الإمام حسن الهضيبي، معلّم الصمت الشامخ... والقائد الصامد الصابر
(1309 - 1393هـ / 1891 - 1973م)
توطئة
حين بدأت نشر الحلقات الأولى من (أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة) بمجلة المجتمع الكويتية الغراء، زارني الأخ الحاج عباس السيسي (رحمه الله) بمكة المكرمة، وأثنى على ما نُشر منها، وطلب مني الاستمرار لأهمية ذلك لشباب الدعوة والجيل الجديد الذي يجهل الكثير من هؤلاء الدعاة الأفذاذ.
وقد تساءل عن عدم الكتابة عن المجاهد الصامت والداعية الصابر الإمام حسن الهضيبي، الذي يأتي في مقدمة هؤلاء، وهو ممن تنطبق عليه الشروط الأربعة التي وضعتها لمن أكتب عنهم.
وكان الجواب: أنني أعجز من أن أكتب عن هذا الرجل، الذي أدهش الجميع بنفاذ بصيرته، وصلابة موقفه، وقوة إيمانه، واعتزازه بربه، واستهانته بما عداه من الأقزام والطواغيت، والفراعنة الصغار من المأجورين والمرتزقة.
لقد عايشت الرجل منذ تولى منصب المرشد العام للإخوان المسلمين، ولاحظت كما لاحظ غيري قلة كلامه، بل كثرة الإنصات والسماع لكل الآراء، ثم حسم الأمر بكلمات قصار موجزة كل الإيجاز، ولكنها تحمل في تضاعيفها الفهم العميق، والإدراك الدقيق للأمور وسداد الرأي.
ورغم أننا في فورة الحماس، كنا نطمح ونتوقع أن نستمع للخطيب الذي يهز مشاعرنا بقوة بلاغته، وفصاحة منطقه، وجزالة ألفاظه، لكننا فوجئنا بهذا الهدوء في النبرات، وقلة الكلام والحكمة في العبارات، والوضوح في المنطلقات، والدقة في الأحكام، والصدق في القول والالتزام بالعمل.
هذه الصفات التي تميز بها الإمام الهضيبي وعرفناها فيه من أول لقاء معه، لم تكن لترضي مشاعرنا الجيَّاشة بالعواطف وحماسنا المتدفق للانطلاق إلى الأمام دون تحفظ، حتى إذا مرت الأيام، وكثرت اللقاءات، أدركنا عمق الرجل وفهمه للأحداث والأشخاص، وفراسته في معرفة الرجال داخل الجماعة وخارجها، فكأن الله قد اختاره لهذه المرحلة الحرجة التي تتابعت فيها الأحداث الجسام لحرب الإسلام ودعاته من داخل البلاد وخارجها.
رجل المرحلة
ويومًا بعد يوم، يعود كل من خالف الإمام الهضيبي في مواقفه إلى التسليم بأن رأي الهضيبي هو الصواب، وأنه رجل المرحلة الذي وقف بكل عزة وشموخ أمام جبروت الطغاة ومؤامراتهم وكيدهم ومخططاتهم، ذلك هو الإمام حسن الهضيبي، وهذا هو السبب الذي جعلني أتردد في الكتابه عنه، لأنني دون المستوى، ولابد لمن هو أقدر مني أن يتصدى للحديث عنه، وبيان سيرته ممن عاشوا معه فترة السجن.
وبعد أن صدر الجزء الأول من كتابي، الذي تناولت فيه سيرة واحد وسبعين علمًا من أعلام الإسلام المعاصرين، وبعد أن أدركتني الشيخوخة وجدتني مطالبًا من داخلي بضرورة الكتابة عن هذا العلم البارز، والجبل الأشم؛ لأنني مدين له ولتلامذته بالكثير من الفضل، كما أنا مدين من قبل للإمام الشهيد حسن البنا مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وخشيت أن يدركني الموت ولما أكتب عنه فتكون في النفس حسرة من هذا التقصير نحو هذا الرجل العظيم.
