محدث حلب ومؤرخها الشيخ محمد راغِب الطَّبَّاخ
*اسمه ونسبه: هو محمد راغب بن محمود بن الشيخ هاشم بن أحمد بن محمد الطباخ الحلبي الحنفي؛ أبو محمد، وأبو توفيق: العلامة المؤرخ البارع المُسنِد، مؤرخ حلب ومحدثها وفقيهها، وشيخ شيوخها، وأستاذ الأجيال فيها، ومن كبار علمائها ومؤلفيها وفضلائها.
*مولده: ولد في 18/ ذي الحجة 1293هـ، بمدينة "حلب الشهباء"؛ في حي من أحيائها العريقة الشهيرة هو "باب قنسرين"، وتوفي بحلب.
*دراسته وتعليمه: حفظ القرآن وختمه وهو في الثامنة.
*ثم شرع في تعلم القراءة والكتابة على الشيخ "محمد العَرِّيف" الخطاط الحلبي المشهور؛ "شيخ الأشرفية".
*دخل "المدرسة المنصورية" بمحلة "الفرافرة" سنة 1304هـ، ونال شهادتها الابتدائية في ذي القعدة 1306هـ - 1888م.
*حجته الأولى في الرابعة عشرة: وفي سنة 1307هـ في شهر ذي القعدة توجه مع والده "محمود" رحمه الله تعالى إلى الحجاز الشريف، فأدَّيَا فريضة الحج، وعادا منه في الثامن من جمادى الأولى سنة 1308هـ.
1
*ثم درس في "المدرسة الشعبانية" لسنة واحدة هي 1308هـ؛ فحفظ فيها بعض المتون العلمية، وأجازه أشياخه فيها كالشيخ محمد كلزية، والشيخ خالد الجزماتي وسواهم، ثم اضطر لتركها لوفاة والده سنة 1309هـ، وليعمل بالتجارة ليعول إخوته.
*في سنة 1310هـ عاد إلى طلب العلم، بعد حَثِّ والدته ودعائها له؛ فأقبل عليه بهمة ونشاط كبيرين؛ فحفظ "الآجرومية"، و"ألفية ابن مالك"، و"البيقونية"، و"مراقي الفلاح"، و"السمرقندية في الاستعارات"، و"متن قطر الندى لابن هشام"، و"السنوسية في التوحيد"، و"الجوهر المكنون في المعاني والبيان والبديع"، و"السُّلَّم المُنورق في المنطق"، ونحو نصف العبادات من "متن تنوير الأبصار"، و"نظم خلاصة الفرائض"، وغيرها.
وجاور في "جامع الحاج موسى" في محلة "السُّوَيقة" بحلب، واشتغل بشرح محفوظاته، وقرأ على شيوخه في فنون النحو والصرف، والتوحيد، ومصطلح الحديث، والمنطق، ومتون الحديث، وبعض شروحه، والفقه الحنفي وأصوله، والبلاغة والعروض والقوافي، وآداب البحث.
*كما طالع أثناء تحصيله العلمي وبعده في العديد من الكتب والرسائل.
*أبرز شيوخه:
1- ابن خاله العلامة النحوي الشيخ محمد بن محمد كلزيَّة ت 1366هـ.
2- العلامة الفقيه الشيخ محمد أفندي الجزماتي الحنفي: أمين الفتوى.
3- العلامة الفقيه الحنفي الكبير الشيخ محمد الزرقا: أمين الفتوى، وقاضي قضاة حلب ت 1339هـ.
4- العلامة اللغوي الأديب الشيخ بشير الغزي.
5- الشيخ الجريء المُصلح محمد رضا الزعيم الدمشقي: وقد أجازه.
6- العلامة خالد الجزماتي. 7- شيخ المعقول الشيخ عبد السلام الكردي.
8- النحوي الشيخ أحمد البدوي الجميلي.
9- الشهاب أحمد الصابوني الحموي. 10- العلامة محمد سراج. وسواهم.
2
*شيوخه بالإجازة: هم كثيرون؛ منهم:
1- العلامة المحدث محمد شرف الحق الهندي: هو أول من أجازه.
2- الصالح البركة الفقيه الشيخ محمد خالد الأتاسي: مفتي حمص.
3- العلامة الشهير الشيخ كامل المؤقت الحلبي ت 1338هـ.
