بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم 17
يومياتي في أمريكا
بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم
أ.د/
جابر قميحةالحلقة ( 17 )
بعض من الأعمال الدعوية
كانت صلاة الجمعة دائما ــ وبقية صلاة اليوم ــ تقام في مسجد الشباب المسلم في ضاحية " ويست هافن " ، وقد تعود الإخوة أن يمر أحدهم علي كل يوم جمعة ؛ لينقلني إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة ، إذ لم أكن أملك سيارة .
وكان من هؤلاء الإخوة ــ أكرمهم الله جميعا ــ بدر القصار ، وإبراهيم المعتاز ، وجمال مقلد ، وغيرهم .
والمسجد شقة واسعة في الدور الأرضي استأجرها الإخوة وأعطوها طابع المسجد للصلاة ، وإلقاء المحاضرات . ومن المحاضرات التي ألقيتها في هذا المسجد محاضرة بعنوان " محمد رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ .... القيم والمنهج "
وفي المحاضرة إستوفيت الكلام عن أهم صفات الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ـ
وهي الرحمة والوفاء . ولو اتسع الوقت لاستكملت الحديث في كل صفاته . وقد بدأت المحاضرة بحديث عن الذين كتبوا عن شخصية الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ قديما وحديثا ، وقد كانت شخصيته من العظمة بحيث يعجز أي باحث
ــ مهما أوتي من قدرة عقلية وبيانية ــ أن يرسم الصورة الدقيقة الكاملة لشخصيته ؛ لأن شخصيته فيها من المعاني ، و الملامح المتوهجة ما تعجز الألفاظ عن الإحاطة به .
وهو ــ صلى الله عليه وسلم ــ كالقرآن ترجم إلى عددا كبير من لغات العالم ، ولكننا لا نزعم ، ولا نجرؤ أن نزعم أن هذه التراجم تساوي القرآن في القيمة البيانية و الجمالية و الفكرية و الروحية . لذلك نقول دائما : إنها " ترجمة لمعاني القرآن العظيم " لا ترجمة للقرآن نفسه .
وقلت في المحاضرة إن شخصية الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ تذكرني بالفيل الذي أحاط به العميان ، يحاول كل منهم أن يصفه ، ووضع كل منهم يده علي الجزء الذي كان قريبا منه ، فما زاد على أن وصف الفيل بالجزء الذي امسك به ، وقال من يمسك بخرطومه : إنه حيوان طويل ، ومن يمسك بأذنه : إنه حيوان عريض رخو . وقال من يمسك بإحدى أرجله : إنه حيوان غليظ قصير ، وما استطاع واحد منهم أن يقدم الصورة الكاملة الشاملة لشخصيته ــ صلى الله عليه وسلم ـ
وما أقوم به الأن إنما هو مجرد محاولة لا لرسم شخصيته ؛ فقد تكفل الحق برسمها بحروف من نور على جبين الزمن ، وأنا أعجز أن أزعم لنفسي قدرة ليست فيَِّ . ولكنها وقفات أمام بعض صفاته وملامحه ، نستجلي منها بعض مجالي العظمة و العبرة ، ودروس النفس والمجتمع .
وتحدثت عن رحمته بمفهومها الشامل : بالرجال والنساء والأطفال والحيوان ، وتحدثت عن وفائه : لأصدقائه ، وزوجاته ــ وبخاصة خديجة زوجته الأولى . مستمدا من حياته ــ عليه الصلاة والسلام ــ خلاصات واقعية ، تدل بحق على هذه الصفات وعلى طبيعتها العظيمة الرائعة .