لذا شرعت بتسطير هذه الكلمات التي أدرك أنها لن تفي بحق الرجل ولكنها جهد المقل، وبضاعة العاجز، فأقول وبالله التوفيق:
مولده ونشأته
هو حسن بن إسماعيل الهضيبي، من أعلام القضاة بمصر، والمرشد العام للإخوان المسلمين بعد الإمام الشهيد حسن البنا.
ولد سنة (1309هـ / 1891م)، في إحدى قرى محافظة القليوبية في مصر، من أسرة دين ووجاهة، تعلم في كُتَّاب القرية، وحفظ القرآن الكريم صغيرًا، والتحق بعدها بالأزهر، ثم تحول إلى الدراسة المدنية، حيث التحق بمدرسة الخديوية، وحصل على شهادة التخرج سنة 1324هـ/ 1915م.
عمل بعد تخرجه بالمحاماة، ثم بالقضاء بمدينة (قنا) 1343هـ/ 1924م، ثم تنقل في عدة بلدان حتى استقر في القاهرة، وعُرف بشدة النزاهة، والتحري في إحقاق الحق، ووصف بالتقدير والإكبار من زملائه ورؤسائه حتى ارتقى إلى مرتبة مستشار ممتاز بمحكمة النقض العليا، ولكنه استقال من القضاء بعد اختياره مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين.
لقاؤه الإمام البنا
التقـى الإمـام حسن البنـا، والتحـق بدعوة الإخـوان، واتخذه الـبنا صفـيَّـهُ ومستشاره، وموضع سره، وأوصى الإخـوان باستشارتـه والرجـوع إليه في حال غيابه، حيث قال: "لا يعلم إلا الله متى أعود، إن قدر لي أن أعود، فإن احتجتم في غيـابي إلى رأي فـالتمسوه عند حسن الـهضيبي بمحكمة الـنقض، فـإنني أحسبه مؤمنًا هادئًا صائب الرأي"
(الإمام حسن البنا: 2 فبراير 1949م).
وبعد قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في سنة 1368هـ 1948م، واغتيال الإمام حسن البنا 1369هـ 12/2/1949م، على يد المخابرات المصرية أيام الملك فاروق، رشح أعضاء الهيئة التأسيسية الأستاذ حسن الهضيبي مرشدًا عامًا للإخوان، فنزل على رأيهم وأُعلن في (1371هـ - 7/10/1951م) مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين.
وما إن مرّ عام بعد اختياره حتى حدث انقلاب 23/7/1952م، وظـن النـاس وكثير من الإخوان برجـال الثورة خيرًا، ولكـن الإمـام الهضيبي بنظـرته الثاقبة كان غير ذلك، فكان عبد الناصر شديد النقمة عليه، وأصر على إقالته وخلعه وراح يدبر المؤامرات ويشيع الفتنة، ولكن الله أخزاه ورد كيده في نحره.
ذهابه للحج
أدى الإمام الهضيبي فريضة الحج (1392هـ/ 1972م)، والتقى بمحبيه وتلامذته وإخوانه في رحاب المشاعر المقدسة، وقد أنهكته الشيخوخة، وترك التعذيب داخل السجن والمرض العضال في جسمه أقوى الآثار، وأصبح مجرد فكر وقّاد وروح مشرق ومثل حيّ للمجاهد المؤمن، وقد سعدتُ بلقائه في موسم الحج، حيث كان برفقته ابنه محمد المأمون الهضيبي - المرشد العام السابق - والدكتور أحمد الملط، وحضر الموسم قيادات الإخوان المسلمين في العالم، وكان لقاء مباركًا موفقًا ولله الحمد حيث أنعش الآمال وأعاد الحيوية لنشاط الإخوان في العالم كله.
شخصيته
كان الإمام الهضيبي (رحمه الله) مهيبًا، قوي الشخصية، هادئ الصوت، قليل الكلام، يسمع أكثر مما يتكلم، وكان قاضيًا في كل ما يتناوله من أمور، صلبًا في الحق لا يعرف أنصاف الحلول، ولا يرضى بها، يمتاز بعمق الفكر، وسداد النظر، يستبعد المصلحة الذاتية والمكاسب المؤقتة، ويترك المجاملة على حساب الدعوة.