4- علامة دمشق المجدد الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي ت 1338هـ.
5- العلامة محدث الشام الشيخ محمد بدر البيباني الحسني ت 1354هـ.
6- العلامة الإمام السيد محمد بن جعفر الكتاني ت 1345هـ.
7- الأديب الفرضي المُسند الشيخ محمد كامل الهبراوي الحلبي ت 1346هـ. 8- المؤرخ النسابة المسند الشيخ عبد الحي الكتاني ت 1382هـ. 9- العلامة الرباني حسان زمانه المحب النبوي الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني المتوفى ببيروت سنة 1350هـ.
10- مسند الحجاز الشيخ عبد الستار الصديقي الحنفي ت 1355هـ.
11- العلامة المشارك حبيب الله الشنقيطي المالكي ت 1363هـ.
12- العلامة أبو بكر محمد عارف خوقير ت 1349هـ.
13- العلامة الفقيه الشيخ محمد عطا الكسم الحنفي ت 1357هـ: مفتي دمشق، وغيرهم.
*وظائفه وأعماله: عمله بالتجارة: نشأ الشيخ مع طلبه للعلم في التجارة؛ فهو يقول عن ذلك: "نشأت مع طلبي للعلم في التجارة، ولي ـ كأبي وأعمامي وجدي ـ صنعة تُسمَّى (البصمجي) وهي طبع المناديل التي يضعها الفلاحون والفلاحات على رؤوسهم في مختلف البلدان والأقطار، حتى إن منها نوعا يسمى المسافح، ودجاج الحبش، كنا نأتي بها إلى مكة والمدينة، ولم أكن متطلعا إلى الوظائف، ولا طالبا لها لاستغنائي بما يرزق الله من الصنعة".
*بداية عمله الصحافي: في سنة 1319هـ بدأ عمله في الصحافة بمراسلة (ثمرات الفنون) التي كانت تصدر في بيروت، ثم تغيَّر اسمها إلى جريدة (الاتحاد العثماني) فكان يُراسلها، ثم أصبح يراسل غيرها أيضًا.
3
*عُيِّن عضوا في "مجلس معارف ولاية حلب" في عهد الدولة العثمانية، وذلك في سنة 1328هـ- 1910م، وهناك وُفق لإدخال اللغة العربية لدوائر الدولة، فكان لذلك الأثر العظيم؛ كما يقول في ترجمته الشخصية.
*وفي سنة 1334، انتخب عضوا في "غرفة التجارة"، بقي فيها ست سنوات، ثم انتخب مرة ثانية لست سنوات أيضا.
*في عام 1337هـ؟ - 1918م: عيّن مدرسا للعربية والإنشاء والدين في مدرسة "شمس المعارف"، وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وظلَّ في التعليم قرابة أربع عشرة سنة بهذه المدرسة، وقد انقلب اسمها فيما بعد إلى "المدرسة الفاروقية" نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدرسة الأهلية الأولى في ثقافة العربية والعمل للقومية، ونشدان المعارف والعلوم العصرية، تقوم بنشاط واسع في هذه المدينة، فتحيي مفاخر الحمدانيين بالشعر والنثر، على خطابة وتمثيليات ومجلة سائرة، وحفلات زاهرة، فتخرّج بها أعلام الحلبيين ممَّن أصبح إليهم أمر الحكم والثقافة والقضاء والوجاهة وسائر فروع المعرفة؛ كما يقول د. سامي الدهَّان.
*وفي سنة 1337، عين عضوا في دائرة الأوقاف في المجلس الإداري مجانا أيضا، ثم استقال لكثرة أشغاله بسبب المطبعة التي استحضرها، ولاشتغاله بالتدريس في مدرسة أهلية هي "الكلية الفاروقية".
*ثم صار بعد سنة 1338 أي بعد الحرب العالمية الأولى يُراسل المجلات، وأضحى يكتب مقالات وتحقيقات تاريخية لها، ويصف الكتب المخطوطة التي في مكتبات حلب في "مجلة المجمع العلمي العربي" التي تصدر في دمشق، وأحيانا في غيرها. ولو جُمع ما كتبه في الجرائد والمجلات لجاء في مجلدات؛ كما يقول رحمه الله تعالى.