**********
"Bridge Port" ومن المحاضرات محاضرة ألقيتها مساء في مدينة
التي تبعد عن" نيو هافن " قرابة ثلاثين ميلا . وكان موضوع المحاضرة
" عبقرية الإسلام في التشريع " . صلينا المغرب ثم تناولنا العشاء ، وبعد صلاة العشاء بدأت المحاضرة ، كان عدد الحاضريين أكبر مما كنت أنتظر ، وكان احتفاؤهم بي عظيما . استمرت المحاضرة ساعتين . ومن أهم عناصرها : قاعدة التدرج التشريعي ، والاهتمام بالقيم الأخلاقية ، ورعاية الله في المنشط والمكره ، وفي السراء و الضراء بحيث يؤدي المسلم عمله الخاص والعام قاصدا به وجه الله كما صورت الأية " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
الأنعام 162
وتوالت الأسئلة ومنها : التدرج التشريعي قاعدة إسلامية خالدة ، كما رأينا في تحريم الخمر ( فقد حرمت التحريم القاطع علي مدى عشر سنوات بالحكم الحاسم في قوله تعالى ) " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(91 ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ " المائدة 90 – 91 .
فهل إذا طبقنا الشريعة الإسلامية في وقتنا الحاضر نحتاج إلى تدرج كهذا ؟ . وكانت إجابتي : لا لأن الشريعة اكتملت ويجب أن تحكم ككل لاتنفصل أجزاؤه . ولأن الموانع التي يتعلل بها " دعاة التدريج والتأجيل " إنما هي موانع وهمية ، كقولهم في حد السرقة مثلا : يجب ألا نطبقه إلا إذا ارتفع مستوي الشعب الاجتماعي والمعيشي ، وضربت مثالا بنشالي القاهرة ولصوصها الذين يسرقون ليسكروا ، ويعربدوا لا ليأكلوا . أما إذا ثبت الجوع والفقر والاحتياج للضرورات .... في هذه الحالة يؤجل تطبيق حد السرقة ، كما فعل عمربن الخطاب في عام الرمادة سنة 18 هــ . ومما يروي عن عمر أن أحد الصحابة شكا إليه خادمه بأنه يسرق بعض ماله ، واعترف الغلام بذلك لأن سيده يجيعه ، فهو يسرق بعض المال منه ليشتري به طعاما ليأكل . قال عمر للشاكي : الآن ظهر الحق ، واقسم لو سرق منك خادمك بعد ذلك لقطعت يدك أنت . أي أن الإسلام يبحث عن الدافع الأصلي للجريمة قبل أن يفرض العقاب . وقد قال الفقهاء " إنما الحدود زواجر " .
***********
وأسجل في هذا السياق لقاء صحفيا قام به كاتب صحفي بمجلة " في ظلال الفكر " . وكان موضوع اللقاء " الدكتور أحمد شلبي " أستاذ التاريخ في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ، و كنت أحد تلاميذه ، وقد حملت معي من القاهرة إلي نيو هافن كتبه المشهورة عن الإسلام والمسيحية وغيرها من الأديان . وأعرض في السطور الأتية أهم ما جاء في هذا اللقاء :
س : ما المكانة العلمية للدكتور أحمد شلبي بين المفكريين ؟
جـ : لاشك أنه واحد من كبار المفكرين الذين مزجوا بين التاريخ ، وفلسفة التاريخ ، والقيم الأخلاقية والدينية . والرجل عاش متحمسا للإسلام طيلة حياته .
س : ما الذي قرأته من كتبه عن الأديان ؟
جـ : قرأتها كلها بحمد الله ومنها كتاب اليهودية ، وكتاب المسيحية ، وكتابه عن أديان الهند الكبري .
س : الدكتور أحمد شلبي أطلق على هذه الكتب عبارة " علم مقارنة الأديان " ، فما رأيك في هذه التسمية ؟
جـ : في الواقع ــ من وجهة نظري ــ أن هذه الكتب كتب في الأديان ، لا كتب في مقارنة الأديان .