قضية التكفير
كان له دور في حسم "قضية التكفير" التي اعتنقها بعض الشباب الذين ذاقوا ألوان العذاب، فأقنعهم بالحجة والدليل، وكتب كتابه "دعاة لا قضاة" فعدل الكثير عن رأيهم والتزموا الفكر الصحيح، وفاصل الذين أصروا على موقفهم مفاصلة واضحة، بأن يبحثوا لهم عن لافتة أخرى غير لافتة الإخوان المسلمين، ليعملوا تحتها.
انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين
كانت بداية انضمامه للإخوان المسلمين سنة 1943م ولكن هذا الانضمام لم يعلن لعموم الإخوان المسلمين، بل بقيت الصلة خفية لا يعلم بها سوى المرشد المؤسس الإمام الشهيد حسن البنا، وبعض خاصة الإخوان المسلمين، وقال بعد توليه قيادة الإخوان المسلمين:
"إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلاً واغتيالاً، وعذِّب أبناؤها وشردوا وأوذوا في سبيل الله، وقد لاقوا ما لاقوا، وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم جدارة بأن أخلف إمامنا المصلح حسن البنا (رحمه الله) لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان، أداء لحق الله (جل وعلا)، لا أبتغي إلا وجهه، ولا أستعين إلا بقدرته وقوته".
لقد رافق الإمام الهضيبي القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، حيث قرأه في كتّاب القرية فأحبه يافعًا، وشابًا، ووزن أعماله به وضبط سلوكه به والتزم بأمره ونهيه ووقف عند حدوده.
مواقفه
وهو أول من كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك عند حلف اليمين القانونية التي يؤديها القضاة أمام الملك قبل تولي منصب "المستشار"؛ إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين الدستوري رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين الذي يمارسه الديوان الملكي.
حتى إذا جاء دور الهضيبي الواهن البنية الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مد يده لمصافحة الملك، وأقسم اليمين مرفوع الجبين؛ فتبعه على ذلك كل من كان بعده من القضاة والمستشارين.
وبعد اختياره مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين، استدعاه الملك للاجتماع به، وبعدها كلف اثنين من كبار الحاشية الملكية لزيارة الهضيبي، وحمل صورة الملك لتعليقها في دار الإخوان المسلمين، وقبل حلول الموعد بساعة اتصل الهضيبي من بيته هاتفيًا بالأخ عبد الحكيم عابدين وكلفه بصرف مندوبي الملك عن المجيء، فقال الأخ: إن رد هذين ليس أمرًا سهلاً، بل قد يؤدي لتوريط الإخوان، فقال الأستاذ الهضيبي: "إنهما يريدان تعليق صورة الملك في دار الإخوان المسلمين، وهذا ما لا أفعله ولو قطعت يميني". فقال الأخ عابدين: "أرسلهما إليك في المنزل ولا حاجة لهذا الجفاء، وما عليك إلا أن تعتذر لهما بأن الإخوان قوم متزمتون يحرمون التصوير. وسأبادر الآن إلى رفع صور الإمام الشهيد من غرف المركز العام حتى يستقيم الاعتذار".
فقال الهضيبي للأخ عابدين: "يرحم الله أباك، وأنا لهما في الانتظار".
وحين شنَّ عبد الناصر وزبانيته حملة الكذب والبهتان على الإخوان، وسلّط عليهم إعلامه المسعور، أرسل له الإمام الهضيبي الخطاب الذي جاء فيه:
"فإني لا زلت أحييك بتحية الإسلام، وأقرئك السلام، ولا زلت ترد على التحية بالشتائم واتهام السرائر، واختلاق الوقائع، وإخفاء الحقائق، والكلام المعاد، الذي سبق لكم قوله، والاعتذار عنه. وليس ذلك من أدب الإسلام، ولا من شيم الكرام، ولست أطمع في نصحك بأن تلزم الحق، فذلك أمر عسير، وأنت حر في أن تلقى الله تعالى على ما تريد أن تلقاه عليه، ولكني أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها وكتم أنفاسها، وأنها في حاجة إلى بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير.