*وفي سنة 1340عين مدرسا لِعلوم عِدَّة في "المدرسة الخسروية" التي وُفِّق لافتتاحها بعد سعي في ذلك 15 سنة - "كما يقول"-، وهي مدرسة دينية فيها شيء من العلوم العصريَّة، ولم يزل مدرسا فيها حتى وفاته.
هذا وقد كان يُدرِّس فيها أولا: الأخلاق والآداب الإسلامية، والتفسير، والبلاغة والعروض، والأدب العربي. ثم أصبح يُدرس فيها فيما بعد: الحديث النبوي، وعلم المصطلح، والتاريخ الإسلامي، والسيرة النبوية، وسير الخلفاء الراشدين، والثقافة الإسلامية.
*لم تقتصر دروسه على "المدرسة الخسروية" بل كانت له مجالس أخرى كبيته؛ الذي كان الشيخ محمود الطحان يذهب إليه فيه مع بعض زملائه ليأخذوا عنه علم الحديث، قبل وفاته بأشهر. *"السيرة الذاتية" ص 4.
*وفي سنة 1341، عين عضوًا في "المجمع العلمي العربي؛ مجمع اللغة العربية" بدمشق، ولم يزل فيه حتى وفاته.
*في عام 1347هـ؟ - 1928م أسس (جمعية البر والأخلاق الإسلامية) بمساعدة بعض تلامذته الذين تحرَّجوا في "المدرسة الخسروية"، وخاصة: الشيخ مصطفى الزرقا، والأستاذ معروف الدواليبي، والشيخ محمد الحكيم. وفي سنة 1356هـ انتُخب رئيسا لها، لكنه ترك رئاستها لغيره لأسباب سياسية هي الاحتلال الفرنسي.
*وفي سنة 1350هـ انتخب عضوا في "دار الأيتام الإسلامية"، بقي فيها إلى سنة 1356، وهذه الوظائف كلها مجانية؛ "كما يقول الشيخ الطباخ".
*وفي سنة 1355عين مديرا للمدرسة المتقدمة "الخسروية"، مع ما له فيها من الدروس، ثم استقال من إدارته لها في سنة 1364هـ.
*وفي سنة 1362، عين عضوا في "المجلس العلمي - دائرة الأوقاف"، وبقي فيه إلى 27 جمادى الثانية من سنة 1366هـ.
*كما عين عضوا في "جمعية عاديات حلب"؛ أي الآثار القديمة، إلا أنه لم يعد لها عمل فيما بعد.
*وكان عضوا في "اللجنة الإدارية للمتحف الوطني".
*كماعين الشيخ الطباخ كذلك عضوا في "جمعية المعارف النعمانية" في الهند، وغاية هذه الجمعية إحياء الكتب المؤلفة، في الفقه الحنفي؛ كما يقول.
*أنشأ "المطبعة العلمية" في حلب عام 1340هـ؟ - 1922م، وطبع فيها كتابه "إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء"، وكثيرا من كتبه ومؤلفاته الأخرى، ومؤلفات لغيره أيضا؛ فطبع فيها ونشر كتبا في الحديث، والعلوم الإسلامية، وكتب الأدب والشعر.
5
*وفي سنة 1366هـ باع "المطبعة العلمية"؛ المطبعة لكبر سنه، ولأسباب أُخَر؛ كما يقول في ترجمته الذاتية.
*منحه الرئيس حسني الزعيم "وسام الاستحقاق السوري".
*عرض عليه حسني الزعيم منصب الإفتاء بحلب فاعتذر بلطف ولباقة، ولما سأله ابنه يحيى عن ذلك قال: "عُرض منصب القضاء في الآستانة على جدك هاشم فقال: إن لنا صَنْعَةً أغنانا اللهُ بِها عن غَيرها".
*وفاته: فاضت روحه إلى بارئها صباح يوم الجمعة -"قُبيل طُلوع الشمس"- 20/رمضان/1370هـ الموافق 29/6/1951م.
وجرى تأبينه بذكرى الأربعين في دار الكتب الوطنية بتاريخ 8/8/ 1951م. وقد رثاه تلميذه العالم الشاعر عبد الله عتر المتوفى سنة 1380هـ بقصيدة بلغ عدد أبياتها (48) بيتا، من البحر الطويل: والتي قالها بتاريخ (23/9/1951م)، في تأبين الشيخ محمد راغب الطباخ، رحمه الله تعالى، واستهلها بقوله:
ألا رب ميت كان حياً لدى الورى
وإن ظلَّ دهرا في التراب مُبعثرا!!
