نعمَّا رجالٌ عرفتهم الأستاذ الدكتور فهمي توفيق مقبل رحمه الله 1944-2016م
في حفل تكريم أسناذنا القدير الدكتور فهمي توفيق مقبل رحمه الله الذي أقامه له مشكوراً الأستاذ الفاضل محمد صالح النعيم راعي اثنينية النعيم الثقافية مساء الخميس12/4/2007م بحضور صفوة من الأدباء والعلماء والشعراء والباحثين الذين يعرفون بمكانتهم العلمية والفكرية الرفيعة حيث ألقوا كلماتٍ صادقة بماعرفوه عن هذا الرجل الفاضل وألقوا بحوثاً محكمة كشهادات في حقه تتناول مؤلفاته وآثاره ومنهج د.فهمي مقبل ونهجه
ودراساته التاريخية والفكرية والثقافية القيمة وفي هذا الحفل قبل أربعة عشرعاماً كاملة ألقى الشاعر الأريب والأديب النَّجيب والأخ الحبيب الأستاذ بسام دعيس أبو شرخ حفظه الله قصيدةً رائعة اخترتُ منها هذه الأبيات :
هذه الأبيات الصَّادقة المُنسابةُ كشلَّالِ ماءٍ عذبٍ بماتحملهُ من أحاسيس مُرهفة ،ومشاعرَ مُتألِّقة ،ومعانٍ مشرقة، من شاعرنا القدير بسام دعيس حفظه الله أصابَ ريُّها القلوب ،وأندى رذاذُها الحنايا، لصدقها ،وجمالها ،ونفحها، وطيبها، وعُذوبتها ،ونقائها ،ونِعِمَّا ماقال شاعرنا فيه، فأستانا القدير د.فهمي توفيق مقبل رحمه الله أستاذ التاريخ سابقاً في جامعة الملك فيصل شخصيَّةٌ فَذَّةٌ ، وعلمٌ من أعلام الفكرِ والثَّقافة ، وهامةٌ من هامات الأمة وقاماتها العلمية والثقافية والتَّاريخية والحضارية.
وقد أقيم له في نفس العام بتاريخ ٣/٦/ ٢٠٠٧م حفل تكريمٍ آخر في أحدية المبارك برعاية سفير الأدباء وأديب السُّفراء الشيخ الجليل أحمد بن علي آل الشيخ مبارك في منتداه الثقافي في الأحساء حضرها ثلةٌ من الأدباء والشعراء والمفكرين ومحبي د. فهمي احتفاءً بالمؤرخ المفكر الأديب الإنسان تحت عنوان فهمي مقبل مؤرخاً وأديباً إنساناً ألقي فيها العديد من الشهادات والبحوث والدراسات بحقه .
والحقُّ أنَّ الدكتور فهمي مقبل رحمه الله قد برَّز في مجالاتٍ عديدة وخصوصاً في مجاله العلميِّ والتعليميِّ والبحثيِّ حيث كان لايكلُّ ولايملُّ في البحث والجِدِّ والعملِ والتَّأليف أجل كان هذا دأبُه ليترك لنا بصماتٍ مميَّزةٍ في المجال التاريخي والثَّقافيِّ ،وفي المجالِ الإنسانيِّ والحضاريِّ ،وفي المجال الأدبيِّ والفكريِّ مقدِّماً أكثر من ستين مؤلَّفاً خدمت الثقافة والتاريخ والمعارف والحضارة ، لنراهُ عالماً فّذَّاً ، ومُؤَرِّخاً جَهْبَذاً ، وأديباً مُبدعاً ، ومُفَكِّراً عَلَماً، وباحثاً مُحَكَّماً ،وإنساناً إنساناً مرهف الأحاسيس ،دافِئ المشاعر ، عظيم الشَّفافية، فاعلاً ومنفعلاً مع قضايا أمَّته، مشغولاً بها لتراهُ كأنَّ همومَ الأمَّة جاثمةٌ فوق رأسه وكأنَّ أبا الطَّيب المتنبي عَنَاهُ حين قال:
عرفناهُ أباً حانياً، وأخاً بَرَّاً ، وأستاذاً بارعاً ، ومحاضراً ساحراً، وباحثاً مُسَدَّدَاً، وجليساً كريماً ، وضيفاً عزيزاً، وزائراً أنيساً أحبَّ الدِّين والعروبة والإسلام ،وعشق الوطنَ والحضارة ، هواهُ القدس والطُّهرُ ورفعة الإنسانية، وارتقاء الأمة المجد ببلوغ مراقي الحضارة ،لذلك لاغرو إن أطلق عليه البعض (عاشق العروبة والإسلام والحضارة).
