سمعت ورأيت 2
سمعت ورأيت
(2)
في السعي بين الصفا والمروة
د.عثمان قدري مكانسي
لا تكتمل العمرة بعد الطواف إلا في السعي بين مرتفعي الصفا والمروة سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتنتهي بالمروة ، فقد قال الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ، ومن تطوّع خيراً فإن الله شاكر عليم " .
ومن عجيب الفهم القاصر قول أحدهم : فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ، إنّ لك أن تطوف أو لا تطوف ، فقد ترك الخيار لك . قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية :
" قَالَ الإمام أَحْمَد : حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن دَاوُد الهَاشِمِيّ أَخْبَرَنَا إِبرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَ : قُلت أَرَأَيتِ قَوْل اللَّه تَعَالَى " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اِعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا " قلْتُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَد جُنَاح أَنْ لا يَتَطَوَّف بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَة : بِئْسَمَا قُلت يَا اِبْن أُختِي ، إِنَّهَا لَوْ كَانتْ عَلَى مَا أَوَّلْتهَا عَلَيهِ كَانَتْ : فلا جُنَاح عَلَيْهِ أَنْ (لا يَطُوف) بِهِمَا وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ لأنّ الأنصار قَبل أَنْ يُسلِمُوا كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاة الطَّاغِيَة الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْد الْمُشَلَّل ; وَكَانَ مَنْ أَهَلّ لَهَا يَتَحَرَّج أَنْ يَطُوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة فَسَأَلُوا عَن ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّج أَنْ نَطُوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة فِي الْجَاهِلِيَّة فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اِعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّف بِهِمَا " قَالَتْ عَائِشَة : ثُمَّ قَدْ سَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَاف بِهِمَا فَلَيْسَ لأحد أَنْ يَدَع الطَّوَاف بِهِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وكان بعضُهم يقول : إِنَّ طَوَافنَا بَيْن هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمر الْجَاهِلِيَّة ، وَقَالَ آخَرُونَ من الأنصار إِنَّمَا أُمِرنا بِالطَّوَافِ بِالبَيتِ وَلَمْ نُؤْمَر بِالطَّوَافِ بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه " قَالَ أَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن فَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ فِي هؤلاء وهؤلاء .
قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يُوسُف حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَاصِم بْن سُلَيْمَان قَالَ : سَأَلْت أَنَسًا عَن الصَّفَا وَالْمَرْوَة ؟ قَالَ : كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْر الْجَاهِلِيَّة فَلَمَّا جَاءَ الإسلامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه "
وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَانَ إِسَاف عَلَى الصَّفَا وَكَانَتْ نَائِلَة عَلَى الْمَرْوَة وَكَانُوا يَسْتَلِمُونَهُمَا فَتَحَرَّجُوا بَعْد الإسلام مِن الطَّوَاف بَيْنهمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية . قُلْت " ذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي كِتَاب السِّيرَة أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَة كَانَا بَشَرَيْنِ فَزَنَيَا دَاخِل الْكَعْبَة فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَنَصَبَتْهُمَا قُرَيْش تُجَاه الْكَعْبَة لِيَعْتَبِر بِهِمَا النَّاسُ فَلَمَّا طَالَ عَهْدهمَا عُبِدَا ثُمَّ حُوّلا إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَنُصِبَا هُنَالِكَ فَكَانَ مَنْ طَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة يَسْتَلِمهُمَا .
صلينا ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم عليه السلام بعد صلاة العشاء التي حانت بعد الطواف مباشرة وانطلقنا نحو الصفا ، وبعد أن اعتليناه اتجهنا إلى البيت ندعو الله تعالى ونسأله القبول ، ثم بدنا السعي .
مشينا متمهّلين ، فمن تجاوز الستين بسنتين غيرُه قبل ثلاثين سنة ، فهناك صرح الشباب ، وهنا الشيخوخة ، هناك القوة ، وهنا الضعف والشيبة ، هذه سنة الله في عباده ، فمن وعى ذلك انتبه أنه مودّع في يوم حان مجيئه ، فما مضى أكثر بكثير مما بقي ، والحركة أقرب إلى البطء ، خاصة بعد بذل الجهد في الطواف . .. هرولت بين الميلين الأخضرين ، ونظرت إلى رفيقة الدرب التي حاولت أن تسرع لتلحق بي ، كانت تلهث ، ووجهها يحمرّ ، وعرقها يسيل . فانتظرتها إلى أن وصلت تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال ، ، فعطفت عليها ممسكاً بيدها أعينها في مسيرها ، ووصلنا إلى المروة ، فصعدناها واتجهنا إلى البيت الشريف نسأل الله تعالى أن يعيننا على إتمام السعي وقبولنا في عباده الصالحين ، وسرنا متمهلَين نحو الصفا ...
اضطررنا للجلوس على مرتفع قريب من الصفا رأينا بعض الأسر تجلس فيه وشربنا من ماء زمزم المبثوث في كل مكان في الحرم يناله المصلون متى ما أرادوا ، وهذه منقبة رائعة للقائمين على خدمة الحجيج والمعتمرين والزائرين جزاهم الله كل خير . وتذكرت قول الشاعر :
لا يعرف الشوق إلا من يكابدُه ولا الصبابة إلا من يعانيها
كنا من قبل حين نبدأ السعي ننطلق بهمة ونشاط لا يجارينا فيها إلا القليل من الساعين ، ونمر على أمثالنا من كبار السنّ ، فندعو لهم بالصحة والعافية غير مدركين حجم معاناتهم . لكننا الآن نعيد سيرتهم ، ولعلّ بعض الشباب والصبايا الآن ينظرون إلينا بالعين نفسها التي كنا ننظر في سالف الأيام إلى أمثالنا الآن . هكذا الحياة تدور فيعيش البشر دورتها التي قدّرها الله سبحانه على مخلوقاته .
ضحكنا كثيراً حين انطلق بعض الشباب بين الميلين بخفة الغزلان وتبعتهم فتاة في العشرين من عمرها تركض خلفهم ، ولعلها كانت معهم ، فرفعت ثوبها إلى ركبتيها ، وكأنها تقول : لن تسبقوني . ونسيت أو غفلت أنها كشفت ما ينبغي ستره حين أخذتها الحمية ففعلت ما فعلوا .
أما هؤلاء النساء الماليزيات اللواتي يقودهن رجل فوق الخمسين فقد كنّ يرددن ما كان يدعو به من لغة غريبة لم أفهم منها حرفاً ، ويسرعن وراءه بثيابهنّ المزركشة وحجاب الرأس الملوّن المكتوب عليه بالعربية " ماليزيا " ولعلهنّ وقائدهنّ كنّ مسرعات يرغبن الانتهاء من السعي بوقت قصير ، فلم يرتفعن إلى الصفا ، إنما التففن جميعاً التفافاً سريعاً مع صاحبهنّ نحو المروة ، وتابعن السعي والدعاء . وهكذا فعلن حين وصلن إلى المروة .
قبل المروة بأمتار قليلة فتحة تعود إلى المسعى المقابل المؤدي إلى الصفا ، حين وصل إليه أحد الرجال ومعه ولداه الصغيران ، انعطف الأصغرر قائلاً لأبيه ، تعال من هنا يا بابا ، فالطريق أقصر . فما كان من والده إلا أن جذبه قائلاً : لا بد في كل مرة – يا بنيّ- أن نرتفع للصفا أو للمروة ، وإلا لم يُحسب الشوط لنا .
كان أحدهم – وبصوت مرتفع – يسرع في سعيه ويحدّث أحدهم بالهاتف المحمول في أمور البيع والشراء ويخبره أن الثمن المدفوع بالبضاعة أقل بكثير من المطلوب ، ويؤكد لمن يكلمه أنه لو أراد بيعه بمثل هذا الثمن لباعه منذ زمن ، ويبدو أن الحديث طال بينهما ، فقد رأيته يتجاوزني بمسافة بعيدة ويده ما تزال تحمل الهاتف إلى أذنه .
كانت هذه المرأة تجلس على ركبتيها أعلى الصفا وظهرها للناس ، وتحرك يديها بطريقة متوازنة ، فلما وصلنا قريباً منها ودعونا الله متجهَين إلى الكعبة التفتّ إليها لأراها تنظف رضيعها بالورق المبلل ، وتميط عنه الأذى ، لا شك أن الأمر ليس بمستهجن ، فقد كان هذا المكان على مر القرون الماضية محلات تجارية وبيوتات سكنية وطريقاً لأهل المنطقة ، وتحول منذ عشرات السنين القريبة فقط داخل سور الحرم .
منذ سنتين فقط جئت معتمراً ، فسعينا ذهاباً وإياباً في منطقة الذهاب التي نراها الآن ، وتضاعف عرض المسعى ليسمح بسهولة الحركة للحجاج والمعتمرين الذين يزدادون يوماً بعد يوم ، ومع هذا فقد امتلأ المسعى بالناس وكأننا وقت الحج ، أو في عمرة رمضانية . فالحمد لله تعالى أنْ يسّر لعباده الاعتمار على مدار السنة ، فكثر زوار بيته المعظم . قيل لنا لو ارتفعتما إلى المسعى في الطابق الأعلى فالسعي هناك أسهل ، فلم نفعل لأننا اعتدنا على أن نصعد الجلين أما هناك فلا صعود ولا هبوط .
قلت قبل أداء العمرة متشوّقاً لأدائها :
يا رب بلّغني له ........ فأنت من يهدي الضليل
يا رب وارزقني زيا.......رة بيتك العالي الظليل
وزيارةً للمصطفى .........فهواه في قلبي أصيل
وكانت دعوة من القلب في ليلة مباركة ، فرزقني الله تعالى بفضل منه ورحمة زيارة بيته العتيق ، ومسجد رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
اللهم تقبل منا أعمالناً وتجاوز عن سيئاتنا ، فأنت العليم بحالنا ، وأنت الكريم ذو الفضل ، سبحانك ، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك ...............