رحلة إلى الجزائر (2)
رحلة إلى الجزائر (2)
د. عثمان قدري مكانسي
إلى سكيكدة
تحتل بجاية شاطئاً جميلاً جنوب البحر الأبيض المتوسط يكاد يكون أجمل الشواطئ في شرق الجزائر، ويعتبر الطريق المؤدي منها إلى مدينة "جيجل" على بعد تسعين كيلو متر رائعاً ففيه ميزات عديدة من أهمها:
أن هناك أربعة أنهر قصيرة جبلية غزيرة تقطعه فتصب في البحر، ماؤها شديد العذوبة، تشكل في مصبها بركاً طبيعية للسباحة كثيراً ما انغمسنا فيها.. والطريق نفسه يرتفع طوراً ليدخل نفقاً أو يعلو جسراً وينزل طوراً ليلامس البحر أو يبتعد عنه قليلاً، فترى أعاجيب من الرمل الناعم يفصل بينهما، يتلوّن من أبيض إلى أصفر إلى رمادي إلى بني، فتكمل الصورة الطبيعية الخلاّقة المحصورة بين زرقة البحر واخضرار الجبل، وترى في منتصف الطريق مغارة للصواعد والنوازل فتذكرك بمغارة "جعيتا" اللبنانية إلا أنها صغيرة الحجم..
ولأننا كنا زوجين شابين في بداية الثلاثين يعجبنا أن نتغدّى بعد الانصراف من العمل على هذا الشاطئ الجميل أو على الخليج نفسه قرب مدينة "وقّاص" الجميلة بغاباتها الممتدة على الشاطئ النظيف، أو نبعد قليلاً إلى "سوق الاثنين" حيث النهر الغزير والغابات الطبيعية لم تمتد إليها يد الإنسان أو فوق المدينة على البحر من الشمال في "زقواط" المشرفة من عل على ما حولها فنرى المياه اللازورديّة تمتد أكثر من عشرين ميلاً في عرض البحر، والسفن تجوبه جيئة وذهاباً والهواء العليل يلمس بلطف وشفافية جسدك الدافئ تحت الأشعة الهادئة فتحسب أنك في جنان الخلد.. وكنا كثيراً ما نرِد "زقواط" ففيها نبعٌ لذيذ طعمه نملأ منه الأواني فنشربه أو نستعمله في صنع الشاي فيبدو عقيقاً.
والعجيب أن الجزائريين ما كانوا ليهتموا بالساحل فلا ترى مقهى أو مطعماً أو استراحات منظمة كما تجد في الشاطئ السوري والمصري مثلاً، إلا أن هذا كان يريحنا فلا تجد عُرياً منظماً، ولا فساداً مهيأ، إنما هو ساحل جميل بعيد عن يد الإنسان التي إن اهتمت به جعلته آية من آيات الجمال –من ناحية- ومفسدة من مفاسد الخنا والفجور، من ناحية أخرى.
وأهل الجزائر مضيافون يحبون الغرباء ويتقربون إليهم، خرجنا إلى "سكيكدة" وهي مدينة بين "جيجل" و"عنابة" شرق الجزائر في عطلة متوسطة، ولعلها كانت تبعد عن بجاية أكثر من مئتي كيلو متر فوصلناها بعد العشاء فإذا هي بلدة حديثة صغيرة نسبياً أبنيتها متوسطة الارتفاع، سكانها قليلون، والحركة فيها هادئة، تجولنا فيها ساعة فلم نجد فيها ما يشد الانتباه سوى معرض سوق زراعي بدائي يعرض فيه الناس منتوجاتهم الزراعية والحيوانية يذكرني بمعرض سوق الإنتاج الزراعي والصناعي في حلب ربيع كل سنة إلا أن معرض حلب كان فخماً وكبيراً، وهذا بديهي، فحلب قديمة ضخمة..
وكالعادة كانت الشوارع هادئة فالمحلات في التاسعة مساء مقفلة، والمطاعم مغلقة، وكنا نعرف هذا الأمر فحسبنا حسابه حيث حملنا معنا أنواع الطعام المناسب للسفر، ولم نرغب في العودة إلى بجاية لأننا نريد الاستمرار إلى الشرق إلى عنابة، فطرقنا كل الفنادق في البلدة والجواب: نحن آسفون لا مكان لدينا، فلما أعيانا السؤال ولم نجد بداً من النوم في السيارة أو العودة إلى بجاية رآنا أحد الشباب متحيرين فدنا منّا بأدب وقال:
- لعلكم لم تجدوا مأوى في فندق؟
قلنا: صدقت..
