بلاد الكلاب .. والخضرة
يومياتي في أمريكا
الحلقة الثانية والعشرون
في جامعة يل YALEأحاديث ومراجعات
أ.د/
جابر قميحةوأعتذر للقارئ إذ أتحدث إليه ـ في هذا المقال ـ عن ديوان "إبليسي" وزع ـ وبتعبير أدق ـ وزعه "فاعله" على نطاق واسع، هاتفًا أنه خليفة "نزار قباني" وأنه مثله يعيش في شعره بين "غابات السيقان" وأحراش "الفساتين" و جبال "النهود والحلمات"، وغير مهم أن يفقد أدبه في الحديث عن الله، وأن ينسلخ صراحة من القيم الدينية، والأخلاقية، بل من الحد الأدنى للذوق بمفهومه العام العامي الدارج.
يقول هذا "الفاعل" في إحدى "قصائده":
وماذا لو أضيّعها
كمن قد ضيَّع الله
ويقول ـ من "قصيدة" له سماها "شهر زاد"
إن كنت لا تدرين سيدتي
أني أحبك كالمجانين
وأطوف في دوامة غرقت
بخرافتين: الله والدينِ.
وإذا نظرنا إلى مفهوم المرأة عند هذا "الفاعل"، وجدناه نموذجًا للسقوط، والشذوذ، فهو يخاطب إحداهن بقوله:
.. واغرفي العُهْرَ
وها كأسي اسكبي
بُحَّ صوتُ الخمرِ في الخابي العتيق
إنّ للخمر صفاء الذهب
وارصدي الشهوة من حيث أتَتْ
أنتِ رَحمُ الخمرِ؛ فالسَّكر انجبي
وأستميح القارئ عذرًا إذ أطلب منه أن يتصور ـ بلا غثيان ـ أنثى "تغرف العهر" و "ترصد الشهوة" و "تحمل بجنين اسمه السكر" بضم السين وتسكين الكاف. إني ـ للحق ـ أراها صورة "مبتكرة" لم أقرأها لواحد من "أباليس" الفن من قبل.
*** شهادة الناقد "الكبير":
قد يوجد في الساحة الأدبية ـ وهي حافلة بكثير من الأدعياء ـ من يدافع عن هذا "الفاعل" باسم حرية الفن والرأي والتفكير ... إلخ، ولكن ماذا نقول في ناقد أكاديمي كبير له مؤلفات أدبية ونقدية وبلاغية مشهود له بالعظمة والتفوق؟! ماذا أقول له وفيه حين أقرأ له مخاطبًا هذا "الفاعل" ـ وهو كلام مطبوع ـ لأهميته ـ على غلاف "الديوان":
"الغالي (فلان): المقطوعات التي قدمتها إليّ تلوتها مرات، ومرات، وعشت في أفيائها، وشذاها ساعات، تشهد أنك شاعر موهوب، فالكلمة عندك تغني، والبيت يصدح، والموسيقى تملأ الرحاب، و ... و .... " ا.هـ.
لقد رأينا فيما نظمه "الفاعل" كلمات خسيسة، وأوتارًا مهترئة، وقيمًا منحورة، وصورًا منخورة، ولكن الناقد "الجليل الكبير" لا يسمع من "الفاعل" ـ الذي وصفه "بالغالي" ـ إلا غناء وشدوًا، وصداحًا وتغريدًا، ولا يتنسم، ويستنشق منه إلا شذى وعبيرًا، فهل لي أن أترحم على من قال:
ومّنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريض يجدْ مُرًّا به الماءَ الزلالا؟
***********
لقد حرصت الحرص كله على أن أنقل للقارئ هذا المضمون ألذى يبين عن طابع هذا الديوان الذى أهدانيه الأستاذ " ديمتري جوتس " الأستاذ بجامعة يل ، وهو يقوم بتدريس الأدب العربي فيها ، وله كتاب قيم عن " الحكمة في أدب العرب " لقد أهداني هذا الديوان ، وكاتبه اسمه " أنسي الحاج " السوري الجنسية . وهو كان يعمل بالقسم قبل أن أحضر إليه .
قال لي الأستاذ ديمتري : إن أنسي الحاج يردد دائما أنه خليفة نزار قباني .
قلت له إننا لا نعترف لا بالخليفة ولا بمن ينسب إليه .
قال ديمتري : أنت تعلم أن الشعر في تطور دائم ، وهذا النوع يمثل موجة جديدة في الشعر . فهذا نوع من التطور المحمود .