رسم بيراعة قلمه، وجمال بيانه ،وروعة أسلوبه، لوحةً فكريةً ثقافية حضاريةً إنسانية باهرة، حيث ناهزت مؤلَّفاته وربت عن ستين كتاباً أجل
ولايزالُ النَّهرُ المُتَدَفِّقً بالعطاء يجري بنا حاملاً معه الزَّمانَ والمكانَ والتَّاريخ والحضارة مشاعلَ ومناراتٍ على الطريق ليقول في إحدى عباراته:
(إنَّ ماضي أُمَّتنا الغنيِّ بحضارتها وفكرها الإنساني العالمي هو المُلهمُ لنا في هذه الأزمان العصيبة)
فهو متيقِّنٌ بحتميَّةِ النُّهوض رغم الظُّلم والظَّلام ،والقهر والاحتلال، فالإشراقُ قادم ،والنَّصرُ قريب ،والفَرَجُ في الآفاق.
هذا العَلَمُ الجَهْبَذُ الَّذي تفتخر الأممُ بأمثاله ، وترفع الشُّعوبُ هامتها بمعشاره ....فكيف بمثله رحمه الله ؟!وماذا عساي أقولُ في حقِّه ؟! وبياني عاجزٌ عن بلوغ المُرادولكني أقولُ كما قُلتُ في حفل تكريمه في كلمتي وأنا بين قاماتٍ وهاماتٍ،أدباء وشعراء ،علماءَ ومفكِّرين سيدلونَ بدلوهم في تكريمه لأقول :
فحسبي من السِّوارُ دُرَّةً مما أحاط بالعًنُقِ.
فكم استمعنا واستمتعنا بما يُتْحِفُنا به أستاذنا القدير د.فهمي مقبل رحمه الله في محاضراته وندواته، ومداخلاته ومشاركاته ،وكذلك في مسامراته وزياراته ،سواء كان ذلك في المجالس الأدبية أو المنتديات الثقافية أو المحاضرات العامة لتراه كالبحر حيث كان في ثقافته ومعرفته، وكالنَّهر المُتدفِّق في عطاءاته ورِفْدِه أدباً وحكمة،عبرةً وفائدة.
كان شُعلةَ نشاطٍ حيث حلَّ سواًءً كان حينما درَّس في كلية الآداب في جامعة قسنطينة في الجزائر 1983 -1984 أو في جامعة الملك فيصل حيث مكث ماينيف عن عقدين ويزيد من 1984-2007م أو في الأردن حينما عاد إليها ليدرس في كلية التربية جامعة البتراء في عمَّان 2003-وحتى قبيل وفاته رحمه الله 2016م وكنت على تواصلٍ معه بعدما سافر إلى الأردن وقبيل وفاته بقليل أقيم له حفل تكريمٍ في اتحاد الكتاب العرب في الأردن وقد أعلمني بذلك ووددت لوكتبت عنه في حفل تكريمه هناك ولكن فاتني ذلك الشَّرف ،وجاء القدر المحتوم ووافته المنية رحمه الله ،ووفاءً لهذا الرجل، وتقديراً له ولإسهاماته، وإبداعاته ،وإشراقاته ،فإني أحاولُ أن أفيَ بمقالي له بعضاً من حقِّه عليَّ ،ونِعِمَّا هو وماكان ،وماقدَّم لأمته وقومه ،لقدسه ووطنه ، ولايزالُ صدى حديثه يتردَّدُ في آذان كل من حضروا محاضراته وندواته ،ومشاركاته ،ولفتاته رحمه الله. ولازلت أذكر بعض كتبه وخصوصاً (فضل العرب والمسلمين في اكتشاف العالم الجديد )أي أمريكا وكذلك (حق العرب والمسلمين في القدس وفلسطين )والذي دحض فيه مزاعم بني صهيون في أيِّ إرثٍ لهم بذرَّةٍ من الأرض المقدَّسة المباركة وقد سخَّر أستاذنا القدير الدكتور فهمي مقبل يراعه وعلمه، وأدبه وثقافته، ودراساته ونتاجَهُ ،لدفع