قال: أعرض عليكم قضاء هذه الليلة في ضيافتي.
سألناه: وهل هذا الأمر ميسور؟
قال: الحقيقة أنها دار أختي وهي قريبة، ولعلكم ترون زوجها إن عاد مبكراً من عمله فهو عادة ما يكون في الحادية عشرة كل ليلة..
خافت زوجتي وحسبت العَرْضَ –وإن كان مغرياً- مكيدة عقباها سيئة، قلت:
لا بأس أن نجرّب، فإن رأينا الأمان أتممنا الليلة، وإن ارتبنا انصرفنا.
وهكذا كان..
كان البيت قريباً في بناء ذي طوابق ثلاثة يحوي ستَّ شقق، هو إحداها واستقبلتنا أخته بوجه باش يدل على أريحية، والتفّ حولنا أطفالها الأربعة الصغار، فلاعبناهم وارتاحت نفوسنا فقد كنا ثلاثة أنا وزوجتي وأمها، ولم يكن رجل البيت حاضراً، فنمنا في إحدى الغرف قبل وصوله وكانت ليلة هادئة وادعة. وعند الصباح بعد صلاة الفجر عزمنا على المغادرة شاكرين أهل البيت حسن ضيافتهم، فظهر الرجل بوجهه الباسم وأخلاقه الرفيعة، يدعونا إلى البقاء أياماً في ضيافتهم، اعتذرنا، وقدّم لنا القهوة والشاي مع الكعك وأنواع الكاتوه فأجبناه.. وكان حديث يدل على أصالة القوم ولطفهم وحسن معشرهم.
وانطلقنا إلى "عنابة" فوصلناها الضحى الباكر وطوّفنا في شوارع المدينة، وتعرفنا على معالمها فإذا هي كبيرة واسعة الأرجاء، حركة المناهج فيها (المنهاج أو المنهج يطلق على الشوارع) بطيئة لكثرة السيارات وازدحام الناس، فهي العاصمة الشرقية الساحلية للجزائر، إن صحّ التعبير، وهم يعتبرون مدينة "قسنطينة" في الداخل العاصمة الشرقية كما أن وهران العاصمة الغربية. وفجأة رأينا بعض المدرسين من بجاية منطلقين فاستبشرنا برؤيتهم، وتبعناهم دون أن يرونا، وكنا نظنهم يقصدون بعض المتنزهات فقلنا نشاركهم هذا اليوم نزهتهم، فإذا بهم يقفون أمام القنصلية التونسية، فلما سلمنا عليهم سألناهم عن قصدهم فقالوا إنهم يريدون قضاء بعض الأيام في تونس، فهل تشاركنا؟
قلت: هذا لطف منكم.
قالوا: إن القنصلية التونسية تعطي التأشيرة في اليوم نفسه.
وكانت جوازات السفر معنا، فقدمنا الطلب فيمن قدّم. وعند الظهر حصل الجميع على تأشيرة الدخول إلى الأراضي التونسية إلا عثمان وزوجته وحماه!! أتدرون لماذا؟ كان سبب المنع أنني في الصورة ملتح وزوجتي وأمها محجبتان، فحمدت الله على نعمة الإسلام والالتزام بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل شيء يهون أمام رضا الله تعالى ولا يضيرنا عدم زيارة تونس فأرض الله كلها متشابهة والعادات واحدة.. وعدنا إلى بجاية..
باتنة وبسكرة
الجزائر حفظها الله من كل مكروه، غنيّة بكل شيء، تاريخها العريق وآثارها الشاهدة على ذلك، وأخلاق أهلها، وطيب معشرهم، وصحراؤها الممتدة الشاسعة وواحاتها المنتشرة، وسهولها المعطاء وجبالها الشامخة.
