في بلد الشهداء يرضعون أطفالهم حب فلسطين
ديمة جمعة السمان
هناك.. من مدينة العلم والعلماء.. مدينة الجسورالمعلّقة والطبيعة الخلابة.. مدينة العز والكرامة.. قسنطينة الجزائر.. التي أصرت على رفض الاعتراف بسلطة الاحتلال الفرنسي .. وصمدت وناضلت بشراسة الحر الأبيّ.. وقدمت أرواح أبنائها البواسل قرابين من أجل الحرية.. فلا تزول الدولة بزوال رجالها.. وقد عقدوا العزم على أن يحيا الوطن.
هناك.. مِن وطن المليون ونصف شهيد انطلقت فعاليات الأسبوع الثقافي الفلسطيني.. يوم الاثنين الماضي الموافق 27 نيسان .. تُحدث عن شعبين شقيقين ولدا من رحم واحد.. الفلسطيني والجزائري.
هناك.. من قسنطينة الجزائر.. عاصمة الثقافة العربية للعام 2015.. كانت لنا أجمل الذكريات.
عاد الوفد الفلسطيني الى أرض وطنه فلسطين.. يحمل حب الشعب الجزائري العظيم الأصيل بين ضلوعه.. يحمل أبهى صورة لأجمل شعب.. فقد ترك حنوهم أثرا في نفوسنا لا يمحى أبدا. حنو الأم على رضيعها.. كانوا الحضن الدافيء الذي ضمّنا واحتوانا طيلة فترة مكوثنا هناك طيلة عشرة أيام. رحم الله القائد هواري بوميدين.. الرئيس الثاني للجزائر المستقلة الحرة.. الذي حفر جملته الشهيرة في عقل وقلب كل جزائري حر: ( نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.. لقد انتصرت الدولة الصهيونية في معركة.. لكنها لم تستطع بأي حال من الأحوال ان تنتصر على الامة العربية كلها). حمل الفلسطيني كلمات القائد الراحل بوميدين أينما ذهب.. شهادة من الجزائر شعبا وقيادة.. على محبة وإخلاص الشقيق للشقيق. وردّت فلسطين بتسمية احدى أفضل مدارسها باسم القائد الحر ( هواري بوميدين).. ليُكتب له الخلود في عقول وقلوب أبنائنا.
كنت هناك.. ضمن وفد فلسطيني يضم مثقفين وفنانين وأدباء وفرقة دبكة شعبية من الوطن والشتات.. التأمنا للمشاركة في تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية للعام 2015.. ولكن الفرحة في ظل ظلم الاحتلال لا تكتمل أبدا.. فقد حُرمنا من مشاركة اخوتنا المبدعين المحاصرين في قطاع غزة.. وقد ترك ذلك غصة في قلوبنا.. فلم تكتمل اللوحة.. وبقيت منقوصة.
كانت الرحلة إلى الجزائرمرهقة.. وإجراءات التنقل والسفر متعبة.. ولكن حرارة استقبال اخوتنا الجزائريين لنا أنستنا عذابها.. كان الاندماج سريعا.. لم يكن في اللقاء أي تكلف أو تصنع.. كانت تخرج الكلمات صادقة من القلب لتستقر في القلب.. مشاعر المحبة فرضت جوا مريحا.. لم تسمح لأحاسيس الغربة بالتسلل الى نفوسنا.
أما بيتنا الثاني .. كانت سفارتنا الفلسطينية الموقرة التي تابعت وفدنا خطوة بخطوة.. بقيادة سفيرنا المناضل سعادة د. لؤي عيسى.. وطاقمها الرائع.. كل ضمن تخصصه.. أذكر منهم الأخ هيثم عمايرة مسؤول الشؤون الثقافية الذي تمت جميع التنسيقات والترتيبات من خلاله.. والأخ علي الشامي الذي رافقنا طيلة الرحلة. ولم يغادرنا لحظة واحدة. وقد كانت حرم سعادة السفير الأخت منار عيسى ( أم خليل)..الأخت والصديقة الحكيمة. والأم التي احتضنت شباب وشابات الفرقة المقدسية للدبكة الشعبية (أوف). وكانت العنوان المريح لأعضاء الوفد طيلة فترة مكوثنا هناك.