قلت له : إن هذا ليس تطورا ، ولكنه انحدار .
( وظهرت أمارات التعجب على وجه ديمتري ، ووجوه الحاضرين وهم : رئيس القسم فرانز روزنتال ، والبروفسير بوب الأستاذ بالقسم ، ومها الزعيم التي تعد رسالة للحصول على الدكتوراة بإشراف الأستاذ بوب ، وهي سورية الجنسية ) .
وفصلت قولي ، وكان مما قلت : إن الإبداع ـ بصفة عامة ـ يستقي من شعور المبدع وأحاسيسه ، ولابد أن يكون المنبع نظيفا ، حتى يكون الناتج نظيفا كذلك .
ابتسم الأستاذ روزنتال وقال : أعتقد يا مستر قميحة أن الحكم بنظافة المنبع أمر صعب بل مستحيل ، لأن لنا الظاهر .
التقطت هذه الجملة الأخيرة ، وقلت : وبهذا الظاهر نحكم : فإذا كان هذا الظاهر ـ قصيدة أو مقالا أو رسالة ... الخ . أي إبداعا من أي لون ـ يتفق مع المشاعر الإنسانية ، ويتفق مع القيم الخلقية ـ ولو بمفهموها العام ـ فإنه يكون أدبا ذا قيمة خالدة .
دخلت الطالبة : مها الزعيم حومة النقاش وقالت : معنى هذا أن الدكتور جابر يدعو إلى الالتزام بمفهومه الوجودي الذي دعا إليه " سارتر " . أوبمفهومه الشيوعي الذي دعا إليه " لينين " ، في بيانه المشهور الذي قال فيه " إنني لا أعترف بأدب خارج على نطاق الحزب " . وربما كان هذا هو السبب في اضطهاد " باسترناك " في قصته المشهورة " دكتور زيفاجو " .
قلت : إن الالتزام الذي أعنيه هو " التزام " لا " إلزام " .
قال الأستاذ بوب : اعتقد أن هذا إجمال ، أو إيجاز مكثف يحتاج إلى شرح .
قلت : أنا أعني " الإلتزام الرسالي التلقائي " ، بمعنى أن يتجه الإنسان إلى معالجة الموضوعات معالجة إنسانية بعيدا عن السقوط والفحش والعربدة والسقوط الجنسي . وتعود المبدع على مراعاة ذلك يخلق في أعماقه ضميرا حيا ، ونزعة إنسانية " نظيفة " تصبح جزءا أصيلا من نسيج تجربته الإبداعية ، بحيث لو خرج ولو مرة واحدة عن هذا الطابع لاكتشف أن ما أبدعه يعد نشازا يسيء إلى نسيجه الفني .
قالت الطالبه مها الزعيم : معنى هذا يا دكتور أنك بمنطقك هذا ستنسف ثلاثة أرباع إبداعات أدباء حزب البعث ومن يسيرون على دربهم .
قلت : إن المعيار الحسابي لا وحود له في نطاق الأدب ... فليكن ثلاثة أرباع الإبداع ، أو كل الإبداع ، فنحن نتعامل مع " الكيف " لا " الكم " .... نحن نتعامل مع إبداع بصرف النظرعن أصحابه.
ابتسم الأستاذ روزنتال وقال "بأسلوب الحكيم ، أو تجاهل العارف " هل ما تراه أنت تعده قاعدة مطردة ، تصدق على كل الأجناس والأنواع الشعرية ؟
قلت : نعم .
قال : أعتقد يا مستر قميحة أن الغزل يصعب أن يلتزم بهذا الطابع . وإن كان عندك ما ينصر قاعدتك ، فأرجو أن تسمعنا ما عندك .
قلت : أنت تعلم ـ يا أستاذنا ـ أن الغزل العفيف مفخرة للشعر العربي ، ومن أهره شعر العذريين . وأذكر أن الأستاذ "عمر بهاء الدين الأميري " كان دائما يذكرنا يالأبيات التالية لشاعر عربي قديم :
فـماذا عليهم لو أقاموا سروا ونجوم الليل زُهْر طوالع وأخفَوا على تلك المطايا رحيلهمْ | وسلمواوقـد علموا أني المحب على أنهم في الناس للناس أنجمُ فـدل عـليهم في الظلام التبسمُ | المتيمُ
قال الأستاذ بوب : معنى هذا انك ترفض خمريات الأعشى ، وأبي نواس ، والغزل الفاحش ... مع أن الأدب العربي غاص بهذه النماذج .