وحديثي الآن عن بعض آثارها، فقد ذهبت وزوجتي بسيارتنا مع أخ دمشقي –وهو جارنا في السكن وزميلي في مدرسة الحمادية في بجاية- عبد الرزاق البريدي أبي وسيم وزوجته وولديه بسيارته إلى مدينة "سطيف" الجبلية، وكان الطريق إليها يمر عبر جبال شاهقة تتشقق عن مياه عذبة تسيل في وديان بعضها سحيق وآخر قريب، لا تستطيع السيارة أن تسرع فيها لالتواء الطريق وتعرجه الشديد.. وكان المنظر إغريقياً ساحراً فنحن بين الغيوم، والشمس تطل علينا بحياء شديد، ومع ذلك فقد كان الجو لطيفاً، وكنا نرى على جانبي الطريق سكان الوادي من القرود الراغبة في عطاء المارّة تقفز وتلعب كباراً وصغاراً وتصدر حركات بهلوانية وأصواتاً متتابعة موسيقية لتجذب انتباه الناس.
وقفنا على حافة مسوّرة فتدفقت جموع القرود تنظر إلينا نظرات الاستجداء فألقينا إليها الخبز فتخاطفته، ورمينا إليها قطع الحلوى فسارعت إليها. أما الموز الذي وزّعناه فكان الأقرب إلى نفوسها، فلما قدّمنا إليها الخبز مرة أخرى أخذته على استعلاء، لابد مما ليس منه بدّ، فلما أعطيناها الحلوى رمت بالخبز جانباً وأقبلت على الحلوى بنهم، فلما قضت عليه ورأتنا ركبنا السيارة عادت أدراجها تتصارع على الخبز الذي زهدت فيه حين رأت ما هو أفضل منه. وهكذا المخلوق بكل أنواعه وأجناسه، يسعى للعُلا ما استطاع فإذا كلَّ عنه رضي بما حازه وقال: رضيت به، وهو لم يرض به إلا مغلوباً على أمره.
كان غالب أهل "سطيف" -وهي على بعد تسعين كيلو متر جنوباً- من العرب، أما أهل بجاية من الأمازيغ القبائل الصغرى. وحين الوصول إلى مشارف المدينة رأينا حافة الجبل الذي ارتقيناه في طرف منه غير منحدر بل مقصوص شاقولياً، وكانت الهاوية عميقة مخيفة ذكرتني بساحة (الواقوصة) في حَوران حيث هوى جيش الروم في معركة اليرموك في هاويتها الغربية وهو هارب أمام المسلمين فتردى فيها أكثر من تسعين ألفاً منهم فكانت وبالاً عليهم وصفعة أليمة لهم، إذ كانوا مسلسلين (مقيدين بالسلاسل) فإذا سقط أحدهم جرَّ إليه الباقين.
هذا ما حصل للمجاهدين الجزائريين، فقد أُلقي منهم خمسة وأربعون ألفاً –رحمهم الله- مقيدين في الهاوية ليلقوا الله شهداء أبراراً. هذا ما فعلته فرنسا المتحضرة بهم.
لم يكن المسلمون يفعلون ذلك بأسراهم بل كانوا يكرمونهم، وإذا قارنت بين جبال سطيف وهوّة الواقوصة رأيت:
1 – أن الروم في الواقوصة قيّدوا جنودهم كيلا يهربوا أمام المسلمين، وكان الهروب سبباً في مقتلتهم العظيمة، لم يفعل المسلمون بهم ذلك وقد فعلوه بأنفسهم.
2 – أن المجاهدين في سطيف يوضعون في شاحنات مقيدين ليُلقى بهم وهم عُزّل في الهاوية العميقة لا في ساحة المعركة والحرب، وشتّان شتّان بين هذا وذاك.
بعد ذلك تعرّفنا على معالم المدينة، وكانت عادية ليس فيها ما يجذب سوى مكان أثري يبعد عنها قليلاً.. انطلقنا إليه فلما وصلنا شدهتنا روعته، فقد كانت مدينة رومانية أثرية تدعى "جميلة" وهي جميلة فعلاً ما تزال أكثر أعمدتها قائمة، ومعالم أبنيتها واضحة، أما شوارعها فقد كانت مرصوفة أكثرها، وكانت ممتدة تدل على أنها كانت مدينة كبيرة عصرية قائمة على سفح يشرف على ما حوله ذات هواء نظيف وهدوء محبب ولا أبالغ إن قلت إن مساحة ما رأيت أضعاف مدينة جرش الأثرية الأردنية، ومع ذلك فأهلها زاهدون –كما ذكرت في مقالة سابقة- في إقامة الحفلات والمهرجانات السنوية على أنقاض القدماء، فحمدت الله أن الخير ما زال ثابتاً هنا، وعزوت ذلك أيضاً إلى جدّية الإخوة في الجزائر وبعدهم عن السفاسف والمظاهر المائعة.
