إلى بريطانيا(1)
إلى بريطانيا(1)
بقلم: د. عثمان قدري مكانسي
نحن الآن في الإمارات من " آب " صيف ثلاثة وتسعين وتسع مئة وألف ، لم نكن نرغب في السفر خارج الدولة ، إلا أن أختي أم حسن المهاجرة إلى لندن منذ تسع سنوات شجعتني لزيارتها هناك ، لم يبق سوى شهر للعودة إلى المدارس ... تكاسلت لهذا السبب ، فالرحلة إلى أوربا باهظة ، والوقت الباقي شهر تقريبا ، بل أقل بكثير ، فالمدرس يود أن يعود إلى مقر إقامته قبل بدء العمل بأيام ، يجهز فيها نفسه ... وإذا نلت التأشيرة فلن تكون بين يديّ قبل أيام ، ولا يشتري أحدنا بطاقة السفر إلا بعد التأكد أنه نال تأشيرة الدخول إلى البلد الذي يقصده ... كنت في عام ستة وثمانين قد طلبت تأشيرة السفر إلى بريطانيا ، وكانت سوريا قطعت علاقتها بها ، فجاءني الرفض بعد ستة أشهر من تقديم الطلب .
قلت لأم حسان : يخطر ببالي أن نطلب التأشيرة ، ولو لم نسافر . قالت : جرب لنفسك ، فإن نلتَها طلبتُها أنا . قلت : لم ؟ قالت : من عادة القنصلية البريطانية أنها تستوفي الرسم أوّلاً ، وهو باهظ ، قريب من مئتي درهم ، وقد تعطيكها ، وقد لا تعطيكها . وأنا لا أرى في نفسي رغبة في السفر حتى هذه اللحظة ، ولربما يتغير رأيي حين أراك تجهز نفسك لرحلتك ، فأصاحبك .
كنت في اليوم التالي- ومعي أوراقي- أطرق باب القنصلية البريطانية . كانت قائمة في " بر دبي " غرب الخور ، تشرف عليه بأبنيتها الفخمة ، وأمامها من الطرف الشرقيّ " الديرة " القسم الشرقي من المدينة ، بل قل : القسم الأصيل منها . وأمام البوابة الرئيسية شرطيان يمنعان السيارات أن تقف أمام البوابة الرئيسية، ويحافظان على النظام .... وقريبا من البوابة باب كبير أمامه فسحة بحجم الغرفة يدخل منها الزائر ، فيتلقّفه حارسان يسلمانه الأوراق التي ينبغي أن يملأها ، ثم يفرغ جيوبه من كل شيء ويمر من تحت جهاز يكشف الأدوات الحديدية أو الممنوع إدخالها ،ويأخذون منه الهاتف الخلوي ، ويناولونه ورقة فيها رقم دخوله ، فإذا نادوا بالترتيب، ووصلوا إلى رقمه فذكروه كان أمام إحدى النوافذ التي فرغ الموظف فيها لتوّه من مُراجع سابق، ليبدأ معه جولة جديدة ... ثم يخرج إلى ساحة كبيرة ممتدّة إلى البناء الرئيس ، فيدخل قاعة كبيرة مكيفة ، تتسع مئة زائر ، فيها كراسٍ مريحةٌ ، وعلى الباب موظف يطلب إليك بتهذيب أن يرى الأوراق ويتفحصها، ليعينك في استكمال المعلومات فيها، قبل الوصول إلى إحدى نوافذ المراجعات .
جاء دوري حين سمعت الرقم الذي أحمله ، وتوجهت للنافذة التي دُعيتُ إليها ، فقابلني شاب مهذب بابتسامة خفيفة .... قدمت أوراقي فتفحّصها ودخل إلى حيث لا أراه . ثم عاد قائلاً : راجعنا بعد غد لتقابل نائبة القنصل .. هل تجيد الإنجليزية ؟ قلت : لا . قال : نفضّل أن يرافقك من يحسنها .