فـذاك الذي قد كان بالأمس بيننا
نـقـيـا نـزيـها عالما مُتبحرا!!
فذاك الذي كان الكتابُ سَمِيرَهُ
يسامره ، و الناس في سنة الكرى
فذاك الذي عانى الحياة مُجاهِدًا
لِيَمحُوَ عارَ الجهلِ عنَّا و نُبصِرَا!!
فذاك أخو العلم الذي عاش بيننا
ثمانين حَوْلًا ، دُونَ أنْ يَتَغَيَّرَا
*كان الشيخ الطباخ ولعا بجمع وتتبع كتب ومخطوطات الحديث والتاريخ والسيرة النبوية.
6
*كتب مقالات كثيرة في الصحف والمجلات.
*آثاره: أ- تلاميذه وطلابه:
لقد كان العلامة الطباخ بحق أستاذًا للأجيال لأكثر من نصف قرن من الزمان؛ فقد درس على الشيخ طلاب وتلاميذ كثيرون يعزون على الحصر؛ لأنه درَّس في "المدرسة الخسروية وحدها زُهاء ثلاثين سنة، وأكثر طلابه كانوا فيها؛ تلقوا على يديه الحديث ومصطلحه، والسيرة النبوية، وغيرها. كما أنه درَّس في مدارس أخرى كـ "شمس المعارف؛ المدرسة الفاروقية" التي درس فيها 14 سنة، كما كان يدرس في بيته بعض الطلبة، ولا سيما في آخر سني عمره؛ فقد عجز الشيخ بسبب شيخوخته عن مواصلة الدوام في الخسروية، وأرادت الحكومة قطع راتبه بسبب ذلك، فارسلَ مُدير المدرسة آنذاك الأستاذ أحمد عز الدين البيانوني -لله دره- بعض الطلاب إلى بيت الشيخ ليتلقوا العلم عنه، وليستمر راتبه، كما يقول تلميذه العلامة الشيخ الدكتور محمد رواس قلعجي؟! *مقابلة له في "رابطة أدباء الشام" أجرتها الأستاذة هيام عبد الوهاب أسود.
*من أشهر هؤلاء الطلاب وأبرزهم:
1- الشيخ محمد نجيب خياطة: مقرئ حلب وفرضيها ت 1967م.
2- علامة حماة المجاهد الشيخ محمد بن محمود الحامد ت 1969م.
3- الشيخ عبد الله حماد ت 1970م.
4- الأستاذ أمين الله عيروض ت 1970م.
5- الشيخ بكري عبده رجب ت 1979م.
6- الشيخ محمد الحكيم: مفتي حلب ت 1980م.
7- الشيخ جمعة أبو زلام: مفتي منبج ت 1985م.
8- الشيخ عبد الوهاب سكر ت 1986م.
9- الشيخ محمد بن محمد صالح الملاح ت 1987م.
10- الشيخ محمد ناجي أبو صالح ت 1991م.
7
11- الشيخ محمد بن عمر بلنكو مفتي حلب ت 1991م.
12- الشيخ عيسى بن أحمد الخطيب الأعزازي ت 1994م.
13- الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ت 1997م.
14- الفقيه الكبير الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا ت 1999م.
15- الشيخ محمود بن محمد خير الفحام الحموي ت 2000م.
16- الشيخ عثمان بلال: مفتي حلب ت 2000م.
17- الشيخ محمد بن إبراهيم السلقيني ت 2001م.
18- المحدث العلامة الشيخ عبد الله بن نجيب سراج الدين ت 2002م.
19- الشيخ محمد زين العابدين جذبة ت 2006م.
20- العلامة الشيخ أحمد بن عبد القادر القلاش ت 2008م.
21- العلامة الشيخ د. إبراهيم بن محمد السلقيني مفتي حلب ت 2011م.
22- الفقيه الفرضي المحامي الربَّاني أ. أحمد مهدي الخضر 2013م.
23- العلامة الشيخ د. محمد رواس قلعجي ت 2014م.
24- الشيخ محمد عبد المحسن بن محمد بشير حداد ت 2016م.
