شعرت بأن الغصة تسد الحلق، وتمنع الحنجرة من إصدار الأصوات، لم أستطع الرد على الاتصالات كما يجب كنت أنهي سريعا كل اتصال، حتى إذا ما هاتفتني أميرتي فارتحت وسري عني، وصار للحظة طعم خاص ولليوم مذاقه المحلى بشهد كلامها العذب، فبدأت بإعداد برنامجي لذلك اليوم، فرحا وقد كنت قبل لحظات مغتما حزيناً
توجهت بصحبة أحد أصدقائي المقربين إلى اتحاد الكتاب، وهناك التقيت بالكاتب والشاعر الفلسطيني الودود الوسيم الطيب "جمعة الرفاعي" بدا أطيب مما تخيلت، وأبسط مما توقعت، وأسمح مما كنت أظن، رأيته مختلفا عن مثقفي رام الله الذين يمتازون بما يمتازون به من صفات الحداثة الزائفة، بدا رجلا مكتنزا معرفيا، هادئا في حديثه، يفيض حبا وابتسامة، وهو يقبل عليك يحدثك!
نتحدث طويلا بأمور الكتابة والشعر والنشر وكان بصحبتنا الكاتب الصديق خليل ناصيف الذي لم يمكث طويلا، مستئذنا للالتحاق بعمله، لكنه شاركنا جزءا من الحديث حول النشر والتسويق وتعامل دور النشر مع الكتاب، والحديث عن نشاطاته وجديده القادم، والتفرغ الإبداعي وما شاكل ذلك من قضايا إشكالية عويصة!
بقينا بصحبة الرفاعي وهو المدير التنفيذي للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، فأسمعنا شيئا من شعره في ديوانه الأول، نصين؛ الأول كان نصا ملحميا طويلا، بدت فيه إشارات معرفية كثيرة بدءا من النص الديني القرآني وانتهاء بالنصوص الفلسفية والتاريخية، بدا شاعرا باحثا عن الإدهاش والصياغة المختلفة ليكون متميزا، صاحب لغة خاصة، وأما النص الثاني فكان أشبه بسيرة ذاتية، وعلاقته بأفراد أسرته من الوالدين والأخوة، ورسم أجواء ريفية لحياة اجتماعية دافئة، معرجا كذلك على بعض دلالات من العمل السياسي وكتابة الشعارات، والسجن، ولم ينس حبيبته الراحلة التي سكن نبضها في جملته الشعرية!
انتهى لقاؤنا سريعا، كأننا لم نمكث سوى دقائق، وقد شرّقنا وغربنا في حديث الشعر والأدب والأدباء، ليكون آخر اللقاء! وقد قدم لي مجموعة متنوعة كتب من إصدارات اتحاد الكتاب الفلسطينين، كتب ستشكل إضافة نوعية لمكتبتي الخاصة، كما شكلت ورفدت بتنوعاتها الأدبية والسياسية المكتبة الفلسطينية والعربية، كتب كتبها أصحابها بأصابع من جمر على لهيب الروح المشتعلة، كتب ستجعلني منقطعا لها وعن غيرها ربما لفترة طويلة من القراءة والكتابة والنقد والتأمل!
بعدها، توجهنا لنكمل الطريق إلى نابلس، حيث المهرجان السابع للتراث الفلسطيني المقررة فعالياته في المركز الثقافي لبلدية نابلس- حمدي منجو، لم نمكث طويلا، فعلى العكس من أستاذنا جمعة الرفاعي، التقينا هناك بشاعر دكتور، لم يظهر لنا ودا، ولم يكن مستعدا لمصافحتنا حتى، ونحن من بادرناه بالسلام والاطمئنان على صحته، ربما كان يظن خطأ أنه كبير، وإذا به مثل بعض اسمه صغير وسيظل صغيرا، كان نافشا نفسه كالبجعة، يتدحرج ليصافح نائب رئيس البلدية، أما نحن العامة فليس لنا من عظمته الموهومة نصيب!
ذكرني صديق دربي بالشيخ رائد صلاح، وقد اجتمع مع أناس كثيرين في مناسبة ما، وقد ظن الحاضرون وشكوا فيه هل هو رائد صلاح أم لا؟ فقال أحد الحاضرين وكان حكيما وصائبا، إذا كان رائد صلاح سيأتيكم ويسلم عليكم، وما إن انتهى الشيخُ من صلاة كان يؤديها حتى صافح الجميع بلا استثناء! فقال ذلك الشخص: ألم أقل لكم إن كان هو الشيخ رائد سيأتيكم؟!
لقاء تعلمنا منه الكثير، فالنموذج غير الأخلاقي يعلم أيضا، كالنموذج الأخلاقي سواء بسواء، ففقهنا درسا في التواضع والأخلاق والاحترام، فالشاعر ليس ذلك المغرور النافش ريشا بلا جدوى، الشاعر ليس شاعرا إن تعالى على الناس، فكيف تهينهم وتريد أن يستمعوا لك! يا ويحنا - أنا ورفيق دربي- اللذان مكثنا حتى سمعناك!
كان يوما طويلا حافلا، غيوثا بالخيرين؛ خير السماء، فقد اغتسلت نابلس بماء عميم، سح في الشوارع والأزقة ليذهب بعض النكد المجلوب من شاعر أهان روحه الشاعرة، وإن كنت أشك بأنه يحمل روحا شاعرة، قبل أن يهين الآخرين، وخير الروح المحبة من أصدقاء محبين (إسماعيل وجمعة وخليل)، وإن ختمها ذلك الشاعر بتصرفاته تلك إلا أنه لا بد منها حتى نستطيع أن نقول: وبضدها تتميز الأشياء، وهنا يحسن أن نقول متناصين مع ما تناص به صديقنا جمعة الرفاعي، والضد يظهر حسنه الضد، فقد كنت ضدا إيجابيا لذلك الشاعر المغرور!
كان يوما مختلفا مشهودا! فشكرا لكل من وهبني حكمة أو حبا فيه!!