بين التديّن والقيادة صلاح الدين الأيّوبي نموذجاً
[باختصار، من مجلة فلسطين المسلمة، نيسان/1996م، بقلم: اللواء الركن محمود شيت خطاب]
الانحراف عن الدين سمة متفشية بين العسكريين، كأنهم يعتقدون أن العسكرية والتديّن على طرفي نقيض.
إن الأيدي الخفية هي التي تعمل على إشاعة هذه المفاهيم الخاطئة حتى لا تقوم قائمة للعرب والمسلمين. لن يستطيع أحد أن يذكر قائداً عربياً واحداً كان له في ميدان النصر تاريخ إلا وهو متديّن لأبعد الحدود.
سيد القادات وقائد السادات الرسول القائد عليه أفضل الصلاة الوسلام هو نبيّ الإسلام، وكان قائداً منتصراً.
وقادة الفتح الإسلامي العظيم كلهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين عليهم رضوان الله.
لقد أحصيتُ عدد القادة الفاتحين فكانوا (256) قائداً عربياً مسلماً، منهم (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، و(40) من التابعين عليهم رضوان الله.
ولعلّ أهمّ المعارك بعد العصر الأول معركتان: معركة "حطّين" التي قادها البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، ومعركة "عين جالوت" التي قادها قطز صاحب مصر.
وقدّر الله أن تكون هاتان المعركتان في الأرض المقدّسة فلسطين: حطين قرية تقع غرب بحيرة طبريا على بعد 12 كم من مدينة طبريا على طريق طبريا الناصرة. وعين جالوت بلدة صغيرة تبعد خمسة أميال عن مدينة العفولة، تقع بين العفولة ومدينة بيسان.
ولقد درستُ هاتين المعركتين دراسة مستفيضة فوجدتُ أن الفضل الأول لانتصار المسلمين على الصليبيين في معركة حطين يعود إلى قيادة صلاح الدين الأيوبي المؤمنة، ووجدت أن الفضل الأول لانتصار المسلمين على التتار في معركة عين جالوت يعود إلى قطز وإلى الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وأبي الحسن الشاذلي، عليهما رضوان الله.
في سنة 573هـ اشتبك صلاح الدين بالصليبيين على مقربة من مدينة الرملة فهُزم صلاح الدين، وقُتل وأُسر كثير من المسلمين.
وارتد صلاح الدين إلى القاهرة وقد حزّت في نفسه الهزيمة وأخذ يحشد الجيش لحملة جديدة، وعاد في منتصف عام 576هـ إلى القاهرة فأمضى فيها عاماً ونصف العام يرسم الخطط ويعدّ العدّة ويدرّب رجاله ويكمل نواقصهم على هدي الدروس المستفادة من معاركه السابقة حتى اطمأنّ إلى كفاية قواته القتالية ووثق بقابلياتهم العسكرية.
وفي الخامس من محرّم سنة 578هـ خرج من القاهرة عاقداً العزم على خوض معركة حاسمة يستعيد بها القدس الشريف.
وبقي في دمشق أربعة أعوام يحشد المجاهدين من كل مكان، ويستنفر القادرين على حمل السلاح، ويعدّ الخطط العسكرية للقتال. وفي أواخر محرم من سنة 583هـ خرج في قواته من دمشق وسار فيها إلى بصرى، ليحمي منها طريق عودة الحجاج إذ بلغه أن "رينو دي شاتيون" أمير الكرك ينوي الفتك بهم، ولما انتهت عودة الحجاج بسلام سار إلى الكرك والشوبك وعاث في أنحائهما.
ووافته جيوش مصر بقيادة أخيه العادل، وكانت قوات الشام والجزيرة تتلاحق في تلك الأثناء وتجتمع في دمشق تحت قيادة الملك الأفضل ابن صلاح الدين.
وسارت من هذا الجيش بأمر صلاح الدين حملة قوية إلى ثغر عكا لاقتحامه وتخريبه واشتبكت هناك مع الفرنج في معركة طاحنة هُزم على أثرها الفرنج، وأسَرَ المسلمون جماعة كبيرة من الفرسان واستولوا على كثير من الغنائم.
