إسلام يحميه المجتمع خير من إسلام تعوله الدولة
إسلام يحميه المجتمع خير من إسلام تعوله الدولة
د. خالد شوكات :موقع الشفاف 1/8/2004
العلمانية الأندونيسية..
في عمق "جاوة" أهم جزر الأرخبيل الأندونيسي، وعلى مقربة من بركان "ديينغ" شبه الخامد، الذي ما فتئ يهدد جيرانه بحمم النار كل حين.. في منطقة جبلية وعرة، تكسوها الغابات الاستوائية الخضراء، وتنتشر في منحنياتها ووديانها قرى
الفلاحين
الأندونيسيين البسطاء.. في هذه البقعة التي تفصلها
عن مكة
المكرمة يابسة وبحار وآلاف الأميال، والتي لم تكن معروفة للعرب حتما على
أيام
النبي العربي صلى الله عليه وسلم..استمعت إلى الآذان يدعو الناس إلى صلاة
الجمعة، يتردد في الوديان والسهول من عشرات المآذن، وسمعت آيات الكتاب الكريم
يرددها
الصدى، وتلتقفها آذان أناس يجلونها لكنهم حتما لا يفهمونها...
تساءلت:
أترى
كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أن جزرا نائية جدا تخفيها مياه البحار
المظلمة، ستردد كلمات الله المرسلة إليه وسيهب سكانها الذين تجاوزوا المائتي مليون
لتلبية
نداء الدين الذي جاء به مبشرا ونذيرا..أتراه كان يعلم أن قوما أعاجم،
مزارعون بسطاء، كهولا وشبابا ونساء، يتركون أعمالهم وأموالهم وأرزاقهم، يذرون البيع
والشراء، ليعمروا مساجد لا ينطق قرءانها بلغتهم، وليحبوا نبيا ليس من بني جلدتهم،
وليخلصوا لدين قرونا طويلة ولا يزالون، أتى به إليهم تجار غرباء..
ما
أكثر مساجد
أندونيسيا وما أجمل حلتها.. في الطريق من "باتوردان" البعيدة عن البحر وسط جاوة،
إلى "جوغجا"
عاصمة البلاد التاريخية، حيث لا يزال السلطان "هامنغ كوبويونو" يحكم
منذ
القرن الثامن عشرة، اضطر سائق السيارة التي تقلنا إلى التوقف العديد من المرات،
فبناة
المساجد في القرى والأرياف الاندونيسية لا يتوقفون عن حركة التشييد والبناء،
يطلبون
مساعدة أهل البر والإحسان، التصدق ببعض مالهم للبدء في إعمار مسجد، أو
استكمال بناء آخر شرع في إقامة أعمدته.. وكل قرية لا بد لها من مسجد أو أكثر كما
سمعت،
فيما يتبارى الجميع لتشييد الأفضل والأجمل..
مساجد
أندونيسيا، تؤدي وظائف
أكثر
من تلك التي تعرف عندنا في البلاد العربية، وهي مساجد ذات إدارة خاصة، غير
خاضعة
لتوجيه إدارة حكومية أو سلطة وزارية، وهي إلى كونها بيوتا للعبادة والصلاة
مدارس
لتعليم البنين والبنات أصول الدين وبعضا من سور القرءان الكريم ومبادئ اللغة
العربية، كما هي مراكز لنشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين، وهم ليسوا كثرا في
أندونيسيا، ومؤسسات اجتماعية وخيرية لإصلاح الصلات العائلية الفاترة ومساعدة
الأرامل والأيتام والفقراء وسائر المحتاجين...
تحرص
مساجد أندونيسيا أيضا على
تنظيم
دورات للذين قرروا الحج أو العمرة لبيت الله الحرام، تعلمهم الانضباط في آداء
المناسك واحترام قدسية المكان ونظافته والتأدب والتلطف في معاملة زواره، ومن هنا
فهمنا
سر السمعة الطيبة التي يحظى بها الحجيج الأندونيسيون مقارنة بغيرهم، ومردها
تلك
الصلة القوية التي تربطهم بمساجدهم، وذلك الدور التربوي الخالص الذي تضطلع به
هذه
المساجد في تكوين وتأهيل المؤمنين.