قلت : أنا لا أدعو إلى محو هذا الرصيد الضخم الخارج على القيم الخلقية والإنسانية ؛ لأنه أصبح جزءا من التراث العربي والإنساني ، ولكن ـ للحفاظ على أخلاقيات شبابنا وأبنائنا ـ نجعله مادة تاريخية للدارسين المتخصصين .
وهذا له وجوده النظري والتطبيقي في الآداب العالمية ، وأذكر أن هذا يختلف اختلافا بيننا عن الالتزام بمفهومه الوجودي أو الشيوعي .
**********
استمرت هذه الجلسة العفوية قرابة ساعتين ، وما قدمته يعد خلاصة لما دار فيها ، وقد سجلته في يومياتي من قرابة شهرين ، ونسيت أن أقدمه في حلقة من الحلقات ، (...وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ...) الكهف 63 .
وفي ختام الجلسة أهديت الحاضرين عملة مصرية فضية وورقية من ذات خمسة القروش وعشرة القروش . فأعجب بها د. روزنتال وقال إن هذه العملة تحمل ( قلب مصر ) . وقالت " موريين" سكرتيرة القسم التي مرت بنا في نهاية الجلسة حينما أهديتها ورقتين من ذات القروش الخمسة : يااااه ... هذه صورة " نفرتيتي " ... وقبلتها واحتضنتها ، وظهر على وجهها أمارات السعادة ، وكأنها عثرت على كنز .
وقمنا جميعا على صوت تنبيه من د. روبنتال : هذا وقت " اللنش "
وهو وجبة الظهيرة " بين الإفطار والعشاء " ويمكن أن نسميها بالعامية المصرية " تصبيرة " .
فاتجهنا جميعا إلى مطعم الكلية . وهو يسير على نظام "اخدم نفسك بنفسك " serve your self وربما ذكرت من قبل أن د. روزنتال كان هو الذي ينتقي لي اصناف اللحوم التي لا يدخل فيها لحم خنزير ، أو دهن لحم الخنزير .
قطرات نفس
بالأمس شاهدت في التلفاز الرئيس الأمريكي ريجان ، كان متجها إلى قاعة الاحتفالات بفندق هيلتون في نيويورك ، ووجدته يقابل بمظاهرات ضخمة تحمل لافتات شديدة اللهجة بسبب المساعدات التي تقدمها أمريكا لحكومة السلفادور . وكان المتظاهرون الذين بلغـوا الآلاف يهتفون بسقوط ريجان ، وقد كتب على اللافتات الضخمة عبارات مثل protest regan
ومثل down with regan .
وكان المذيعون موزعين بين داخل القاعة حيث الرئيس الأمريكي ، ومن يحتفون به ، وكلمات الترحيب الحارة ، وبين خارج القاعة لنقل الهتافات المضادة ، ووجهات النظر المعارضة في
قوة وحماسة . أي أذيع الحفل بحياد كامل ، دون الانحيازلمؤيدي ريجان ، أو معارضيه .
وأذكر أن المذيع أجرى حديثا مع متظاهرة يابانية تحمل لافتة عليها عبارة بسقوط ريجـان ، ورسم كاريكاتيري لريجان وقد فتح فمه عن أخره يلتهم به الميزانية الأمريكية التى تمثلت في ملايين الدولارات . سألها المذيع : لكن انت يابانية... فلماذا تشتركين في مظاهرة أمريكية تعارض الرئيس الأمريكي ؟
أجابت : هل نسيت أننا نعيش في عصر : الإنسان الإنسان ... أي الإنسان العالمي ؟
**********
وما رأيته ذكرني بما أراه في بلادنا : فمن الصعب ـ بل المستحيل ـ أن تقوم مظاهرة ضد النظام القائم ، وإذا خرجت المظاهرة فإنها تتعرض للضرب ، والقبض ، والتعذيب . اللهم إلا إذا كانت المظاهرة قد خرجت لتأييد الحكم القائم .
وسمعت نكتة تعبر عن واقعنا خلاصتها : أن مصريا التقى بأمريكي في حديث عن الحرية ، قال الأمريكي عندنا في بلادنا حرية شاملة ،حتى إن أي أمريكي يستطيع أن بقف في أكبر ميدان في نيويورك ، ويهتف بسقوط الرئيس الأمريكي ريجان دون أن يتعرض له أحد .
فأجاب المصري وهذا عندنا أيضا : فأي مصري يستطيع أن يقف في أكبر ميدان في القاهرة ، ويهتف بسقوط الرئيس الأمريكي ريجان دون أن يتعرض له أحد .