أما طلبتنا الفلسطينيون الذين يدرسون في جامعات الجزائر.. فقد اعتقدت للوهلة الأولى أنهم من موظفي السفارة.. حيث كانت محبتهم وانتماؤهم وتعاونهم يفوق التّصور.
تألق فناننا المبدع أحمد داري في افتتاح الاسبوع الثقافي الفلسطيني في المسرح الثقافي.. فقد كان لأنامله سحر.. أنطق أوتار العود.. وعلا صوته بالأغاني الوطنية والشعبية.. وصاحبه الزجال المبدع عبدالله غانم.. وضجت القاعة بالتصفيق.
أما فناننا التشكيلي سميح أبو زاكية.. الذي تحلق حوله مئات الأطفال.. فقد كان لريشته العجب.. هي ثوان معدودة.. يكون العلمان الفلسطيني والجزائري متعانقان على الصفحة البيضاء.. يتوسط العلم الفلسطيني قبة الصخرة المشرفة.. وكلمة ( القدس) العاصمة الفلسطينية الأبدية.. ويعتليهما اسم الطفل الذي خصّه برسمته.. فيأخذها الطفل سعيدا يلوّنها.. ليحتفظ بها وثيقة محبة.
مع العلم ان الفنان أبو زاكية كان قد حصل على العديد من الجوائز العربية والدولية في مجال رسومات الاطفال الخاصة بحفظ الذاكرة الوطنية وحقوق الأطفال.
وعلى هامش الاسبوع الثقافي كانت تماثيل الفنان المبدع النحات زكي سلام.. تُعرض في قاعة خاصة في المسرح الثقافي.. جمعت روائعه التي كادت تنطق. وقد كان معظمها تماثيل تعبر عن المرأة الفلسطينية التي حملت القضية على رأسها بثبات .. واضطرتها الظروف ان تلعب دور الأم والأب معا في ظل غياب الزوج الشهيد أو الأسير أو المبعد. وقد لفت نظري تشكيلة العيون.. التي كانت كل منها تحكي (قصة).. فللعيون لغة.. تتوحد بها لغات العالم.
أما القصائد الشعرية.. فقد أحسن الشعراء اختيارها في الأمسيات الشعرية التي كانت على هامش الاسبوع الثقافي.. وقد أشعلت القاعة حماسا.
كما التف الحضور حول الأديب جميل السلحوت بعد الانتهاء من محاضرته حول واقع الثقافة في القدس.. فقد تركت أثرا كبيرا في النفوس.. حيث أنها تميزت بالدقة والشمولية.. ووضعت الحضور بواقع ما يجري في القدس من تهويد للبشر والحجر والشجر. وتدافع الحضور.. كل يسعى للاحنفاظ بصورة مع الشيخ جميل. وبعد أن استمعوا له مليا.. جاء السؤال الذي لم يكن متوقعا بروح الدعابة: من أين اكتسبت لقب الشيخ يا شيخ وأنت لست بشيخ؟ فضحك شيخنا وقال: أنا شيخ قبيلة.. حيث أنني من أصل بدوي.
فوجيء البعض.. ولم يدروا ان كان مازحا أم جادا فيما يقول.