في
مسجد "الاستقلال" بالعاصمة جاكرتا،
وهو
مسجد جامع عظيم البناء، يقال أنه الأكبر من نوعه في منطقة جنوب شرق آسيا، وجدنا
مئات
من طلبة المدارس الابتدائية والثانوية، يتابعون دروسا في القرءان واللغة
العربية، بعد انتهائهم من الدوام في المدارس الحكومية..وقد كان لافتا للنظر أن
للصلاة
زيا خاصا، يقبل الطلبة من الاناث خصوصا، على ارتدائه حين يحين وقت صلاة
الجماعة، كما كان لافتا أيضا أن موقع الطالبات في الصلاة لا يوجد في مؤخرة المسجد
كما هو
الحال في غالبية المساجد في البلاد العربية، بل في صدر المسجد.
في
الطريق
الطويل
المتشعب من جاكرتا إلى بوغور إلى باندونغ إلى جوغجا، رصدنا عشرات معاهد
التعليم الإسلامي، المتخصصة فيما يبدو في تكوين وإعداد أئمة المساجد والوعاظ
والخطباء، وقد رفعت في مداخلها لافتات تعرف بها، يحتل الحرف العربي أعلاها، وقد
بلغنا
أنها جميعها مؤسسات خاصة أنشئت بمساعدات وأموال الصدقات والزكاوات التي يجود
بها
الخيرون من أبناء الشعب الأندونيسي المسلم.
وفي
جاكرتا وجوغجا وباندونغ
وغيرها
من مدن جاوة الكبرى، لاحظنا أيضا أن كبريات المحلات التجارية، التي تعرض
منتجات
أشهر الماركات العالمية، لا تخلو من أجنحة خاصة بالألبسة واحتياجات الشرائح
المتدينة في المجتمع الأندونيسي، وهي ألبسة ومنتجات قد جمعت في الغالب بين سعي إلى
الالتزام بالضوابط الشرعية ورغبة في مسايرة تيارات الموضة والحداثة.
وطيلة
ما
يزيد عن أسبوع
من الإقامة في مختلف مدن جاوة، لم نلاحظ أي توتر أو مؤشرات صراع
اجتماعي أو من أي نوع آخر، بين المتدينين وغير المتدينين في أندونيسيا، إذ ثمة غلبة
واضحة
لقيم التعايش والتسامح، ليس بين مختلف مكونات المجتمع الأندونيسي المسلم
فحسب،
بل كذلك بين المسلمين وغير المسلمين..ولا شك أن أحداث الصراع التي تنشب بين
بعض
أبناء الأغلبية الأندونيسية المسلمة وبعض نظرائهم المنحدرين من الأقلية
الصينية، أو بين المسلمين والمسيحيين، والتي تنقلها وسائل الإعلام إلينا، لا تعبر
إلا عن
حالات طارئة سرعان ما يخفت بريقها، فالأصل عند الأندونيسيين قبول التعدد
الديني
والطائفي والاثني، والنظر إليه كميزة، لم يتردد أكثر من مرافق لنا في
الافتخار بها.
و عند
البحث عن تفسير للطبيعة المسالمة للشعب الأندونيسي المسلم،
يعثر
الباحث بكل يسر عن أدلة كثيرة في تاريخ البلاد وتاريخ سكانها، ومن هذه الأدلة
أن
الاسلام لم ينتشر في مختلف أرجاء الارخبيل الأندونيسي، بالاعتماد على الجيوش
وحركات
الفتح العسكرية، بل كان إقبال الأندونيسيين على العقيدة المحمدية إقبالا
طوعيا
سلميا، وكانت انطلاقة ذلك عن طريق ثلة قليلة من التجار المسلمين، من عرب
وهنود،
أبهروا السكان المحليين بسلوكهم القويم واستقامتهم الأخلاقية العالية، تماما
كما
بعقيدتهم السهلة المباشرة، الخالية من التمييز الطبقي على غرار ما كان سائدا في
ظل
الديانة الهندوسية المسيطرة حتى ساعة التحول الكبير إلى الدين التوحيدي الجديد
خلال
القرنين السادس عشر والسابع عشر.
هذا
الطابع السلمي الذي تميزت به حركة الدعوة
الإسلامية، هو الذي سيكون لاحقا عامل إقناع غالبية الأندونيسيين بالتشبث بالعقيدة
الإسلامية، في مواجهة حملات التبشير التي صحبت حركتي الاستعمار البرتغالي
والهولندي،
الذي
سيطر على الأرخبيل لما يقارب الخمسة قرون.. وقد ظل الإسلام دين جاوه وسومطرة
وغيرها
من الجزر الأندونيسية، وقد عجز البرتغاليون والهولنديون عن التغيير، فقد جاء
دينهم
على فوهات المدافع، في حين انتشر الإسلام سلما وطوعا ومحبة.