وزرنا بعد أشهر مدينة "باتنة" على مشارف الصحراء الجزائرية وإن لم تكن صحراوية تماماً فوجدت أهلها أكثر هدوءاً وحياتهم أقرب إلى الرتابة وشمائلهم متعددة ترتاح النفس لهم، وهم من البربر المتعربين، وقيل لي إنهم في باتنة وما حولها أكثر من أربعة ملايين أكثرهم لا يعرف إلا العربية على غير ما عليه أهل الساحل منهم.
تمتاز باتنة ومدن الجزائر بأسواقها العامة التي تشرف عليها الدولة –وحديثي عن فترة السبعين والثمانين من القرن العشرين- ويسمونها "الجالوري" ولعلها كلمة فرنسية معناها "السوق العامة" وقد أمّنت الدولة في ذلك الوقت عن طريق هذه الأسواق أغلب متطلبات الجزائريين من مأكل ومشرب وملبس وأدوات منزلية وكهربائية.
"باتنة" أو قل "فاتنة" بين قسنطينة المدينة الشرقية العريقة، و"بسكرة" وهي المدينة الصحراوية الدافئة، جوّها وسط بين أجواء هاتين المدينتين، وفيها كثير من الشرقيين تعرّفنا عليهم.
وقريب من باتنة زرنا مدينة رومانية أثرية، لا أكون مبالغاً إذا قلت أنها تمتد على مساحة هي ضعف مساحة جميلة، إنها "تمقاد".. راعني فيها شوارعها الطويلة المرصوفة جيداً وثبات بعض أبنيتها التي كانت تحتاج إلى بعض الترميم لتكون مناسبة للسكن، فيها الكنيسة ومقرّ الحاكم، والمسرح الروماني والحمامات، والمذبح، والعمدان المتلاصقة، ولا أظن أن هناك إدارة تشرف على المكان، وقد استقصيت فتأكد لي ذلك.. كانت مدينة رائعة ما أزال أحن إليها وقد مضى على زيارتي لها زهاء ربع قرن!..
ومن باتنة انطلقنا إلى بسكرة، إلى جنوب الوسط.. ولعلها تبعد عن الجزائر العاصمة سبع مئة إلى ثمان مئة كيلو متر وهي فم الصحراء تمتاز بأمور عدة منها:
1 – الحمامات المعدنية التي يؤمها الناس من كل مكان، فيها أماكن للرجال وأخرى للنساء، ولعلها تساوي في الجمال الحمامات المعدنية الأردنية والحمامات المعدنية السورية. أما الحمامات المعدنية التركية فأكثر رقيّاً..
2 – حينما تصل إليها قادماً من باتنة تمر على جسر عالٍ فوق واد سحيق على حافة هذا الوادي بيوت قديمة محفورة على جدرانه بأعداد كثيرة وكأنها كانت المدينة القديمة التي قامت على أنقاضها بسكرة. يصعب الوصول إليها ذكرتني بالبيوت المحفورة في وادي بردى قرب دمشق، ومدينة البتراء في الأردن، إلا أن هذه الأخيرة أكثر عراقة وأعظم تصميماً..
3 – ثمرها طيّب المذاق وشهرته تملأ الآفاق لاسيّما تمر بلدة "طولقة" فهي واحة تبعد حوالي عشرين كيلو متر غرب بسكرة، تمتاز بمائها العذب الغزير، وبساتين النخيل ما إن تدخل محرابها، حتى تطرد عنك الحرّ وتستقبلك بالندى والهواء العليل.