قال الصيدليّ الأخ " منار " الذي يعمل في إدارة الطيران الدبويّ ، وقد درس اختصاصه في تركيا – في الجامعة الأمريكية في أنقرة – أنا أذهب معك ، فقد أقف هذا الموقف في يوم ما ... منار هذا حفظه الله تعالى وأهلَه يعيشون في السويد منذ أكثر من سبع سنوات ، ترك سماجة الإمارات ودول الخليج وغباء القائمين عليها ... هؤلاء الذين يعبدون الدرهم والدينار ، ويخافون أمريكا والغرب من دون الله ، فيستشـِفـّون ما يمكن أن يُؤمروا به ، فيسارعون إلى التنفيذ قبل أن يُطلب إليهم ذلك ... ولا أحاشي الرويبضات في شرق العالم العربي والإسلامي وغربه، فكلهم صناعة غربيّة! غريبة !...
استقبلتنا نائبة القنصل في غرفة داخلية بيننا وبينها حجاب زجاجيّ ، تسألني سبب الزيارة ، والمدّة التي سأمكثها هناك ،وحقيقة جواز السفر الذي أحمله ، وعدم ذهابي إلى سورية منذ أن خرجت منها .. كنت ألحظ أنها تعرف الكثير من العربية حين تصيخ السمع إليّ قبل أن يترجم منار ما أقول ، فأتجاهل ذلك بجواب مغلف بالبراءة ... ثم تقرر أن تقدم لي موافقة جلالة الملكة على طلب الزيارة ... قالت زوجتي كعادتها حين تراني جادّا ، أهيئ نفسي للسفر : سأذهب معك ... عدت إدراجي إلى القنصلية البريطانية أستخرج تأشيرة لها ، واستغرق هذا الأمر يومين آخرين ، ثم أصابتها وعكة ، فوجدنا الزمن تداركنا ، فلم يبق للمدارس سوى أسبوعين أو أكثر ، ففترت الهمة ، وعزفنا عن الرحلة ، واعتذرنا لأختي على أمل زيارتها في وقت آخر .
بعد سنتين – في الخامسة والتسعين وتسع المئة بعد الألف – وطنا نفسينا أن نقضي الصيف في لندن ، فرأيت نفسي أجهز الأوراق المطلوبة وأيمم وجهي شطر القنصلية البريطانية . في هذه المرة لم يطلبوا منا كشفاً بالرصيد البنكي ، فهم يطلبونه للتأشيرة الأولى فقط .... قال الموظف الذي استلم مني الطلب : لقد امتنعت عن السفر في السنة قبل الماضية ، فلمْ تلبِّ دعوة جلالة الملكة حين أذنت لك بالزيارة . قلت مرضت زوجتي . سمعت نائبة القنصل جوابي ، فعلقت متسائلة : أتحب زوجتك إلى هذا الحدِّ ؟ قلت بداهة : ألا يحبك زوجك ياسيدتي ؟ . ضحكت قائلة : زوجي في بريطانيا ، وأنا أعيش هنا . قلت : فلم نكون زوجين إذا كان بيننا البحار وأرض الله الواسعة !؟ لن يفرقنا إلا الموت إن شاء الله ، هذا هو الحب ، وهكذا يعيش الزوجان. ... لوَتْ شفتيها ، وأمضت موافقتها ، وقالت : غداً الواحدة ظهرا تستلم جوازي سفركما ... وهكذا كان .