إن الأمة في حاجة الآن إلى القوت الضروري، القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب، إنها في حاجة إلى حرية القول، فمهما قلتم إنكم أغدقتم عليها من خير فإنها لن تصدق إلا إذا سمحتم لها بأن تقول أين الخير وسمحتم بأن تراه، ومهما قلتم إنكم تحكمونها حكمًا ديمقراطيًا فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام والتعبير عن الرأي.
إن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها فأعيدوا إليها حقها في الحياة، وإذا كان الغضب على الهضيبي وعلى الإخوان المسلمين قد أخذ منكم كل مأخذ فلكم الحق أن تغضبوا وهذا شأنكم ولكن لا حق لكم في أن تحرضوا الناس على الإخوان وتغروهم بهم، وليس ذلك من كياسة رؤساء الوزراء في شيء، فإنه قد يؤدي إلى شر مستطير وبلاء كبير، ومن واجبكم أن تحافظوا على الناس مخطئهم ومصيبهم، وأن تجمعوا شمل الأمة على كلمة سواء. وإنكم لا شك تعلمون أن الإخوان المسلمين حملة عقيدة، ليس من الهيّن أن يتركوها ولا يتركوا الدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلاً، فإغراء بعض الأمة بهم وتحريضهم عليهم من الأمور التي لا تؤمن عواقبها".
سجنه وصبره
اعتقل لأول مرة يوم 13/1/1954م، ووُضع في زنزانة انفرادية وكان الجو باردًا زمهريرًا ترتعد منه أجسام الإخوان الشباب، فكيف بالشيخ الوقور الذي جاوز الستين! فعمد الأخ عبد الحكيم عابدين بإرسال فروة للأستاذ الهضيبي، وإذا به يعيدها، وحين عوتب على إرجاعها قال: "يا عبد الحكيم لقد شُفيت والله ببرد هذه الزنزانة من كل ما أثقلني من هذه الأمراض في غابر الأيام".
وكان الأستاذ الهضيبي يمارس تمارينه الرياضية في مواجهة مكتب مدير السجن، ولما سأله أحد الإخوان مستغربًا عن سر ذلك، قال: "دعهم لا يرون منا إلا البشاشة وارتفاع المعنوية، حتى يتحققوا أن سهامهم طاشت ولم يبلغوا منا ما يريدون ألم يبلغك قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) رحم الله امرءًا أراهم من نفسه قوة"؟
وحين حصلت اعتقالات صيف 1954م كان الأستاذ الهضيبي خارج مصر في سورية ولبنان، فما كاد يسمع بالاعتقالات حتى أسرع بالعودة إلى مصر ليسجن مع إخوانه ويواجه مع زوجته وأبنائه وبناته ما يواجهه الجميع ثم ليجري الله عليه الثبات والشموخ وليكون عونًا وردءًا لإخوانه وجنوده.
قالوا عنه
يقول المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني (رحمه الله):
"إذا كان حسن البنا قد مضى إلى ربه وترك النبتة يانعة فتية، فقد كان حسن الهضيبي مشعل عصره، يوم حمل الراية حريصًا لم يفرط، عزيزًا لم يلن، كريمًا لم يهن، وأدى الأمانة أمينًا في عزم، قويًا في حزم، ثابت الخُطا في فهم، فأكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يثنه حبل المشنقة، ولم يرهبه سجن ولا تعذيب، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود".
ويقول الشيخ محمد الغزالي:
"إنه ما ادعى لنفسه العصمة، بل من حق الرجل أن أقول عنه: إنه لم يسع لقيادة الإخوان، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وإن من الظلم تحميله أخطاء هيئة كبيرة مليئة بشتى النزعات والأهواء.. ومن حقه أن يعرف الناس عنه أنه تحمل بصلابة وبأس كل ما نزل به، فلم يجزع ولم يتراجع، وبقي في شيخوخته المثقلة عميق الإيمان، واسع الأمل، حتى خرج من السجن.