25- العلامة الشيخ د. محمد فوزي فيض الله ت 2017م.
26- العلامة المفسر الشيخ محمد علي بن جميل الصابوني ت 2021م.
27- المحدث العلامة الشيخ د. محمود بن أحمد الطحان ت 2022م.
*أهم صفاته وأبرز خلاله وأخلاقه:
1- إيمانه العميق بالإسلام؛ فقد رباه أهله وشيوخه على توحيد الله ومحبة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2- تعلقه الشديد بالكتاب والسنة، وتمسكه بهما: ولهذا طبع بعض كتب الحديث وأصوله والسنة النبوية.
8
3- التمسك باللغة العربية لغة الإسلام والقرآن الكريم، وناضل كثيرا لإحيائها في العهد العثماني مذ كان عضوا في "مجلس المعارف".
4- سعة علم الشيخ الطباخ ونبوغه وذاكرته العجيبة: فقد كان -رحمه الله- موسوعة علمية كعلمائنا الكبار من السلف الصالح؛ كان يحفظ أسماء كثير من المحدثين والعلماء والمؤرخين، وسني مواليدهم ووفياتهم، وأسماء كتبهم، ومضامينها، وسنة طبعها، وأماكن وجودها من مكتبات العالَم؟!
5- رأى ضرورة تطوير وتحديث المدارس الإسلامية، وأوضح دليل على ذلك سعيه الدؤوب لإحياء وافتتاح "المدرسة الخسروية" بحلب مع مدير أوقاف حلب حينها الأستاذ يحيى الكيالي؛ وذلك بجعلها مدرسة عصرية كسائر المدارس الحكومية منتظمة بصفوف، وبإدخال العلوم العصرية إلى مناهجها وموادها الشرعية والعربية.
*مقالة ولده الأستاذ محمد يحيى الطباخ في "الأنوار الجلية" 9-10.
ب- مؤلفاته وكتبه؛ "أولاده المُخَلَّدُون":
1- "إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء" 7مج. هو أهم كتبه وأنفسها، وأعظمها قيمة؛ يقول الشيخ عن كتابه الفَذِّ هذا: "في سنة 1323 شرعت في وضع تاريخ لحلب ومعاملاتها في عهد الدولة العثمانية أتممته في سنة 1345، وشرعت في طبعه سنة 1340، وتمَّ الطبع في سنة 1345وهو في سبع مجلدات سميته: (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء) واستحضرت لأجله مطبعة في سنة 1340هـ". *كما في ترجمته الذاتية.
2- "الثقافة الإسلامية". وهو كتاب جليل ومهم جدا، ويأتي في المرتبة الثانية بعد كتابه "إعلام النبلاء" في الأهمية؛ قال عنه مؤلفه: "الثقافة الإسلامية في 400 صحيفة، وهو كتاب عظيم ذكرت فيه العلوم الإسلامية
وتطوراتها، وأشهر الكتب في كل فن، وأشهر المؤلفين في التفسير والحديث والمذاهب الأربعة والنحو والبلاغة إلخ مع بيان حالة العرب قبل الإسلام، من عقائدهم الباطلة، وعاداتهم الفاسدة مع التزام ذكر وفاة جميع من ذُكر فيها من المؤلفين إلى غير ذلك". *كما في ترجمته الشخصية.
3ـ "الأنوار الجليَّة في الأثبات الحلبية".
9
*كما طبع في مطبعته تلك مؤلفاته الأخرى، وهي:
4ـ "المطالب العلية في الدروس الدينية"، وهو ثلاثة كتب متسلسلة، وهي
كتب مدرسية في الفقه الحنفي.
5ـ عظة الأبناء بتاريخ الأنبياء، وهو كتاب مدرسي أيضا، قد وضعته أوسع مما طبع إلا أنَّ دائرة المعارف كلَّفتني اختصاره.
6ـ "تمرين الطلاب في صناعة الإعراب"، رسالة في 16 صفحة تسهل على المبتدئين كيفية الإعراب وتَعلُّمهُ في وقت قريب.
7ـ "الروضيات": وهو ما جمعه الشيخ راغب من شعر الشاعر المُجيد أبي بكر الصنوبري الحلبي أحد شعراء سيف الدولة بن حمدان مع ترجمة الشاعر المذكور، وكانت وفاته سنة 334.