في هذه السنة صدر ديواني الشعري الثاني : " وميض قلب " أهديته زوجتي ، قائلاً :
فـي كل يـوم حبها يـزدادُ ولها بقـلبـي رأفـة وودادُ
هي جنة البيت السعيد وروضُه والعيـش في أفيـائها أعيـاد
في قربـها أجد الحيـاة رغيدةً فيهــا المحبة والهوى الميّاد
أهديـك شِعـراً، أنتِ إلهـام له مـن فيض ودّكِ نشـرُهُ أورادُ
ولم لا يودّ الرجل زوجته إذا كانت كما وصفها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام : " الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة"؟ ... " إنْ نظر إليها سّرتـْهُ ،وإن أمرها أطاعتْهُ ، وإن غاب عنها حفظتْه في عرضها وماله " ؟ . ولنا في المصطفى عليه سحائب الصلوات ودِيَمُ السلام أسوة حسنة في علائقه بزوجاته رضوان الله تعالى عليهنَّ . وفي هذا الديوان قصيدتان فيها . أما الأولى فعنوانها : " فاظفر بذات الدين ، تربَتْ يداك " أقول في بعض أبياتها :
هــذه الـدنـيــا متـاعٌ، أنـتِ جـدواهُ خـاب مـن يـبـحـث عن مال وعن جاه لـكِـنِ الـمسـلمُ إن يـبـغِ المســرّاتِ |
|
زوجـةُ فـيـهـا الـصـلاح ظـاهر أو جـمـال قـد يـزول ب__ـعـد أيـامِ فـبـذات الـديـن يـلـقـى كـلّ إكـرامِ |
نامِ
وأما الثانية فقصتها أنني أخطأت مرة بحقها ، ولا أدري ماذا قلت لها في سَوْرة غضب ، فوجدت صباحا هذا البيت الشعري :
تقول جَهـاراً : ستحرق قـلبي وربي عظيم ، عليم بما بي ؟
فانتفضت كاللديغ ، فما ينبغي لي أن أتفوّهَ بمثل هذا الهجر من القول ، ورأيتني أكتب قصيدة أبدأ فيها :
أعـوذ بربكِ أن أسـتبـيح فؤادَكِ يامن سكنتِ بقلبي
ويعـلم ربي بأنـكِ حِبّـي وأنـك ورد يفـوح بـدربي
واعتذرت إليها ، لكن طالبتها أن تُجمل في الخصام ، وترعى باللطف سويعات القرب ،وتجعل بيتنا رياضاً، وتترك العبوس والتقطيب ، وأن تلتزم حقي عليها ، ... وقد وعدتْ قدر استطاعتها ، فعادت المياه إلى مجاريها .
حملتنا طائرة للخطوط الملكية الأردنية إلى عمّان فتوقّفنا في مطارها ستّ ساعات ، ثم حملتنا أخرى ، فمرّت ْ بنا فوق دمشق ، فازداد وجيب القلب حبا وفرَقاً ، أما الحب فلأنها البلد الذي حرمنا الظلمةُ منه ، فلا نستطيع الوصول إليه ، وأما الفَرَقُ فلأمر قد يضطر الطائرة أن تنزل في دمشق ، فأصير في خبر كان ويكون ... لقد غُيِّب عشرات الآلاف من الرجال كانوا ملء العين والبصر في غياهب السجون والمعتقلات ، لا بواكيَ لهم ........ وقد أحسن مَن قال عن النظام القمعيّ الذي يحكم سورية بالنار والحديد :
لو أنك يوماً زرتَ سجون
لعلمت بأن الموت حنون
سـجن في شرق بلادي
سـجن في غرب بلادي
ســجن هي كل بلادي
سـجن ، سجّان وعيون
فإذا ما صارت الطائرة فوق لبنان بدأ الخفقان يعدو إلى وتيرته ، ليس لأن بيروت أكثر أماناً من دمشق فالمخابرات السورية تحكم لبنان ومن يحكم لبنان ،إنما ستكون بعد قليل فوق البحر . ولأن يغرق المرء في لججه خير من أن يقع بين أيدي وحوش شيطانية تشرب الدماء وتذيق الحر الألم ألوانا، فهو يموت كل يوم مئات الموتات ، ويتمنى الموت الحقيقيّ فلا يراه . ... ثم تمر فوق جزيرة قبرص التي حكمها المسلمون من لدن معاوية رضي الله عنه إلى نهاية عصر العثمانيين، وهي الآن يحكمها غيرهم ، وصاروا شراذم متفرقين يقودهم غيرهم كما تُقاد السائمة .
كم صرّفتنا يدٌ كنا نصرّفها وبات يحكمنا شعب ملكناه
وتمر بعد ذلك بقليل على جزر صغيرة وكبيرة منثورة في المياه الزرقاء دون نظام ، فتدري أنك فوق اليونان وأرخبيله ، وتتزايد الأرض الخضراء كلما أمعنت الطائرة في الشمال الغربي، ولا تمضي ساعة حتى ترى نفسك تطل على البلقان ، ومن ثَمّ البحر الأدرياتيكي بين البوسنة وإيطاليا الشمالية، فتتجه إلى سويسرا ثم هولاندا لتكون بعد خمس ساعات من بدء الرحلة فوق مطار لندن . ما أكثر الأنهار والبحيرات ، وما أجمل جبال الألب ، وأبهِجْ بالمناظر الرائعة التي تنسيك –مؤقتاً- صفرة الصحراء وجفاف الأرض الجرداء في بلاد العرب .
