يومياتي في أمريكا-33
يومياتي في أمريكا
بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم
أ.د/
جابر قميحةالحلقة ( 33 )
ذكرى ثورة الدم والظلم والهزيمة
السبت 24 من يوليو 1982
كان من المفروض أن أسجلها بالأمس ، ولكني نسيت وما أنسانيها إلا الشيطان أن أذكرها : بالأمس كان 23 من يوليو سنة 1982 . في مثل هذا اليوم من سنة 1952 ولد اليوم الأسود ... يوم الضلال الذي عانقه الناس ، وظنوا أنه يوم الخلاص ...يوم العزة يوم النصر ... يوم التقدم والازدهار .
وفتح الناس قلوبهم وعيونهم وجوارحهم لهذا اليوم المنتظر المنشود ، وهتفنا لهذا اليوم من أعماق قلوبنا ، كان عمري إذ ذاك قرابة ثمانية عشر عاما . وسمعت السادات وهو يعلن في المذياع ميلاد الثورة الميمونة (!!!!) ، وأذكر أنني كدت أطير من الفرح والسعادة ، كنت في المنزلة مسقط رأسي ذلك اليوم ، وكان الناس يتجمعون ويتحلقون حول أجهزة الراديو التى كانت قليلة أن ذاك في البلدة ، وسرنا مع الثوار ، وسايرناهم ، وباركناهم ، وأصبح للحلة الصفراء قدسية واحترام وتقدير لم تشهده مصر في تاريخها الطويل .
وأصبح الإقبال على الكلية الحربية منقطع النظير ، لأن ضابط الجيش آنذاك " المثل الأعلى " للناس بعامة ، وللشباب بخاصة .
ثم بدأت الحلل الصفراء تنفصل عن جذور الشعب ، وتحول أصحاب الحلل الصفراء إلى نار مسعورة ، تأكل الشعب ، وتمزق كيانه ، وسيطرت الديكتاتورية العسكرية على مقدرات الأمة ، وضاع كل شيء ، وتبدد كل شيء ... خسرنا كل شيء ، حتى كرامتنا ، وعروبتنا ، وتوالت علينا الهزائم ...على أيدي كلاب البشر ، وغدونا ــ كما قالت عنا الصحافة العالمية ــ " المنهزمين أبدا " .
والواقع أن اليهود لم يهزمونا شعبا أو جيشا ، بل هزم شعبنا على أيدي قادته وحكامه قبل النزال والقتال .
قلت لزميلي الضابط بعد نكسة 67 وكان مشهورا ــ وهو في المرحلة الثانوية بشجاعته ــ هل جريت ضمن الذين فروا وجروا يا فلان ؟ أجاب : طبعا . قلت كيف تولى الأعداء دبُـرَك ، وعهدي بك أنك كنت شجاعا مقداما أيام كنت طالبا معنا في المرحلة الثانوية ؟ !! قال نعم لقد تغيرت الحال بعد أن علمني " رئيسي " كيف أكون جبانا ، لذلك كانت إسرائيل تتعامل مع جيش مهزوم قبل أن يهزم... جيش مكسور قبل أن تطأ أقدامه أرض الميدان .
ودعني أسأل : ماذا لو لم تقم هذه الميمونة ؟ هل كان يمكن أن تكون الحال أسوأمما هي عليه الآن ؟ أعتقد لا ، وألف لا ، لا بالنسبة لنا ــ نحن المصريين ــ فحسب ولكن بالنسبة للأمة العربية جمعاء .
لقد قامت هذه " الميمونة " ، وكانت وباء إستشري في كل الوطن العربي ، إذ قامت على نمطه " ميمونات " أخريات في اليمن والعراق وليبيا ... الخ ثم أتت بعد ذلك النكبات تترى ، والسبب الأساسي هو " الانفجار الداخلي " ، ولا أعنى بالانفجار الداخلي " ثورة مضادة " ، ولكنى أعنى بالانفجار الداخلي أن الحاكم الذى بدأ شعبيا انفصل بالتدريج عن الشعب ليتحول إلى ديكتاتور عات ، وإن شئت فقل يتحول " إلى قوة مدمرة " في الداخل ، تدمر أبناء وطنه ، وتحطم كرامتهم ، وشجاعتهم وقيمهم ، ويصبح المواطن إنسانا طريا ، هش الكيان ، متقنعا بالجبن والخور و الفزع والاستسلام .
