د. مجاهد الجندي نموذجا
علماء الأمة لا يموتون
تفجعنا الأيام من حين لآخر بموت عالم مدقق، أو فقيه محقق، أو أديب حاذق أو مؤرخ سابق، أو غيرهم من الأحباب والأخيار، أو الأقارب والأصهار، وهذه هي طبيعة الحياة، فقد مات الصحابة الأطهار، والصالحون والأبرار، والعلماء والأحرار، ومن قبل ومن بعد، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، ورسول الله إلى الناس أجمعين. وأمام هذه الحقيقة الواضحة لا يستطيع أحد أن يدفع الموت عن نفسه فضلا عن غيره، فهو قدر الله الغالب، وسهمه النافذ، الذي سوى الله به بين الكبير والصغير والغني والفقير، والعالم والجاهل، والرئيس والمرؤوس، وصدق الله إذ يقول: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " الرحمن: 26، 27، ويقول: " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون"، القصص : 88 ويقول: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "، البقرة: 281.
وعلى هذا، فالموت مع أنه مصيبة كبرى وفجيعة عظمى، إلا أنه واقع لا محالة، فالمشكلة ليست في الموت، لكن المشكلة الحقيقية، هي أن هناك من يموت بالحياة، وهناك من يحيا بالموت، هناك من يموت وهو حي يرزق فوق التراب، وهناك من يحيا وهو ميت تحت الثرى، وعلماء الأمة الأجلاء، ورجالاتها الأوفياء، الذين أضاءوا بالعلم الطريق لطلابهم، ورفعوا بالعلم اللواء لبلادهم، وزاوجوا بين القديم والجديد في بحوثهم، وقدموا الثابت والمتغير في حياة أمتهم، من هذا النوع الأخير.
نعم العلماء العاملون، والفقهاء الربانيون، والباحثون المخلصون، تكتب لهم الحياة بالموت، لأن العلم لا يموت، ويظل ينتفع به بعد موت صاحبه، كما كان ينتفع به في حياته، ولا فرق في الانتفاع بالعلم بين حالة الموت وحالة الحياة، إنها إذا حياة أبدية للعلم وأهله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول، في بيان الأعمال التي تستمر في الحياة بعد موت صاحبها، ويستمر له أجرها، وتدر ثوابها له وإن كان تحت الثرى، أو مغيب في بطون القبور، ويجعل العلم من أهم هذه الأعمال الذي ينتفع بها ، فيقول فيما رواه الإمام مسلم في بَابُ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الثَّوَابِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ".
وصدق الشاعر حين يقول:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا فالناس موتى وأهل العلم أحياء
نعم " الناس موتى وأهل العلم أحياء"، فما أكثر علماء الأمة الأفذاذ الذين غيبهم الموت، وطواهم الردى، وشملهم البلى، وصارت أجسادهم ترابا تحت التراب، ومع ذلك ما زالت علومهم تدرس، ومذاهبهم تعلم، وآراؤهم تنير من الدنيا ظلامها، وتبدد لدى الناس حيرتهم، وتحل مشاكلهم، وتأخذ بيد المتشككين إلى ربهم، وتهدى المترددين إلى سواء السبيل.
ونحسب والله حسيبه، أن المرحوم أ. د. مجاهد الجندي من هذا النوع، حيث ترك علما ينتفع به، قدمه لطلابه في جامعة الأزهر، وساهم به في أعمال رابطة الجامعات الإسلامية، وعطر به أروقة المؤتمرات والندوات، ولعله من أهم ما كتبه رحمه الله ما جاء متصلا بتاريخ الأزهر الشريف حيث كان تخصصه التاريخ والحضارة الإسلامية، مثل بحث : " رواق الأتراك بالجامع الأزهر وعلاقة المماليك بالعثمانيين"، وبحث : " الأزهر ورحلة ألف عام: قراءة أولى في وثائق مجهولة"، وبحث " هيئة كبار العلماء صفحات مطوية من تاريخ الأزهر " وبحث " من شيوخ الإسلام العلامة سراج الدين البلقيني المتوفى سنة 805 هـ " وبحث " طلاب الأزهر من الرواق إلى مدينة البعوث " وبحث " المسجد الأقصى منذ الفتح الإسلامي والعهدة العمرية " وغير ذلك الكثير من الأبحاث والكتب، التي نشرت هنا وهناك في الكثير من المجلات المصرية والعربية .
وبناء على ذلك كله فمثله لا يموت، رحم الله عالمنا الجليل ومؤرخنا الفذ د. الجندي، وأسكنه الله الفردوس الأعلى، وجعل مكانه في أعلى عليين.
وسوم: العدد 808