كانت المساجد تمتلئ بالمصلين في كل مدينة زرتها، لم يستطع الفرنسيون ولا الاشتراكيون بعد الثورة أن يبعدوا الناس عن دينهم، فالفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في قلوب الجزائريين أثبت من أن يعدو عليها الزمن أو يغلبها غالب أو يستأصلها نظام مهما كان جباراً، فإذا ما أذّن للصلاة تجد الجموع تتجه إلى المساجد لتلقى الله تعالى وتسأله المغفرة والرحمة، ولقد وجدت في العاصمة المساجد الضخمة التي تتسع للآلاف نصلي فيها الفجر على دفعتين لكثرة الناس، فماذا تقول في الصلوات الأخرى!! وهذا ينطبق على الجزائر كلها.. إنه دين الله ولا غالب إلا الله.
(كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز).
حي القصبة
نحن الآن في أول تموز "يوليو" من عام تسعة وسبعين وتسع مئة وألف للميلاد.. وقد بدأت العطلة الصيفية..
قررنا تمضية جزء من الإجازة في فرنسا فحجزنا مكاناً على إحدى البواخر ذهاباً وعودة من العاصمة الجزائرية إلى مرسيليا، ومن هذه عودة إلى الجزائر، وكانت حماتي عندنا فثبتنا سفرها قبل يوم من سفرنا وقررنا أن نبيت ليلة في العاصمة نرتاح فيها ونزور بعض معالمها ولم نكن نعرف فيها أحداً.
ركبنا السيارة إلى المطار يوم سفرها وهناك ودّعناها وتركنا سيارتنا في مرآب المطار وتوجهنا بالحافلة إلى العاصمة، كان الوقت ضحى حين وصلنا إلى أول فندق وطلبنا غرفة فكان الجواب "ما كانش" وتكررت هذه الكلمة في أكثر من ثلاثين فندقاً، وكنا نتعجب، فما نزال في أول النهار، والفنادق كلها ملأى! لم نهتد للسبب الذي مَنَعنا أن نجد غرفة في أحدها على اختلاف مستوياتها، وانطلقنا مشياً هنا وهناك واقتربنا من الساعة الثانية بعد الظهر، ولم يحالفنا الحظ إلا بالكلمة التي سئمنا سماعها وكرهناها "ما كانش" ووصلنا إلى حي القصبة.
قلت لزوجتي: ما رأيك أن نتغدّى ونعود أدراجنا إلى المطار لنأخذ سيارتنا أو تأخذنا هي إلى بجاية، ونعود في اليوم التالي فنستقل الباخرة إلى فرنسا؟
قالت: وهل هناك حل آخر..
قلت: لا.. إلا أنني سأسأل هذا الفندق، ولن يكون الجواب خيراً مما سمعناه، ولابد من السؤال لأقطع دابر كل شك..
وكان الجواب كما توقعت، وخرجت منزعجاً، فهناك شيء لا أعرفه يمنعني من الحصول على غرفة.. وقف أمامي كهل في الثانية والخمسين من عمره يقول بلطف:
- السلام عليكم..
نظرت إليه بين الابتسام المتصنّع والغضب مما أنا فيها، ورددت السلام بمثله.
قال: سلمتُ عليك قبل دخولك الفندق فلما لم تجب تعمّدت أن أعيده عليك حين تعود.
قلت: بارك الله فيك، أنا في العاصمة منذ ثلاث ساعات أدخل فندقاً وأخرج من غيره فلم أحظ بغرفة أمضي فيها هذا اليوم فأنا مسافر غداً إن شاء الله تعالى إلى فرنسا..
قال: ييسر الله تعالى لك ما تريد.. من أين أنت؟
قلت: من مدينة حلب في سورية، ونعمل مدرسين في بجاية.
قال: حياكم الله أهل بلاد الشام، ألا تزورانا فتتغديا عندنا وتستريحا ثم تعودا للبحث عن غرفة أو تنزلا علينا ضيفين عزيزين هذه الليلة؟
نظرت إليه أتفحصه قبل أن أجيبه فقد كان يلبس "دشداشة" مغربية ويعتمر "طاقية" لحيته خفيفة بطبيعتها، معتدل القامة، ثاقب النظر، صغير العينين، باسم الوجه، وضّاءه.. فدخل قلبي وقلت له:
- نشكر فضلك ولكن لي شرط واحد..
قال: ما هو؟..
قلت: ديننا يمنع اختلاط الرجال بالنساء.
قال: وهل تراني غير مسلم؟ إنني لم أدعكما إلا لثياب زوجتك المحتشم وحجابها الرائع، وللحيتك الواشية بأفكارك..