فلا عجب إذن أن هزمنا ، وهزمنا ، على أيدي كلاب الأرض اليهود . وللأسف كتب أنيس منصور " وزرت تل أبيب ونظرت إلى المواطنين اليهود فلم أجد شيئا غير عادي ، إنهم أناس عادييون ، لم ألمح فيهم مظاهر أو صفات خارقة ، أو لافتة للنظر ، فطرحت على نفسى سؤالا لم أجد له جوابا حتى الأن : كيف تمكن هؤلاء من هزيمتنا عدة مرات ؟ " . والسؤال هش غريب ؛لأن الجواب في منتهى البساطة : هزمونا ، وهزمونا ، وهم على استعداد ليهزمونا مرات ومرات . ونحن على استعداد ليهزمونا مرات ومرات بسبب " الانفجار الداخلي " ... بسبب " القذيفة البشرية " أو إن شئت فقل القذيفة الوحشية التى اسمها الحاكم ، هزم شعبه هزيمة نكراء . ومن هذا الشعب المهزوم خرج جيش مهزوم للقاء اليهود ، فكانت الهزيمة تلو الهزيمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأنا لا أنسى إذ كنت في مستشفى الجامعة بالجيزة ، وكان هناك بستاني يعمل في تهذيب أشجار حديقة المستشفى ورعايتها . الرجل قارب الستين من عمـره ،وبدأت أنا وبعض الزملاء نتحدث عن الثورة ، وما يرجى على يدها لمصلحة الوطن . فوجدت الدموع في عيني الرجل ، وقال : يا ولدي غدا ترى أن رجال ما يسمي بالثورة المباركة سيجلبون الخراب لمصر بل للعرب جميعا . فعارضناه ، وقلنا : لماذا هذا التشاؤم ؟ فأجاب بصوت متحشرج : لأننا كان يحكمنا ملك واحد ، ابن ملك ، من سلالة معروفة ، أما الآن فيحكمنا( 11 ملك ) لا يعرف أحد عن أصولهم شيئا ، غدا ترون مظاهر الخراب كيف تكون .
وتحققت رؤية هذا الرجل ، التي اتسمت بالشفافية والعفوية . فامتلأت السجون بعشرات الألوف من الأبرياء ، وشنق أشراف هذه الأمة من أمثال : عبد القادر عودة و إبراهيم الطيب ، وعبد الفتاح اسماعيل ، وسيد قطب ، وغيرهم دون ذنب جنوه ، وأصبح القانون في أجازة مفتوحة .
إنها ذكرى سوداء ، كظلام الليل البهيم . ندعو الله أن يخلصنا من الظلم والظالمين أعداء الحق والحرية والوطن والعروبة والقيم الإنسانية .
السبت 24 من يوليو 1982
قطرات نفس
القطة التي أكلت بنيها
كنت في الثامنة عشرة من عمري في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، حينما قامت الثورة المصرية سنة 1952على رأسها قائدها محمد نجيب الذي كان موثوقًا به على مستوى الشعب كله، ووقف الشعب وراء الثورة بشيبه وشبانه، ورجاله، ونسائه . كان الشعب يأمل في حياة مناقضة للحياة التي كان يحياها في العهود "البائدة".
كان يأمل في "كفاية" حقيقية و"عدل" مطلق بعد عصر الإقطاع الظالم، والفلاح المطحون.
كان يامل في تحرير فلسطين بعد أن سقطت تحت أقدام عصابات "الهاجاناة وشتيرن" وأرجون زفاي ليومي، ومعروف أن إسرائيل قامت على الدم والعدوان، وكان شعبنا يأمل في وحدة عربية حقيقية تقوم على أسس راسخة ، ومبادئ ناصعة تستمد ماضي الأمة المجيد، وتعالج ما تعانيه الشعوب العربية من التخلف التقني، والاجتماعي، والاقتصادي أخذًا بأحدث الوسائل وانجعها وأكثرها تقدمًا.