وصلنا مطار " هيثرو "- أكبر مطارات لندن ـ عصراً ، ويسألني موظف الجوازات عدة أسئلة فهمت بعضها ولم أفهم بعضها الآخر ، فتخلص منا إذ ختم على جوازي سفرنا ، وتجاوزنا الصالة إلى حيث الحقائب بسهولة ويسر ، ... وما أحلى لقاء أختي بعد اثني عشر عاماً من الفراق !، لقد عرفتها سريعا بين المستقبلين ، وهل ينسى أحدنا قطعة منه وجزءاً من حياته ؟! فقد كانت نهاية عنقود الوالدين رحمهما الله تعالى ودلّوعة أهلها ، .. وكان عناق أخوي بث كل منا الآخر ماحوته الأضلع وحنايا الفؤاد من شوق وحب ، .. كنت عيناها مغرورقتين بالدموع ، إلا أنهما تشعان بالفرحة إذ رأت أخاها... واكتحلت عيناه بها – أيضاً ـ بعد زمن طويل ، بعد اثني عشر عاما ! !! قد تقول أخي القارئ هذا زمن طويل فعلاً . ولكنك ستعجب أكثر حين تعلم أنني رأيت أخي " برهان " في التاسع من أيلول لهذا العام ، قبل أسبوع واحد من كتابة هذه المقالة.. رأيته بعد ستة وعشرين عاماً ... أتصدّق؟؟ بعد ستة وعشرين عاما ... فقد غادرت إلى الجزائر في أيلول عام ثمانية وسبعين وتسع مئة وألف ، ودخل برهان سجون الظلمة عام ثمانين وتسع مئة وألف ، وخرج منها بعد ثمانية عشر عاماً ، اعتقل وهو في الثانية والعشرين من عمره – طالبا في كلية العلوم في حلب – وخرج في الأربعين كهلاً ينخر المرض جسمه ، لكن روحه ونفسه وأمله بالله يتعاظم ويقوى !! قضى زهرة شبابه في سجون الظالمين، ولم يسمح له بالخروج من سورية إلا بعد ست سنوات .. ليكتمل الفراق بيننا ستة وعشرين عاما !.. .. ستة وعشرين عاماً بالتمام والكمال ..... لك الله أيها الأخ الحبيب ، وعوضك الجنة ، وجعل ثوابك ثواب أهل بدر ، بل أنت والله أكثر صبراً على البلاء منهم ، فقد نالك الضر والأذى عمرا مديدا بين أيدٍ وحشيةٍ لا تعرف إنسانية ، ولا ترقب في مؤمن إلاّ ولا ذمة .
زارنا في مدينة الزرقاء الأردنية عام واحد وثمانين الأخ الفاضل " أبو رامز " الحمصي ، يرافقه شاب لطيف من حمص كذلك ، فهما حمصيان ، والجمع " حمامصة " لا حماصنة .. قال أعرفك على الأخ " وليد " يبحث عن نصفه الآخر ، ولعله عندكم . قلت على الرحب والسعة .. و تحمصنت أختي أو تحمّصَتْ، ولم يتحلّب زوجها ، مع أنه يكنى " أبا حسن " إلا أن أخلاقه – حقيقة – سهلة هينة لطيفة ، فهو اسم على مسمى ولا نزكي على الله أحدا ، اللهم حسن أخلاقنا وسهلها . وحمدت الله تعالى أن تحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " .
كانت لندن كما قيل لنا حارة هذا الصيف على غير ما عرفه ساكنوها منذ ثلاثين سنة .
قال أبو حسن بظرفه المعهود : لقد جلبت معك حرّ الإمارات .... لم تمطر السماء طوال الفترة التي قضيناها . إلا أن الجو كان لطيفا عند الصباح وبعد العصر .فكثيرا ما ركبنا ال " underground " قطارات الأنفاق الممتدة كالأخطبوط في أسفل المدينة تحمل مئات الألوف في كل آن ، لتحملنا من " بيرنت أوك " شمال غرب لندن حيث نقيم في حي نظيف مرتب يصله ببقية المدينة خط القطار الأسود المتشابك مع اثني عشر خطاً كأنها الأوردة والشرايين المتشعبة الممتدة في الجسم ، فترفد المدينة بنسغ الحياة .