قلت: جزاك الله خيراً، فأنت ذو فراسة يا سيدي الكريم..
كان خارجاً للتو من مسجد كتشاوة بعد أداء صلاة الظهر عائداً إلى بيته حين رآنا فاتجه نحونا، فلم نكن نرى في الجزائر من أقصاها إلى أقصاها امرأة تلبس جلباباً أسود عريضاً يخفي تضاريس المرأة ويحميها من الأعين الجائعة، ولا حجاباً يخفي وجهها ورأسها إلا عينيها سوى زوجتي ثبتها الله تعالى على الإيمان والاحتشام، وقد كنت حدثتكم عن شيء يسمى الحجاب التقليدي في المقالة الأولى..
أما اللحية فهي في الجزائر في أواخر السبعينيات تكاد تنعدم إلا من شيخ عجوز أو أوربي سائح، فأن ترى شاباً ملتحياً تمشي إلى جانبه زوجته المتحجبة فهذا نادر الوقوع.
لن أحدثكم عن حي القصبة في العاصمة فهو عنوان الجهاد والتضحية أيام الاستعمار الفرنسي..
ولن أحدثكم كذلك عن "مسجد كتشاوة" فهو رمز الإيمان والإسلام في الجزائر كلها، فقد حوّله الفرنسيون كنيسة ثم أعاده المسلمون مسجداً.. حفظ الله بلادنا ومساجدنا من رجس أعداء الإسلام وحقدهم وفسادهم..
سرنا في زقاق ضيق مرصوف بالأحجار أبوابه وعلياته المشرفة تشبه كثيراً حي "الفرافرة" في حلب.. فقلت في نفسي: ها أنت قريب من دار أهلك يا عثمان..
وفعلاً دخلنا بيت مضيفنا فكان أشبه بدار أهلي إلا أنه أصغر، فالباب الخارجي أسود تزينه المسامير الصفر الكبيرة و"السقاطة" التي يُطرق بها الباب رأس حيوان، يفتح على دهليز صغير عن يساره مطبخ وعن يساره باب "القبو" تنزل إليه ثلاث درجات..
بعد الدهليز المسقوف ترى نفسك في باحة المنزل وهي صغيرة في وسطها فسقية "بركة ماء" أضلاعها لا تتجاوز المتر أما الليوان الذي جلسنا فيه فبابه قريب من الدهليز وقد أخذ طرف الباحة الأيسر.. وهناك غرف أرضية ثلاث وغرفتان فوق تصعد على درج جانبي عن يمين الدهليز.. إنها دار قريبة الشبه بدارنا.. ولعل أصحابها قريبو الشبه بنا، فنحن مسلمون نتكلم لغة واحدة.. مشاعرنا واحدة وقلوبنا متصل بعضها ببعض إن شاء الله.
صعدت زوجتي إلى "المربّع" وهي غرفة فوق القبو تصعد إليها ثلاث درجات واستقبلتها زوجة الرجل استقبالاً حسناً..
أما مضيفي فسألته عن نفسه فأخبرني أنه الدكتور "بلحاج شريفي" أستاذ للغة العربية في جامعة الجزائر، وعضو المجلس الأعلى الإسلامي للجزائر، ورئيس هذا المجلس الشيخ "محمد الحماني" رحمه الله.. ورحم صاحبنا فنحن الآن في أوائل العام (2004) بعد لقائنا هذا بخمس وعشرين سنة، أما السيد "بلحاج شريفي" فقد كان في الثانية والخمسين فهو إن كان حياً الآن ولا أدري، فعمره سبعة وسبعون عاماً.
كان لهذا الأستاذ ولد شاب في العشرين من عمره حين التقيته أول مرة عام ثمانين واسمه عليّ، وحين ظهرت جبهة الإنقاذ عام اثنين وتسعين وتسع مئة وألف كان "علي بلحاج: هذا في الثانية والثلاثين من عمره، وكان نائب رئيس جبهة الإنقاذ "عباس مدني" فهل هو يا ترى ابن الدكتور "شريفي" أم أن الأسماء متشابهة؟.. إني لأظنه هو، فقد كان بين أصحابه لولباً ونشيطاً وكانوا -وهم أتراب- يظهرون له الطاعة والودّ، وقد أهديته شريطين للمنشد الإسلامي الحلبي أبي دجانة، فأظهر اهتمامه بالنشيد الإسلامي وسألني المزيد..