الأباطيل ،ودرء الافتراءات الماكرة عن الأمة من أجل نصرة قضاياها ،بل اتَّخذَ من علم التَّاريخ مطيَّةً لإحياء حاضر الأمة ،والنُّهوض بها، وإحياء تراثها، وكنوزها الثَّمينة ،وكان أن سعى إلى إبراز عظماء الأمة وعلمائها وأبطالها ،ورجالاتها عبر التاريخ الإسلامي ،مسطِّراً سيرتهم بسطورٍ من نور ، ومُجسِّداً قصصهم للأجيال مناراتً ومشاعل من نور لإحياء ذكرهم ،وتخليد مجدهم، للنهوض بواقع أمتهم ،وذلك عبر المُثُلِ والنَّماذج ،ليرسم لنا صورةً وضيئةً للسَّلف الصَّالح الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم، ونفوسهم وحياتهم ،ليصل إلينا هذا الدين العظيم ،أجل كان دأبهُ ذكر سيرة السَّلفِ الوضيئة لإحياء واقع الخَلَف ...فالأمَّة زاخرةٌ عامرة برجالاتها وقاماتها وعظمائها وأبطالها وهاماتها وقُوَّادها، وقلَّ لأمَّةٍ أن يكون لها مثلهم، ولاتتسع الموسوعات لذكرهم.
وقد جمع أستاذنا الدكتور فهمي مقبل تراجمه لبعض الأعلام في كتابه القيم ( من أعلام الحضارة العربية والإسلامية) وكذلك في(رؤىً ثقافية وفكرية )في جزأين تضمَّن الكتاب في الجزء الأول تراجم لواحدٍ وعشرين علماً من أعلام الأمة مبتدأً بأم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مسمياً إياها بمدرسة الرسول الأولى ثم ترجم لأئمة الفقه الإسلامي الأربعة كما ترجم للإمام أبي حامد الغزالي
ومن العلماء ترجم لجابر بن حيان، والخوارزمي ،والحسن بن الهيثم ،وابن البيطار، وابن النَّفيس، وغياث الدين الكاشي، ومن الرَّحالة ابن بطوطة، والإدريسي، وترجم لأبي الفداء الحموي، وصلاح الدين الأيوبي ،كما ترجم للسلطان سليمان القانوني في كتابه( سليمان القانوني وأثرهُ في تاريخ الشرق والغرب )كما ترجم لدعاة الإصلاح في العصر الحديث أمثال جمال الدين الأفغاني ،ومحمد عبده ،وعبد الرحمن الكواكبي ،ومحمد رشيد رضا ،فكان في كتبه يسكب سحر بيانه بيراعته ،وبراعة أسلوبه، وجميل أدبه فانظروا إلى حديثه وسكبه وأدبه وغفنه في حديثه عن أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول:
" سيدة نساء العالمين في عصرها وماتلاها من العصور وكرِّ الدُّهور، أطهرُ وأكملُ نساء قريش ،وأولى أمَّهاتِ المؤمنين ،وفيها ومنها ابتدأ الطُّهرُ مسارَهُ ,وامتطى الخيل ركابه، وانبلج النُّور ،وانطلق الفِكرُ، وفكَّ الزَّمانُ قُيودَهُ، واخضوضرتِ الأرض بفيضها وحنانها وطيب أنفاسها ، إنَّها الأمُّ لكلِّ من ليس له أم، والأختُ لكلِّ من ليس له أختْ، وهي الأهل لكلِّ من ليس له أهل،أمُّ كل يتيم ، وعزاءُ كلِّ تقيٍ كريم، وقدوةُ كلِّّ مؤمنٍ نبيل، ومدرسةُ الدُّنيا والدِّين،عندها انتهى يُتمُ خير الأنام، وإمام المرسلين حين أصبحت أولَ أزواجه، وأولَ من آمن به إذ كفر به النَّاس، وصدَّقَتْهُ إذ كذَّبهُ النَّاس ، وواستهُ إذ حرمه الناس،وآوتهُ إذ رفضه النَّاس،ورزقه الله منها الولدَ دون غيرها من النِّساء،وفوق ذلك كلِّه عوَّضته أمَّهُ وأباه،وأختهُ وأخاه، وأهلهُ وقومه ومن آواه، فكانت عالمَهُ الأثير ، وقمره المنير، وشمسه النَّضير، وسراجَهُ الوهَّاج، وماءه الثَّجَّاج، ونجمَهُ الدَّليل ، وفيأهُ الظَّليل ، وسكنَهُ الأثيل ،وحُبَّهُ الأصيل الأول والأخير"
سكبٌ كالدُّرِّ، وترجمةٌ بالمسك والعطر، وحسٌ كوابل القطر في ترجمة السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ومن سمات كتاباته إضافةً إلى سمو لغته وسحر بيانه استشهاده بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وكذلك استشهاده برقائق الأدب ولطائف الشعر العربي وتألُّقاته في مختلف العصورمن ذلك قوله في ختام ترجمته لأم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها
وفي ختام ترجمته للإمام مالك يقول:
ولازلت أذكر أبياتاً كان يُردِّدها دائماً لإيليا أبوماضي ومازال صداها بصوته في أذني وتعابير وجهه كأنها ماثلةً أمامي حيث يقول:
ولازلت أذكرُ وصف الفدائي لابراهيم طوقان من فمه بأجمل تعابير ،وأصدق الأحاسيس ،مع جمال الإلقاء وعنصر الدهشة فيه
***
***
الله الله الله الله
معرفتي بأستاذنا الدكتور فهمي مقبل أخينا الحبيب ،وجارنا القريب قديمة مُذ قدم إلى المملكة عام 1984م حيث كان لي شرف مجاورته في سكنه في حي الشُّروفية في المبرَّز في الأحساء لسنواتٍ طويلة ،وكان كلانا جاراً لمسجد الصويغ، وماأبهى ذلك المسجد ....وأجمل إشراقاته.
وكذلك كان لي شرف مجاورته في الأردن في إربد، حيث اشتريت قبل شقةً قرب جامع السامرائي هناك، حيث حظيت بزيارته لي ،وشرفتُ بزيارته في بيته في إربد ،رحمه الله كان بحق نعمَّا الأخُ والصَّديقُ ، ونعم الخِلُّ والجار ،و كان كما خبرته وعرفته متفانياً في الذودِ عن أمته ،مُتحرِّقاً على واقعها ،كما كان مخلصاً وفيَّاً في صداقاته وعلاقاته ،وقد جمعتني به رحمه الله أخوَّةٌ حميمة ،وصداقةٌ متينة، وجيرةٌ عزيزة ، وهمٌ مشتركٌ نحمله بين جوانحنا ،ماانقطعنا عن بعضنا رحمه الله كان كتلةً متحرِّكةً من المشاعر والأحاسيس ،عالماً من عوالم الصِّدق والوفاء،بحراً زاخراً بشتى العلوم والثَّقافات ،معلماً من معالم التاريخ والحضارة، لأختتم بما قاله أستاذنا القدير ،وأخونا الحبيب الدكتور بسيم عبد العظيم من فيوض مشاعره ومن فرات قلبه بقوله عنه:
ومضى يُحاولُ جاهداً ومُجاهِداً ليَصُدَّ عنها عاتيَ الهَجَماتِ
رحم الله أستاذنا القدير، وباحثنا المحكَّم، وعالمنا الجليل، ومؤرخنا الجهبذ الأستاذ الدكتور فهمي توفيق مقبل رحمه الله وطيب ثراه وأحسن مثواه وتقبَّله في علِّيين والحمد لله ربِّ العالمين
وسوم: العدد 867