كنا نزور المركز الإسلامي في وسط لندن الغربي ، حيث يعمل صهري مشرفاً على الشؤون التعليمية فيه . .. مدير المركز سعودي . فالسعودية تصرف على المركز ، أما الأئمة فمن مصر ، وكانوا أربعة يتعاورون الإمامة والخطابة .. المسجد قائم على زاوية يلتقي فيها شارع عريض بآخر أضيق منه ، محرابه يتسع لأكثر من ألف وخمس مئة مصل ، وكذلك الدور السفلي ، وفيه مطعم ، وقد يقام فيه معارض للكتب ومحاضرات ، وتجهز فيه مئات الوجبات الطازجة لإفطارات رمضان ، أو للغداء بعد صلاة الجمعة لمن بيوتهم بعيدة ويرغبون في قضاء اليوم في المسجد . وهناك مكتبة فخمة في الطابق الثاني الشرقي فوق المسجدفيها كتب قيمة ، واماكن مريحة لمن يرتادها ، وفي زاوية منها مكتبة صوتية تحوي الخطب والمحاضرات للعشرات من علماء العالم الإسلامي باللغة العربية والإنجليزية . وأشرطة النشيد الإسلامي . وتصور أن صلاة عيد الفطر أقيمت خمس مرات ، كل ثلاثة أرباع الساعة يدخل مصلون فيمتلئ المسجد عن بكرة أبيه في الأعلى والأسفل والمكتبة فتقام الصلاة ثم يخطب الخطيب ، كل ذلك في نصف ساعة ويخرجون ليحتل مكانهم مصلون آخرون... في كل مرة أكثر من خمسة آلاف مصلٍ . والشرطة تنظم الانتقال في الشوارع المحيطة بالمسجد .
يقع إلى الشرق من المسجد حديقة واسعة " ريجنتس بارك " Regents Parkفيها بركة مرتبة كبيرة يكثر فيها البط والإوز ، مجهزة بقوارب للكبار والأطفال . أشجارها ظليلة متنوعة الأحجام والأصناف ، يرتادها الناس من كل حدب وصوب ... كنت وزوجتي وأختي وأسرتها نأتيها كثيرا بين أوقات الصلاة . وأشعر وأنا أكتب عنها بالشوق إليها ، فقد كنا نأنس إليها ونجعلها محطّ راحتنا حين نجول في لندن .
أما " Edgware Road" فقد كان يمتلئ بالعرب حتى سمي " شارع العرب " يعرض أصحابه سلعهم باللغة العربية ، وتقدم مطاعمه الوجبات الشامية والمصرية والمغربية والخليجية ،وتبقى أبواب محلاته مشرعة إلى ما بعد منتصف الليل ، الأنوار ساطعة ، والعرب يملؤون الطرقات ، و" الأركيلة " توزع على من يطلبها ، والأسعار نار تحرق أمثالي، فلا أشتري من محلاات هذا الشارع شيئا ، لكن الخليجيين والسعوديين لا يأبهون ، إنما يدفعون كما يقول المثل : مال المجانين يذهب في البلاليع .... اشترت أم حسان حقيبة نسائية في مدينة " هايستنجس " على ساحل بحر المانش بأقل من خمسة جنيهات ، ورأت واحدة مثلها في معرض إحدى المحلات في " أجواررود " كتب عليها اثنان وأربعون جنيها ، ثم شُطِب على الرقم وكـُتِب أربعة وعشرون .ورأت الخليجيات يتهامسن عليها ويتجهن لشرائها ، فأخبرتهن بالثمن الحقيقي لها ، فأبين التصديق ، واشترين جميعا بالسعر المعروض " sale " أو " أوكازيون " ... قلت لها: دعيهن ياامرأة ينتشين بدفع أموالهن التي لم يتعبن في جمعها كما يرغبن لمن يستحق ومن لا يستحق ، ولا تبذلي نصيحتك لمن يأباها ، أما الشقق في هذا الشارع فحدث عن أجرتها المرتفعة ولا حرج ..... فإذا انتهت أيام الصيف وعاد المصطافون إلى ديارهم عاد الشارع إلى إغلاق محلاته قبيل غروب الشمس كما هي العادة في لندن طيلة أيام السنة . ..