وكم كانت دهشتي وأنا أرى دموع الحضور تملأ عيونهم وهم يستمعون الى محاضرتي حول واقع التعليم في القدس.. واستهداف الطلبة المقدسيين من قبل الاحتلال الاسرائيلي.. شعرت بصدق مشاعرهم.. فلم تكن هناك أي مساحة للمجاملات.. التفوا حولي بعد الانتهاء من المحاضرة.. كل يبحث عن إجابة لسؤال حيّره. كنت أجيب عن كل سؤال بثقة العارف بواقع الحال.. فأنا ابنة القدس.. شاهدة على الأحداث.. إلى أن فاجأتني طفلة لا يزيد عمرها عن التسع سنوات بسؤال أربكني: (ماذا استطيع "أنا" أن أقدم لأطفال فلسطين يا خالة؟) كانت (مريم) – وكان هذا اسمها- تخفي رجفة شفتيها بأصابع يدها اليمنى.. تغالب دمعة تمردت وهربت غصبا عنها.. حرقتني دمعتها.. وعندما علمت أنها في الصف الرابع.. طلبت منها أن تلتفت إلى دروسها.. فبالعلم نتغلب على العدو.. ونستدل على الطريق. تظاهرت مريم بقبول إجابتي.. ولكنني واثقة من أن إجابتي لم تشف غليلها.
لم تفارقني صورة مريم طيلة النهار.. وفي المساء غفت عيني.. وأبت صورتها أن تغادرني.. فنامت تحت جفني.
بعد ثلاثة أيام .. كان لنا لقاء مع د. لؤي عيسى في السفارة.. فقص علينا قصة حصلت معه أيام الحرب الأخيرة التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة.. أعادت صورة الطفلة مريم إلى ذاكرتي.. قال: (كنت أهييء نفسي لحضور اجتماع في غاية الأهمية.. وإذا بموظف في السفارة يطرق باب مكتبي ليخبرني بأن سيدة جزائرية تصطحب معها طفلة لا يزيد عمرها عن الأربع سنوات تصر على مقابلتي.. وعندما أعلمته أنني مشغول ومضطر للدخول إلى قاعة الاجتماعات.. طلب مني أن أستقبلها ولو لمدة خمس دقائق.. حيث أن طفلتها لم تتوقف عن البكاء.. فاستغربت.. وأخيرا سمحت لها بالدخول.. بعد أن شعرت بمدى تعاطفه معها.. فأثار ذلك فضولي.. قالت السيدة.. منذ أن شاهدَت طفلتي على شاشة التلفاز ما يجري لأطفال غزة لم تتوقف عن البكاء.. تريد أن تقدم لهم شيئا.. وقد كانت الطفلة تحتضن حصالة بين يديها الصغيرتين تحتوي على بضع قروش).
وأضاف د. لؤي: (ضممت الطفلة .. ألبستها العلم الفلسطيني.. أخذت منها حصالتها.. ووعدتها أن أوصل ما فيها لأطفال فلسطين.. وأنهم حتما سيفرحون بما قدمت لهم.. ففرحت الطفلة.. أمسكت بيد والدتها .. وغادرت مبنى السفارة راضية).
أتساءل.. ترى.. هل يذيبون الجزائريون حب فلسطين في حليب أطفالهم.. والا.. فما سر هذه العاطفة؟
ولما كان للمحاضرتين حول التعليم والثقافة في القدس أثرا كبيرا في نفوس أشقائنا الجزائريين.. قام الأخ منصور المغربي مندوب السفارة بالترتيبات اللازمة مع د. عبد الله بو خلخال رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائري..لتقديم المحاضرتين إلى طلبة الجامعة.. وفي نهاية اللقاء تدافع الطلبة كل يود أن يلتقط صورة بواسطة جواله معي ومع الشيخ جميل ليحتفظ بذكرى اللقاء.
وكما هو دائما.. كان ختام الأسبوع الثقافي مسكا.. تألقت فرقة أوف المقدسية للدبكة الشعبية.. وضجت القاعة بالتصفيق والصفير.. وارتفعت الأعلام الفلسطينية ترفرف عاليا.. تحدّث عن شعب يتوق للحرية.. يرفض الذل والهوان.. رأس ماله كرامته وكبريائه.