كان يأمل في أن يتمتع بحرية حقيقية في التفكير والتعبير ، ونظام نيابي شورى حقيقي أمين.... بريء من التزييف والتزوير.
كان يأمل في "سيادة القانون" بعيدًا عن سيادة الرئيس، والحواريين من المنافقين والنفعيين.
فما تحقق من هذه الآمال شيء .
واعتقد أن صوت "الواقع المر" الذي نعيشه من نصف قرن يعتبر أقوى جواب وأصدق بيان:
فقد أزيح "محمد نجيب"، وبعد ضربه من بعض ضباط عبد الناصر ألقي به معتقلاً في "أنشاص" لا رفيق له إلا عشرات من القطط كان يلقى إليها بفتات من بقايا طعامه، كما حوكم أبطال الثورة الحقيقيين من أمثال عبد المنعم عبد الرءوف، وأبي المكارم عبد الحي، وأصبح عبد الناصر هو الدولة والقانون، والحاكم المستبد المطلق الذي لا يقال له "لا" ولا ترد له مشيئة.
وتحولت الثورة البيضاء إلى ثورة دامية حمراء فاعدم العاملان: خميس والبقري ، ثم ظهرت براءتهما . وأعدم عبد القادر عودة، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ويوسف طلعت، ومحمود عبد اللطيف بعد افتعال "مسرحية المنشية" ، وادعاء محاولة اغتيال عبد الناصر، وأعدم سيد قطب صاحب ظلال القرآن وآخرون بتهمة تشكيل تنظيم إخواني لقلب نظام الحكم ونسف السد العالي!!
وأضاع الزعيم "الملهم" بعبقريته ما تبقى من فلسطين ، واستطاع بعبقريته أن يحصد لنا هزيمتين قاصمتين سنة 1956م، 1967م.
ونام "الثوريون" علميًا وتكنولوجيًا ، ثم أفاقوا من نومهم الطويل فإذا بإسرائيل تملك عشرات من القنابل الذرية، ومئات من الرءوس النووية ، وأصبحت في الصف الأول من الدول المصدرة للتكنولوجيا.
أما الوحدة العربية التي كانت هدفًا من أهداف الثورة فالحديث عنها يبدو مضحكًا بعد أن اكتشف العرب "منهج ثوارنا" في إحداث الانقلابات والفتن وشراء العلماء ، وانتهى الأمر إلى التطبيع والتنافر المخزي بين الحكومات العربية ، حتى أصبح بأسهم بينهم شديدًا.
وألغيت الأحزاب المصرية، ولم تعرف مصر بعدها "واقعيًا" إلا الحزب الواحد : حزب السلطة ... هيئة التحرير ، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم حزب مصر، ثم الحزب الوطني صاحب الأغلبية المزعومة، وأصبحت حياتنا ومجالسنا النيابية أضحوكة في أنظار العالم.
وغصت السجون المصرية بعشرات الالوف من الأبرياء ، ومنهم من قتل من التعذيب بلا ذنب جناه ، وضربت مصر رقمًا قياسيًا في تحمل "قانون طوارئ" على مدى عشرين عامًا خنق فيها القانون والدستور، وعطلت فيها أحكام القضاء ، وأصيب الاقتصاد المصري بانهيار شامل بعد أن أممت الدولة كل شيء، حتى أكشاك الفول والطعمية، وأصبحنا نستورد 75% مما نأكل ونلبس ، بعد أن كانت مصر تطعم وتمون جيوش العالم في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن كانت تقدم "معونات" غذائية لبعض الدول، والإمارات المجاورة ، وكذلك كانت تقدم مدرسيها وتتحمل في مرتباتهم. ونجحت "الثورة الميمونة" نجاحًا باهرًا في تفريغ الإنسان المصري من الداخل بإغراقه في بحر من المشكلات في الإسكان، والطعام، والملبس، والتعليم، ففقد الشعور بالسلام الاجتماعي، والاستقرار النفسي، وأصبح يشعر بالغربة الروحية الحادة في وطن لا مكان فيه للقانون، ولا مكان فيه إلا لمن أخذ نفسه بمنظومة النفاق، والكذب، والبراعة في السرقة، والاختلاس، و "التظريف" و "التليين" وإنا لله وإنا إليه راجعون.