الصحابي الأريب النجيب عُمير بن سعد رضي الله عنه
ما أروع مواقف عُمير بن سعد، وما أكثر الصور الوضاءة في حياته. إنه نموذج فريد لمن يحب الله ورسوله ويؤثر الحياة الآخرة على متاع الحياة الدنيا.
ولد عمير في المدينة المنورة، وتوفي أبوه وهو لا يزال صغيراً غض الإهاب، فتزوّجت أمه رجلاً من أثرياء الأوس يدعى الجُلاس بن سُويد. وقد أحب الجلاسُ عميراً حباً عظيماً، لما رأى فيه من أمارات الفطنة والنجابة وشمائل الصدق والأمانة، كما أحبه عمير حب الولد البار بأبيه.
أسلم عمير وهو في العاشرة من عمره، وملأ الإيمان قلبه، فأحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم محبة قوية، فكان لا يتخلّف عن الصلاة خلف الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي السنة التاسعة للهجرة تعرّض هذا الغلام اليافع لامتحان صعب كشف عن صدق إيمانه، وحبّه لله ورسوله.. فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يستعد لغزو الروم (غزوة تبوك)، وكشف للمسلمين عن وجهته، على غير عادته، لبعد الشقّة وشدة الحر، وكثرة العدد والعُدد.
وبدأ المسلمون يبذلون الأموال بسخاء عجيب، وأقبلت النساء بالحليّ، فكان مشهد التنافس في الخير والبذل رائعاً: (وفي ذلك فلْيتنافس المتنافسون).
وفوجئ عمير مفاجأة مزعجة وهو يرى الجلاس يتوانى عن الإنفاق والتضحية والبذل والاستعداد، والمال ملء يديه، وهو من نعم الله عليه، فأخذ عمير يحدث الجلاس عن فضل الإنفاق في سبيل الله، وعن الصور المشرقة للبذل التي شاهدها بأم عينيه، لعل ذلك يشحذ همته ويقوي عزيمته. لكن الجلاس كان منافقاً، فقال كلمة نزلت كالصاعقة في أذن عمير. قال الجلاس: إن كان محمد صادقاً فيما يدّعيه من النبوّة فنحن شر من الحمير.
لقد قالها. واصطرعت في نفس عمير معركة بين حبه للجلاس وحبه لله ورسوله. هل يكتم ما سمعه من الجلاس أم ينقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويُغضب الجلاس ويكون عاقاً بحقه وهو الذي آواه من يُتم وأغناه من فقر؟!.
هيهات هيهات أن يتستر عمير على الجلاس ويخون الله ورسوله. إن حب عمير لله ورسوله يفوق حبه للجلاس، بل يفوق حبه لنفسه التي بين جنبيه.
مضى عمير إلى المسجد وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما سمع. واستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم الجلاس فحضر، وسأله فأقسم أنه لم يتفوّه بشيء مما نُسب إليه. وأحسّ عمير بالحرج. وراح المنافقون يصفونه بالعقوق وإنكار الجميل، لكن الوحي نزل على قلب إمام الأنبياء: (يحلفون بالله ما قالوا. ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم...) إلى قوله تعالى: (فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن لم يتولوا يعذّبهم الله عذاباً أليماً). {سورة التوبة: 74}. وزاغ بصر الجلاس، وارتعد من هول ما سمع، وقال: بل أتوب يا رسول الله، وصدَقَ عمير وكنتُ من الكاذبين.
تاب الجلاس، وكان يقول كلما ذُكر عمير: جزاه الله عني خيراً فقد أنقذني من الكفر وأعتق رقبتي من النار.
وهاك صفحة من سيرة هذا الصحابي في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:
بينما كان عمير بن سعد يغزو مع جيوش المسلمين في أرض الجزيرة من بلاد الشام إذ جاءه كتاب عمر ليعهد إليه بولاية حمص، فقد كان أهل حمص يُكثرون من الشكاية على ولاتهم، فأراد أن يختار لهم والياً يرضون عنه ولا يجدون عليه مطعناً. وأذعن عمير للأمر وإن كان الجهادُ أحبَّ إليه.
وذهب عمير إلى حمص وجمع أهلها في المسجد وخطب فيهم وأعلن أن دستوره إقامة الحق فيهم والعدل.
ومكث سنة لم يبعث إلى عمر كتاباً ولا إلى بيت مال المسلمين من الفيء درهماً. فخاف عمر أن تكون فتنة الإمارة قد لحقت عميراً فأرسل إليه. فقدم عمير ماشياً إلى المدينة يحمل معه كيساً من طعام ووعاء للوضوء.
فما وصل إلى المدينة حتى شحب لونه ونحف جسمه.. فسأله عمر: لمَ جئتَ ماشياً؟ أما أُعطيتَ من الإمارة دابة تركبها؟ فقال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم. فقال: وأين ما أتيت به لبيت المال؟ فقال: لم آت بشيء. لقد جمعت صلحاء أهل حمص وولّيتهم فَيئها فكانوا كلما جمعوا شيئاً استشرتهم فيه ووضعته في مواضعه وأنفقته على المستحقين!!.
فقال عمر لكاتبه: جدد عهداً لعمير على ولاية حمص. فقال عمير: هيهات. فإن ذلك شيئاً لا أريده، ولن أعمل لك ولا لأحد من بعدك يا أمير المؤمنين.
ثم استأذن عمير بالذهاب إلى قرية بجوار المدينة يقيم بها عند أهله فأذن له. وبعد وقت غير طويل أراد عمر أن يختبر عميراً فأرسل إليه من ينزل عليه ضيفاً ليتعرف إلى حاله، وأعطاه صرة فيها مئة دينار، وقال له: إن رأيته في نعمة ويسر فعد كما أتيت، وإن رأيته في شدة وعسر فأعطه هذه الصرة.
فلما وصل الرجل إلى عمير ونزل به ضيفاً وجده يعيش في فقر شديد وبؤس.
فدفع إليه الكيس وقال: هذا من أمير المؤمنين. قال: لا حاجة لي به. وسمعتْ زوجته الكلام فقالت: خذها يا عمير فإن احتجت إليها أنفقتها، وإلا وضعتَها في مواضعها، فالمحتاجون هنا كثير.
عندئذ ألقى الرجل بالصرة لعمير وانصرف. وقام عمير فقسم الدنانير في صرر صغيرة ولم يبتْ ليلته تلك إلا بعد أن وزعها بين ذوي الحاجات، وخص منهم أبناء الشهداء.
وبلغ الخبر عمر فأرسل إلى عمير وسأله: ما صنعت بالدنانير؟ فقال: وما عليك منها يا عمر بعد أن خرجتَ لي عنها؟ فقال: عزمتُ أن تخبرني! فقال: ادّخرتُها لنفسي لأنتفع بها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون... فدمعت عينا عمر وقال: أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ثم أمر له بوسق (حمل بعير) من الطعام وثوبين. فقال: أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين، فقد تركتُ عند أهلي صاعين من شعير، وإلى أن نأكلهما يكون الله عز وجل قد جاءنا بالرزق. وأما الثوبان فآخذهما لامرأتي فقد بلي ثوبُها وكادت تعرى!.
هل فينا اليوم مثل عمير؟!.
رحم الله عميراً ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
وسوم: العدد 792