س : وما الفرق بينهما ؟
ج : كتب التاريخ الخالص ، أو الكتاب يؤلف في دين من الأديان ويعرضه الكاتب بأسلوبه ، هذا عرض مباشر لا مكان فيه للمقارنة . أما " المقارنة " فتعني الربط ، ومنها القـَرَن وهو الحبل ونقول اقترن الشيء بالشيء إذا ارتبط به . وعلم " مقارنة الأديان " يعني تتبع" التأثير والتأثر" : فمثلا علم مقارنة الأديان يتطلب تناول ظاهرة كظاهرة " عقاب المذنب " في اليهودية ، والمسيجية ، والإسلام ، والأديان الوضعية ، ويبحث الكاتب عن هذه الظاهرة في أقدم تاريخها ، ومدي تأثيرها في الأديان اللاحقة . وكذلك فكرة " الألوهية " ، وكذلك حق المرأة ، وكذلك طبيعة الأنبياء و المرسلين .
والوضع نفسه نجده في تاريخ الأدب : فيقول كثير من الباحثين المحققين : إن أبا العلاء المعري في كتابه " رسالة الغفران " متأثر بما جاء في القرآن والحديث النبوي عن" المعراج " ، وأن " دانتي " متأثر بأبي العلاء المعري في كتابه
" الكوميديا المقدسة أو الإلهية" ... وهكذا . ومن أدق الكتب وأوفاها في الأدب المقارن كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال عن" الحب العذري "
س : هل هناك مآخذ أخري تسجلها على الكاتب ؟
جـ : أري أن الكاتب اسرف علي نفسه حين تحدث عن القرآن بوصفه أول كتاب تبني " علم مقارنة الأديان " ، لأنه تحدث عن الأنبياء والرسل والكتب السماوية ... الخ . وهذا إسراف لاشأن للقرآن به ، وهو إسراف لا يعلي من شأن القرآن ، وإلا لقلنا إن القرآن أول كتاب تبني فن صناعة الحديد والصلب ؛ وذلك لأنه أشار إلي الحديد في بعض أياته . وتبني علم الجيولوجيا وطبقات الأرض لأنه ذكر أن من الجبال جددا بيضا وحمرا ... الخ .وتبني علم الفلك إذ تحدث عن النجوم .
س : هل هناك مأخذ أخري ؟
جـ : نعم وأشير إليها علي سبيل الإلماع ، ومنها :
1-ضعف الوحدة الموضوعية و الفنية في الكتاب الواحد ، فالقارئ يشعرأنه مجموعة من المقالات الطويلة .
2- كثرة النقول إلي حد الغلو الذي يضعف شخصية الكاتب .
3- إعتزاز الكاتب بنفسه ، وحديثه المتكررعن جهوده بصورة لا تليق بعالم كبير مثله .
ولكن من محاسنه أنه يسجل له في بعض هذه الكتب تفسيره السياسي البارع لعدد من المسائل منها : ادعاء ظهور العذراء في كنيسة الزيتون بالقاهرة . كما أعجبني فيه إنصافه لسيد قطب فهو لا يتحدث عنه إلا " بالشهيد المرحوم "
قطرات نفس
حديث إلي البريق الغائب
أيها البريق الذي كان مشرقا ، يملأ عليَّ قلبي ، وحناياي ، وعالمي ودنياي . أين أنت ؟ لماذا تركتني في ظلام الكآبة ، لا أدري ما أفعل ؟ من الذي يوقظني من هذا الضياع؟ .
أيها البريق الذي كان مشرقا مد إليَّ يدك فقد تكون بلسما يخلصني من الضياع والأوجاع .
مد إلي يدك ؛ فإغاثة الملهوف واجب إنساني ملزم لكل من يعانق القيم الإنسانية . يا لشقوتي مع هذا الزمن القاسي ... فراغ ... فرغ رهيب ، لن يملأه إلا أنت ، بلمساتك الحانية ، وقلبك السماوي الكبير .
طال غيابك أيها البريق المشرق ، فمتي تقول هأنذا ... متي ؟ يا عجبا وأنت تعلم أنني أبيت في ظلمة سحيقة ، ليس لي إلا وحدتي وآلامي ، والضياع ، والأوجاع .
قلها أيها البريق ... قل : أنا قادم إليك مع الفجر ، وليس الفجر عنك ببعيد .