الحق يُقال، إن صبره الذي أعز الإيمان، رفعه في نفسي، وإن المآسي التي نزلت به وبأسرته لم تفقده صدق الحكم على الأمور، ولم تبعده عن منهج الجماعة الإسلامية منذ بدء تاريخنا.. على حين خرج من السجن أناس لم تبق المصائب لهم عقلاً.. وقد ذهبت إليه بعد ذهاب محنته، وأصلحت ما بيني وبينه، ويغفر الله لنا أجمعين".
ويقول عنه الصحفي مصطفى أمين:
"أعجبت بصموده، انهالت عليه الضربات فلم يركع، حاصرته المصائب فلم ييأس، تلقى الطعنات من الخلف والأمام فلم يسقط على الأرض، كان يحلم وكل من حوله يائسون، كان قويًا وأنصاره ينفضون ويستضعفون.
رأيته في محنته أكبر منه في مجده، سقط من المقعد واقفًا وغيره فوق المقعد راكعًا، رأيته يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا السلطان.
الرجال كالمعادن لا تظهر قيمتهم إلا إذا وُضعوا في النار، هنا يظهر الفرق بين الرجل الحديدي والرجل القش، بين الذي يموت واقفًا والذي يعيش راكعًا، بين الذي يكبر في الشدائد والذي يتضاءل في المحن والأزمات.
رأيته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة، ينام على الإسفلت وكأنه ينام على مرتبة من ريش النعام، يأكل الخبز الممزوج بالتراب ويحمد الله كأنه تناول طعامًا على مائدة ملكية.. تعارضه فلا يغضب، تناقشه فلا يحقد.. يتقبل النقد بصدر رحب، ويستقبل الثناء بخجل وحياء.. لا يجحد لفاضل فضله، ولا يذكر إنسانًا بسوء، إذا جاء ذكر من طعنه بخنجر في ظهره، لا يلعنه ولكن يقول "سامحه الله".
عشت معه سنوات طويلة، كان بين زنزانته وزنزانتي زنزانة واحدة، كنت أراه كلما فتحوا باب زنزانتي.. وكانت بينه وبين المسجونين السياسيين مناقشات طويلة... كانوا عددًا من المسجونين الذين عُذبوا وصلبوا وضربوا وأهينوا وانتهكت أعراضهم، كانوا يصرّون على الثأر والانتقام من معذبيهم، بعد أن يخرجوا إلى الحرية.. سيفعلون بهم ما فعلوه فيهم.. سيذيقونهم من نفس الكأس التي أرغموهم على تجرعها.. كان يعارضهم ويقول لهم: "هذه مهمة الله وليست مهمتنا.. نحن دعاة ولسنا قضاة".. كانوا يحتدون فيهدأ.. ويشتدون ويلين، ويرفعون أصواتهم ويخفض صوته ويهاجمونه فيبتسم... ويتطاولون عليه فيقول لهم: هذا حقكم، لا ألوم المجلود إذا صرخ من ألم السياط، لا أعاتب المطعون بالسيف إذا وقع بعض دمه على ثيابي، لا أطلب منكم أن تعفوا وإنما أرجوكم أن تتركوا الأمر لله؛ فهو المنتقم الجبار، عذاب الله على الظالم أقسى من كل ما تستطيعون من عذاب... لا أريد أن نتساوى نحن المظلومين مع من ظلمونا، بطشوا فنبطش بهم.. ظلموا فنظلمهم.. واجبنا أن نقابل الظلم بالعدل، والقسوة بالرحمة، والجبروت بالتسامح، والعدوان بالصلاة".
كان متمسكًا بدينه بغير تعصب، مؤمنًا بالعدل كارهًا للظلم، يرفض العنف ويقول ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان؟!.