في بلادنا يمر بائع أسطوانات الغاز بسيارته أكثر من عشرين مرة يوميا وفي أوقات مختلفة من بزوغ الشمس إلى غروبها ، وموسيقاه التي يعلن بها عن بضاعته تهز أركان السرير ، يساعده بائع الفاكهة والخضار الذي يعلن –كذلك – عما يحمل منها بتعداد أنواعها في شريط مسجل، يسردها بشكل متسلسل وصوت يملأ الحي ... ويغسل الولد سيارة أبيه عند القيلولة فيفتح أبواب السيارة ، ويستمتع بأغنية تلعلع ، فيسمع القاصي والداني .. ويسمع أحدهم أو إحداهنّ المذياع فيرى أغنبة تعجبه، فيتصدّق على جيرانه ! إذ يفتح نافذة بيته و يضع الراديو على حافّتها ، ويرفع الصوت !!... ويقيم أحد الجيران حفلة زفاف نجله في سرادق يقطع به الطريق فيضطر جاره للف والدوران بسيارته مسافة ليصل إلى بيته عن طريق رأس الرجاء الصالح بعد أن يرى قناة السويس مغلقة ! ويرتفع صوت الغناء ليدخل في كل ثقب إلى بيتك فلا يكاد – بعد إغلاق الأبواب – أن يسمع أهل البيت حديثهم ، فالغناء والموسيقا لا تدع مجالا إلى أن ينفض السامر .... ويكون الاعتذار : ياجارنا’ ليلة وعدّتْ... سامحنا ...!! أما في لندن وغيرها من المدن الغربية فلا تجد مثل هذا التخلف ... جلست في حديقة المنزل عصر أحد الأيام، وجارنا في حديقة بيته يرقص ورفاقه على أنعام صادرة من مسجل ... المسافة بيننا لا تزيد عن عشرين مترا ، ولم أكن أسمع شيئاً ! وقبل غروب الشمس دخلوا البيت وتابعوا حفلتهم . قالت أختي حين سألتها عن السبب : القانون يعاقبهم إن استمرت حفلتهم في الحديقة بعد الغروب .... وفي أمريكا – نيو جيرسي – كان جاري السفلي يرفع صوت ال" ستيريو " فذكرت ذلك للمكتب المشرف على الشقق المؤجرة ، فأرسل على التوّ إليه رسالة تنبيه .... ونسيت الأمر ، فإذا الجار المسكين في آخر الشهر يرحل عن شقته . ... سألت المشرف عن سبب رحيله فقال : تابعته أكثر من مرة في خفض صوت المسجل فلم يستجب فطلبت إليه أن يرحل . وخجلت من نفسي إذ كنت سبب رحيله ، ولم أكن أقصد ذلك .
كان " شارع أوكسفورد " Oxford Streetمن أكثر الشوارع ازدحاماً ، على الرغم أنه عريض ذو اتجاهين ، في كل اتجاه تسير حافلتان معاً ، أما الرصيفان المتقابلان فقد يصل عرض أحدهما إلى ثمانية أمتار أو أكثر ، لكنهما ممتلئان في كل أوقات النهار . وعلى الجانبين الأبنية عالية أحيانا ، وأحيانا لا يتجاوز ارتفاعها عشرة الأمتار . محلات تجارية ضخمة ، وأسواق كبيرة ، ومصوغات وحليّ ومحلات يتوه الداخل إليها ، ويحارالمرء أي شيئ يشتريه – طبعا لم نكن من الحائرين - .. وعلى مقربة من هذا الشارع الكبير الفخم شارع آخر مواز له تقريبا رأينا السائحين يتقاطرون إلى بناء على زاوية منه ، دنونا منه فإذا هو " متحف الشمع " الشهير . دخلناه مع الناس ، فإذا تماثيل تكاد تكون ناطقة لزعماء العالم في العصر الحديث ، فهذا ريجان رئيس الولايات الأمريكية السابق ،هذه أليزابت ملكة الإنجليز وهذه تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الحديدية ، وهذا ديغول رئيس فرنسا الراحل ، وهنا هتلر وموسوليني وهناك ستالين ولينين وخروشوف..... وفي زاوية الرئيس صدام حسين والأسد – على ما أظن - والملك حسين ، والملك الحسن ، والمصروع القذافي ، وتمثال لأحمد زكي اليماني وزير البترول الأسبق السعودي ... بأحجامهم الحقيقية ، وتقاطيع وجوههم الواضحة ... تقف أمامهم ينظرون إليك وتنظر إليهم، فتكاد تكلمهم ويكلمونك ،.وتشتم بعضهم أو كلهم ويشتمونك ،وغيرك يلتقط صورة لنفسه وصاحبه مع أحدهم فيوهم الآخرين أنه التقى بهم وزارهم في عقر دارهم . وتقول نعم والله إنهم دمى من شموع ليس أكثر ، صنعوا ليكونوا ال"كراكوز" الذي يحكم به الغرب بلادنا ، ويسلب خيراتنا ويمتص دماءنا .