كان الدكتور "شريفي" كريماً ودوداً يعاملني بأدب جم وهو الرجل العالم ويكبرني بأكثر من عشرين سنة، فتذكرت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلطف لأصحابه حتى كان أحدهم يظن أنه الأثير لديه صلى الله عليه وسلم.
قدّم الطعام على عادة أهل المغرب، وهذه كانت أول مرة أدخل فيها داراً في وليمة، الشوربة الحارة أولاً، مع السلطة.. وترفع بعدها ليقدّم نوع آخر من الشوربة فيها قطع من اللحم، مع بطاطا مقلية أو مطبوخة وأكلتها بالخبز وشبعت وحمدت الله تعالى فرفعها ثم دفع إلى مائدة الطعام الأرز والأرضي شوكي المطبوخ مع قطع اللحم الوافرة، ولكنني اعتذرت أنني شبعت، فرأيت في وجهه الامتعاض والألم وقال:
- ألا يعجبكم طعامنا؟
- قلت: بل يعجبنا ولكم الشكر على هذه الحفاوة.
قال: فلمَ تأخرت عنه؟
قلت: قد شبعت من النوعين السابقين.
قال: هذا هو الطعام الرئيس..
قلت: فلمَ قدمته بعدهما؟ أليس أحرى بكم أن تقدّموه مع ما سبق؟!
قال: هذه عادتنا ألا تعرفها؟
قلت: لا والله بل عادتنا في المشرق أن يوضع الطعام بأنواعه على المائدة ويأكل من يشاء ما يشاء..
ضحك الرجل وقال:
- معك الحق كله والله، فنحن هكذا عادتنا ولقد زرت بلاد الشام والحجاز ومصر، والتقيت كثيراً من العلماء والوجهاء وقدّم الطعام على عادتكم، وقد نسيت أن ضيفي شامي، أفلا أرضيتني وجبرت خاطري فأكلت لقيمات؟
قلت: سمعاً وطاعة.
وشاركته طعامه ونحن نبتسم ويداعب أحدنا الآخر..
ودّعناهم بعد العصر وأخذنا السيارة إلى بجاية، فوصلناها عشاءً وحين دخلنا البيت طرق أحد الجيران الباب متعجباً من عودتنا وكان دمشقياً مهذباً فأخبرته بقصة الفنادق وأسطوانة "ما كانش" التي صكّت أسماعنا فضحك وقال:
كان عليّ أن أنبهك إلى ذلك فقد اكتويت بهذه النار حتى عرفت السبب.
قلت: وما هو رحمك الله.
قال: يعيش الجزائريون حالة تأزّم سببه أن "بومدين" حين انقلب على "ابن بيلا" جاءت الطائرات من بلد عربي كان سنداً وعوناً "لابن بيلا" وقصفت بغزارة مرافق حيوية كثيرة في البلاد، فأعقبت تدميراً وأمعنت قتلاً فيهم، فهم يكرهونهم ولا يمدون لهم العون.
قلت: وما ذنب المثقفين والعلماء والأدباء من أبناء ذلك البلد العربي فيما اقترفته أيدي المسؤولين الآثمين؟
قال: منذ الجاهلية كانت العادة أن يتحمل المجتمع جريرة المجرمين فيه ولم يستوعب قول الله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
قلت: ولكن الكثير ليسوا من ذاك البلد الذي أساء مسؤولوه إلى الجزائريين؟
قال: لا يستطيع غالب الجزائريين التفريق بين سوري ومصري وعراقي وفلسطيني.. فلهجاتنا عندهم متشابهة.
قلت: وما العمل؟ كيف نتفادى في قابل الأيام، ونحن كثيرو السفر، ما لاقيناه هذا اليوم؟
قال: قدّم لمن يستقبلك في الفندق جواز سفرك فقط ولا تكلمه فسوف يسألك ما نوع الغرفة التي تريد؟. ونحن السوريين نلقى لديهم الحب والاحترام..
لم يخطر ببالي أن أصدقه أو أكذبه، لكن الأيام التي تلت أثبتت أنه مجرّب، فلقد كنا نلقى القبول ونجد ما نريد في الفنادق التي نطرقها..
يتبــع