ما حاجتنا للقنبلة ودوي أصوات المظلومين أعلى من انفجار الديناميت!
كان اسم هذا الرجل هو حسن الهضيبي... عليه رحمة الله..." انتهى.
كتبت مجلة روز اليوسف سنة 1951م:
حين أشيع عن اختيار الهضيبي مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين تقول:
"عندما كان المستشار الأستاذ الهضيبي رئيسًا بمحكمة الجنايات في سوهاج، وكان يترافع عن القاتل محام كبير وشقيق لوزير العدل يومئذ، وفي الاستراحة زاره المحامي الكبي،ر ورحب به الأستاذ الهضيبي، وطلب من الساعي إحضار فنجان من القهوة له.. سأل المحامي الكبير: لعل سيادة المستشار مستريح في الصعيد؟ وأجاب المستشار الهضيبي: إن مهمة القاضي تحقيق العدل، والعدل لا يتقيد بزمان أو مكان. قال المحامي: غدًا سوف أتناول الغداء مع أخي وزير العدل، وأنا مستعد لأطلب منه العمل على راحتكم.. وهنا ثار الأستاذ الهضيبي وهبّ واقفًا وقال للمحامي الكبير: تفضل يا أستاذ.. أجئت تساومني؟!! وهنا كان الساعي قد أحضر فنجـان القهوة فـاتجه الأستاذ الهضيبي نحوه وقـال له: عُد بـالقهوة.. وخـرج المحامي الكبير شقيق وزيـر العدل مـصفر الوجه!!" انتهى.
ويقول عنه الأخ د. أحمد العسال:
"لقد كان الإسلام يملأ جوانحه وأخلاقه، ويعرف أن الفقر الأخلاقي هو الداء العضال في هذه الأمة، وعدم مراقبة الله وخشيته هي الداهية الدهياء، وإن رسوخ هذه المعاني في نفسه جعله لا يحفل بالمظاهر مهما كان نوعها، ويرنو ببصره وبصيرته إلى المعايير السليمة، فيزن الرجال والمواقف، وكان يعرف أن الزمن جزء من العلاج، وكان لا يحب تعجل الأمور ولا اعتساف الحلول، كما كان يكره المهاترات وينأى بنفسه عن الصغائر، وكان يدفع بالتي هي أحسن، ولا يحمل في نفسه الكبيرة إلا الخير للجميع، كان تواضعه وسماحته وبساطته مضرب الأمثال، فرغم مستواه الاجتماعي، وتقلده المناصب العليا في القضاء يرفض التكلف والمظاهر ويهتم بالأعمال والحقائق.
ولما ذهب للحج سنة 1392هـ/ 1972م بعد المحن المتتابعة التي رآها، والسنين العجاف التي قضاها، والشيخوخة التي وصل إليها، أشفق إخوانه وأحباؤه عليه وتمنوا أن يقبل النزول في فندق من الفنادق الكبيرة، لتكون الراحة أكمل والخدمة أحسن، فرفض وأبى إلا أن ينزل في المخيم العادي، وينام في الخيمة العادية، وتلك هي النفس الكبيرة والقيادة الأمينة.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجساد
انتهى (مجلة الشهاب اللبنانية 1و2/11/1393هـ).
ويروي الأستاذ عبد الحكيم عابدين قائلاً:
"أعدّ مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين سنة 1952م مذكرة لتقديمها لوزارة الدكتور علي ماهر، وكان في آخر المذكرة عبارة "في ظل جلالة الملك المعظم" فضرب بقلمه على هذه العبارة وشطبها. ولما قلت له: إن هذه العبارة تقليدية، وقد أقرها مكتب الإرشاد العام قال: "احذفها على مسؤوليتي وحسبنا والملك والوزارة أن نكون في ظل الله وحده". كما يروي عبد الحكيم عابدين قصة زيارة الأستاذ الهضيبي لابنه هشام عبد الحكيم عابدين في مستشفى عبد الوهاب مورو حيث كان راقدًا للعلاج، واقتراحه أن يقوم المرشد الهضيبي بزيارة رئيس الديوان الملكي الذي يرقد في نفس المستشفى، فأجاب الهضيبي: يا عبدالحكيم لقد قصدت الله تعالى بعيادةولدنا هشام ولم أقصد الملك بزيارة رئيس الديوان".. انتهى.