ولقد
تعود
الأندونيسيون
كمجتمع على حماية وتعهد الإسلام طيلة أربعة عقود أو أكثر، وذلك في ظل
وقوع
البلاد تحت سيطرة إدارة استعمارية غربية كانت ترعى بالأساس دين الكنيسة، مثلما
تعودوا
على تحرير مؤسساتهم الدينية الإسلامية من كل وصاية حكومية مادية أو معنوية،
فلما
جاء الاستقلال وتبنى رواد الحركة الوطنية نموذج الدولة العلمانية، لم يضر ذلك
الأندونيسيين، فواصلوا حماية الدين والاضطلاع بمسؤوليات خدمته من خلال مؤسساتهم
المجتمعية، وكان ذلك برأي الكثير من المفكرين الأندونيسيين خيرا للإسلام
وأبقى.
وفي
أندونيسيا الراهنة، وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال عن ظهور جماعات
إسلامية متطرفة، تتخذ من العمليات الإرهابية وسيلة لبلوغ أهداف سياسية، لم تدخل
الحياة
السياسية الأندونيسية في حالة صراع بين الدولة والإسلام، بل أبقت المؤسسات
السياسية نفسها في حالة ضبط، كما ظل السياسيون الأندونيسيون يفرقون بين جماعة قليلة
العدد،
اختارت العنف والتشدد منهجا، وبين الجماعات الدينية الكثيرة المنتشرة في
مختلف
ربوع البلاد، والتي تشبثت طيلة عقود بالمنهج السلمي، وحرصت كل الحرص على
المحافظة على الأمن والسلم الاجتماعي.
ومن
مميزات العلمانية الأندونيسية، أنها
لم
تجبر الجماعات الدينية الإسلامية على عدم خوض العمل السياسي، بل شجعت الراغبة من
هذه
الجماعات على الانخراط في مسيرة البناء الديمقراطي والمساهمة الفعالة في تسيير
أجهزة
الحكم. ويجد مراقب الحياة السياسية الأندونيسية "أمين ريس" زعيم الحركة
المحمدية، وهي حركة اسلامية معتدلة، على رأس البرلمان، فيما كان زعيم حركة "نهضة
العلماء" عبد الرحمن واحد أول رؤساء أندونيسيا بعد انتقالها إلى الديمقراطية
وتوديعها الحقبة "السوهارتية".
وتشهد
أندونيسيا اليوم موجة من الحركات
والجماعات الإسلامية الجديدة، التي تقترح توجهات ورؤى غير تقليدية على الفكر الديني
الإسلامي، تجذر فيه من جانب الطابع السلمي الهادئ، وتدفعه من جانب آخر إلى الانفتاح
على
متغيرات العصر ومستجدات الحداثة، وهو ما جعل بعض المواقع العربية الإسلامية على
شبكة
الانترنت تصف الداعية الإسلامي الجديد في أندونيسيا ب"داعية نيو لوك".
إن
التجربة العلمانية في أندونيسيا، قد أثبتت لكثير من المهتمين بالشأن العربي
والإسلامي، أن إسلاما يحبه الناس طوعا ويقبل المؤمنون بتعاليمه على مناسكه حبا
ومثابة، إسلام يرعاه المجتمع ويتعهده المواطنون المؤمنون بالدعم ويلوذ بمؤسساته
المحتاجون طلبا للطمأنينة والاستقرار، خير من إسلام تعوله الدولة، وتستخدمه الأحزاب
والجماعات لتحقيق أهداف خاصة قاصرة، إسلام يقوم على الوصاية والرقابة والنفاق
السياسي والاجتماعي والديني، وتختلط معه الأوراق، فلا يدرك المؤمن حقا من طالب
الوظيفة أو الشهرة أو المصلحة الضيقة.
لقد
أثبتت التجربة الأندونيسية أيضا، أنه
لا خوف
على الإسلام إذا ما تحرر من ربقة الدولة والأحزاب، وأن دين الأندونيسيين
أكثر
صلابة وقوة لأنه قائم على القناعات الذاتية والجهود الطوعية، ولأنه سلمي وهادئ
واجتماعي، يسأل الله أن يحفظه من شرور المبتدعين، من غلاة التطرف والمتحزبين
الدينيين…