ونمر عائدين إلى البيت أمام قصر بكنجهام Buckingham Palace، حيث تطل الملكة وزوجها وأمراء القصر الفينة بعد الأخرى على الجموع المحتشدة لرؤيتهم وإلقاء التحية عليهم من قريب. فيضج الزائرون بالهتاف لهم ، وليس هناك سوى حفنة من الحراس يلبسون الثياب العسكرية المزركشة ، فيضيفون على المنظر فولوكلورا قديما يلوّن الجو ، ويجمّل الأداء . .. ولن يجرؤ حاكم عربي أن يطل على رعيته آمنا مطمئنا ، ولئن أطل فمن وراء حجب كثيفة محاطا بالأسلحة الكثيفة من دبابات ومصفحات ، وسيارات مؤللة ، وحرس بعدد حصا الأرض . .. رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ يتوسد درّته تحت ظل شجرة فيقول له رسول كسرى حين رآه فعرفه : عدلتَ فأمنتَ فنمتَ فهنيئا لك ياعمر ... وأخذها الشاعر حافظ إبراهيم رحمه الله تعالى فقال :
وراعَ صاحبَ كسرى أن رأى عمرا بين الرعيـة عـطلاً وهـو راعيهـا
وعهدُه بملـوك الفـرس أن لـهـا سـورا من الجنـد والأحراس يحميهـا
رآه مستغرقـاً فـي نـومـه فـرأى فـيه الجـلالـة في أسـمى معـانيهـا
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشـتملاً ببـردة كـاد طـولُ العهـد يُبليـهـا
فقـال قـولـة حـقٍّ أصبحت مثـلا وأصـبح الجـيل بعـد الجيل يرويهـا
أمنتَ لـمّا أقـمتَ العــدل بينهـمُ فنمت فيهـم قريـر العيـن هـانيهـا
ونسمع بميدان الطرف الأغر Trafalgar Square” " واسمه مأخوذ من معركة الطرف الأغر البحرية التي انتصر فيها الأسطول الإنجليزي بقيادة نيلسون على الأسطول الفرنسي قرب الإسكندرية على ساحل الطرف الأغرعام 1805 للميلاد , فنزوره لنرى الميدان ساحة كبيرة تتوسطها برك ذات نسق جميل وتصاوير رائعة ... هناك يجتمع اللندنيون يحتفلون برأس السنة أو الأعياد الوطنية والدينية ، ويقصدها العشاق والمحبون .فنجلس على حافة إحدى البرك ينتثر فوقنا رذاذ النوافير المنعش ، ثم ننتحي جانبا على أحد المقاعد إلى أن يحين وقت الغروب فنستقل القطار تحت الأرض إلى المسجد الكبير فنرى الشيخ عبد الفتاح أبا غدة رحمه الله تعالى ، والأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي أطال الله عمره قادمين لحضور حفل تكريم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله الذي فاز بجائزة سلطان بروناري لعام أربعة وتسعين لأفضل من خدم الحديث الشريف دراسة وبحثاً وتأليفاً ..... نسلم عليهما فيردان السلام على المصلين بوجه باسم ونفس راضية .