(مجلة الشهاب اللبنانية سنة 1393هـ).
ويُروى أن شمس بدران - مدير السجن الحربي - سأل الأستاذ الهضيبي عن اسمه وعمله ليملأ استمارة السجن، فكان جواب المرشد العام الهضيبي: اسمي: حسن إسماعيل الهضيبي، وعملي: المرشد العام للإخوان المسلمين. فهبّ شمس بدران غاضبًا وقال: ألم تحل الدولة جماعة الإخوان المسلمين؟ فأجابه الأستاذ الهضيبي: لقد حلت الدولة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، أما أنا فالمرشد العام للإخوان في العالم. فبهت شمس بدران.
صلته بالإخوان
تعود بداية اتصال الهضيبي بالإخوان المسلمين إلى سنة 1942م، حيث لفت انتباهه ما كان يجري بينه وبين بعض الشباب من أقاربه، من حسن تفهمهم للقضايا المطروحة على الرغم من أن معظمهم كانوا شبه أميين، ولما سألهم عن هذا التفكير الناضج والوعي العميق قالوا: من انتسابنا لجماعة الإخوان المسلمين، فكان هذا حافزًا له لحضور خطب الإمام الشهيد حسن البنا. وفي صيف 1943م، وكان قاضيًا بمحكمة الزقازيق، وصلت إليه رقعة دعوة من الإخوان لحضور حفل الإخوان الذي سيخطب فيه الأستاذ حسن البنا، فلبّى الدعوة مع بعض القضاة واستمع إليه بإصغاء، وما إن انتهى البنا من حديثه حتى كان بينه وبين الهضيبي بيعة للعمل للإسلام.
يقول الهضيبي:
"لقد تعلقت أبصارنا به، ولم نجد لأنفسنا فكاكًا من ذلك، وخلت والله أن هالة من نور أو مغناطيسًا بوجهه الكريم تزيد الانجذاب إليه، خطب ساعة وأربعين دقيقة، وكان شعورنا فيها شعور الخوف من أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا بها، ذلك الوقت، إن كلامه يخرج من القلب إلى القلب، شأن المتكلم إذا أخلص النية لله.. وما أذكر أنني سمعت خطيبًا قبله، إلا تمنيت على الله أن ينتهي كلامه في أقرب وقت، كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء لا علو ولا انخفاض، يخاطب الشعور فيلهبه، والقلب فيملؤه، والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا".
ومنذ تلك اللحظة تعلق الأستاذ الهضيبي بالأستاذ البنا، وقويت الرابطة بينهما ولكنها ظلت في إطار الكتمان لا العلانية، حيث لم يعلم بتلك الصلة إلا القلة من الإخوان القريبين من الإمام الشهيد البنا، ومن هنا نجد الإمام البنا يوم 2 فبراير 1949م، أي قبل استشهاده بعشرة أيام يوصي الإخوان المسلمين بالرجوع إلى الأستاذ الهضيبي عند حاجتهم للمشورة والرأي.
من أقواله
قال لعبد الناصر: إن هؤلاء الإخوان المسلمين هم خيرة شباب مصر، فاحفظوهم ذخيرة لها، وخذوا مني ما تريدون.
وكان يقول للإخوان: إن السجن حالة نفسية وليس هو الجدران والأسلاك. أقيموا دولة الإسلام في صدوركم تقم على أرضكم، ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على من سواها أقدر.
وفاته
توفي في مصر صباح يوم الخميس (14 من شوال 1393هـ 8/11/1973م)، وجاء في وصيته التي كتبها وهو على فراش الموت بألا يُنعى، وأن يُدفن فور موته في مقابر الصدقات.
رحم الله أستاذنا الهضيبي وأسكنه فسيح جناته وألحقنا به مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 846