وسار صلاح الدين بقواته جنوباً نحو مدينة طبريا فاستولى عليها ولكن حاميتها اعتصمت بالقلعة، وكان السلطان يهدف إلى استدراج الفرنج لمقاتلته في العراء، ولكنهم لما يفعلوا وترك مدينة طبريا وعاد إلى معسكره على مقربة منها.
ولكن الفرنج حرصوا على منع صلاح الدين من السير نحو مدينة طبريا وفتح قلعتها فوقف الجيش الإسلامي في سبيلهم واشتبك الطرفان في معارك طاحنة قاتل الصليبيون فيها قتالاً شديداً، إلا أن كفة المسلمين رجحت عليهم.
واستطاع صلاح الدين محاصرة الفرنج فارتدّوا نحو تلّ بقرية حطّين القريبة يعتصمون به، ولكن صلاح الدين هاجمهم هجوماً صاعقاً فاشتدّ القتال حتى هُزم الفرنج في النهاية هزيمة شنيعة، وأسر المسلمون سائر أمراء الفرنج.
ولكن هدف صلاح الدين كان استعادة القدس، لذلك سار إلى عسقلان لكي يتم عزل بيت المقدس عن البحر، وطوّق عسقلان من البرّ وضربها بالمجانيق ضرباً شديداً حتى استسلمت بالأمان في آخر جمادى الثانية سنة 583هـ، ثم استعاد معظم الحصون والمدن.
ويمّم صلاح الدين وجهه شطر المسجد الأقصى فأشرف على بيت المقدس في منتصف شهر رجب من سنة 583هـ، وكانت تموج بجموع زاخرة من الفرنج الذين قصدوها من سائر البلاد للدفاع عنها، وحاصر المدينة المقدسة، وشدّد عليها الحصار، وتمكّن المسلمون من ثقب السور.
فلما علم الفرنج بخطورة الموقف أوفدوا إلى صلاح الدين وفداً من رؤسائهم يطلبون الأمان، ودخل المسلمون بيت المقدس في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة 583هـ، ورفعوا أعلامهم فوق الأسوار وفوق المسجد الأقصى وأبدى صلاح الدين مع الفرنج منتهى التسامح كما تشهد مصادرهم التاريخية.
كان تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألف مقاتل في معركة حطين، وكان تعداد جيش الفرنج خمسين ألفاً، وانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكبيرة بإذن الله.
كانت أسباب النصر كثيرة، على رأسها قيادة صلاح الدين، لأنه وهب حياته للجهاد في سبيل الله، وكانت العقيدة الإسلامية تملأ نفسه ومشاعره ويضطرم بها ولا يؤمن بغيرها، وكان وافر الحلم جمّ التواضع متقشّفاً في ملبسه وطعامه، ينفق كل ما تصل إليه يده في أغراض الجهاد ومصالح المسلمين، لا يهتم بشيء من أغراض هذه الدنيا من مال أو غيره.
وكان يحمل صناديق مقفلة في أيام جهاده يحرص عليها أعظم الحرص ويرعاها أعظم الرعاية، وظن الذين من حوله من المقرّبين إليه أن هذه الصناديق تخفي في بطونها جواهر ومالاً، ولكن بعد وفاته فُتحت تلك الصناديق فوجدوا أنها تحوي على وصية صلاح الدين وكفنه الذي اشتراه من كدّه، وكمية من التراب.
وفتحت الوصية وكان كما جاء فيها: "أُكفّن بهذا الكفن الذي تعطّر بماء زمزم وزار الكعبة المشرفة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم".
"وهذا التراب هو من مخلفات أيام الجهاد يصنع منه طابوق يوضع تحت رأسي في قبري".
وصنع من هذا التراب اثنتا عشرة طابوقة كبيرة تستقر تحت رأس صلاح الدين عليه رضوان الله في قبره ويلقى الله بها يوم الدين.
هل كان ينتصر صلاح الدين لو صرف همّه إلى فرجه وجيبه ومأكله ومشربه؟.
هيهات! إن الفرق الكبير بين الإنسان والحيوان، فالإنسان يتمسّك بالمُثُل العليا، وهذه المثل العليا هي العقيدة.
والإنسان يؤثر مثله العليا على متاع الدنيا لأن تلك المثل هي الباقية ولأنها نابعة من طبيعة الإنسان الحق. ولكن كم من البشر أخلدوا إلى الأرض فأصبحوا حيوانات بل أضلّ سبيلاً؟!.
وسوم: العدد 766