ونتمشى على ضفة نهر التايمز العريض فنقطع الجسور الواصلة بين طرفيه ، وهي ذات أحجام متبتينة وبناء مختلف ، لنقف أمام ساعة " بيج بن " الشهيرة المطلة على مبنى البرلمان البريطاني القديم الذي ينتصب أمامه تمثال الملك ريتشارد قلب الأسد ، الذي كانت له مع صلاح الدين الايوبي مواقف اعترف فيها بسموأخلاق الملك المسلم، محرر القدس وطارد الصليبيين .
لقد قالوا قديما : ليس من راى كمن سمع . فكثيرا ما كنا ندخل حديقة " هايد بارك " الشهيرة ، الممتدة على أرض خضراء فيها أنواع الأشجار المعمّرة ، يخترقها النهر ، وتنتشر قيها الملاعب ،فتسمع في زاويتها الشهيرة بعض الخطباء السياسيين ينتقدون بعض التصرفات السياسية في البلاد ، ويجتمع حولهم المهتمون والسامعون من العابرين غير القاصدين ، وما من مخابرات تعتقلهم ولا رجال أمن يضربونهم ويسبونهم ، ولا شرطة تقتادهم إلى فنادق الدرجة العاشرة تحت الصفر !! أقصد تحت الأرض السابعة أو العاشرة ! .. ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أن جهاز الأمن في بلاد الغرب يحتاج إلى دورات كثيرة متشعبة على أيدي رجال أمننا الأشاوس في البلاد العربية كي يكونوا قادرين على حفظ الأمن والأمان !!!؟
يراهن الغرب على أولادنا ، فقد أفاد أحد رجال الدين النصارى حين سئل عن سبب قبول لجوء عشرات الآلاف من الإسلاميين إلى أوروبا : هؤلاء الذين جاءوا إلينا فراراً بدينهم وحياتهم من البلاد الإسلامية نقبلهم لا حبا بهم ، فهم أصحاب فكر وعقيدة ، لا يمكن أن يتخلوا عنها ، لكن أولادهم سيكونون لنا . .... وسننصرهم عاجلاً أو آجلاً! ، وإن لم يصبحوا منا في الجيل الثاني فلا بد أن يكونوا كما نريد في الجيل الثالث . وهذا خطير جداً إن لم نتدارك الأمر ، فنربي أبناءنا على الدين نتابعهم في تطبيقه. ... كل الجاليات تتكلم في بيوتها لغتها وتعتز بذلك . فما بال العرب والمسلمين يتخلون عن لغتهم حين تطأ أقدامهم بلاد الغرب ؟! ألأن الانهزام غزا القلوب والعقول فانهارت الخطوط الدفاعية الهشّة من أول لقاء مع الحضارة المادية؟ أم لأن إحساسنا بديننا ضعف – وهو الحصن الحصين للغتنا – فلم يتحمل جولة واحدة ، فتخلينا عن كل ما يمت إلى أصلنا، ديناً ولغة وماضياً ؟ إن الأمر أخطر مما نتصور ، وقد رأيت في هذه الغربة أعداداً ممن انصهروا سريعا في المجتمعات الجديدة ، وتنكروا لكل ما يمت بصلة إلى الماضي . ووجدت كثيرا ممن ازدادت صلتهم بدينهم ولغتهم وحضارتهم ، فترى الأبوين في البيت لا يكلمان اولادهما إلا العربية ، ويعقدان لهم حلقات شبه يومية في قراءة القرآن وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ودراسة الحديث الشريف ، ، ويرسلونهم إلى البلاد العربية ليصلوهم ببلدهم وعاداتهم وتقاليدهم . ... ومنهم من لا يستطيع ذلك فيعتمدون على القادرين من إخوانهم وأصدقائهم في تحقيق ذلك الهدف العزيز ، وعلى المراكز الإسلامية في ديار الغربة . وقد وجدت في زياراتي المتكررة إلى أوربا وأمريكا من أبناء إخواننا ما يثلج الصدر ويفرح الفؤاد . ورأيت كذلك ما يدمي القلوب ويمزق الشرايين ويحرق الأعصاب .... والويل كل الويل لمن هرب بدينه من الأنظمة العربية الجائرة ليسلم نفسه وفلذات كبده للكفر والردة ، فيضيّع دنياه ويخسر آخرته.