8- "العقود الدرية في الدواوين الحلبية". وهي ثلاثة دواوين لثلاثة من
شعراء حلب في القرن الحادي عشر":
- الأول: وهو "ديوان الشاعر أحمد بن حسين الجزري"، وهو من جمعه.
- والثاني والثالث: "ديوان الشاعر فتح الله النحاس الحلبي"، و"ديوان الشاعر مصطفى البابي الحلبي"، فيهما زيادات -"من جمعه"- على الأصول التي كانت مطبوعة من قبل.
9ـ "المصباح على مقدمة ابن الصلاح". وهي تعليقات على هذا الكتاب، طبعت مع الأصل ومع شرحه "التقييد والإيضاح" للحافظ العراقي.
*كما حقق الشيخ راغب كتبا أخرى.
*أسرته: لقد تزوج الشيخ راغب الطباخ زوجتين لم يجمع بينهما؛ تزوج الأولى وعمره 17 عاما، وبعد وفاتها تزوج الثانية. وله منهما 11 ولدا.
*أنجب من الأولى بكره محمدا، و3 بنات.
*ابنه محمد استشهد سنة 1926م وعمره 35 سنة بعد أسبوع من اعتقاله وتعذيبه في أحد سجون الغُزاة المُحتلين الفرنسيين المُتوحشين لطبعه منشورا لـ "الكتلة الوطنية" يحض على مُقاطعة انتخابات 1926م؟!
10
*ومن الثانية: خمس بنات، وابنين هما: المهندس توفيق، ومدرس التاريخ الأستاذ محمد يحيى ولد 1934م.
*ملحقان بترجمة الشيخ راغب الطباخ:
*الملحق الأول: تشجيعه الشعر الهادف "الإسلامي" والشعراء الناشئين: وكان منهم جدي الشيخ عيسى الخطيب - رحمه الله.
فقد كان الشيخ راغب الطباخ يحفظ كثيرا من الشعر ويستشهد به، وقد نشر عددا من دواوين الشعراء الحلبيين كأبي بكر الصنوبري، وأحمد الجزري، وفتح الله النحاس، ومصطفى البابي الحلبي.
وكتابه الفذ بل موسوعته "إعلام النبلاء" طافحة بالقصائد والأشعار، ولا سيما المجلدات الأربعة الأخيرة منه، والتي ترجم فيها للعلماء والأدباء والشعراء والمشاهير من الحلبيين خلال أربعة عشر قرنا.
ويكفي أن آخذ مثالا واحدا منه يدل على اهتمام الشيخ الطباخ البالغ بالشعر، وهو ترجمته للشاعر والعالم والسرِيِّ الحلبي "الحاج عطاء الله المدرس ت 1323هـ، وقد ذكر فيها شعره الرائعَ السلِسَ الخالي من التكلف، وذكر أن عُقود شعره المجموعة ومكتبته قد أكلها حريق أتى عليها في داره في "محلة الفرافرة" بحلب.
ثم ذكر أنه التقط بعض شعره من مجاميع، وخاصة قصيدته الهائية الرائعة البديعة في مدح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، -"ولا سيما حينما تسمعها بصوت المنشد البابي الرائع الحاج أحمد نعمة ت 1980م رحمه الله"-، وهي التي كان المنشدون ينشدونها في الأفراح، وأنها في نحو 50 بيتا، وصل إليها بعد البحث، ثم أتى بخمسة عشر بيتا، هي مع مطلعها ومقدمتها الغزلية هذه الأبيات:
سلت لِحاظا أسودُ الغاب تخشاها فأرخصت مُهَجًا ما كان أغلاها؟!
فاحذر سهاما بدت من قوس حاجبها فالرمي يا صاح ضرب من سجاياها
يا قلب صبرا لعل الصبر يعقبه شهد الوصال فبعد العسر يسراها
زارت بليل فخلت الشمس قد طلعت أو ليلة القدر جادت لي برؤياها
لله من ليلة ما كان أحسنها إذ لم أفز بنعيم الوصل لولاها
لا ذنب للدهر عندي بعدها أبدا يا قلب فاشكر لها لا تنس جدواها
لقد ذكرت ظباء القاع إذ خطرت والعطف بالميل للأغصان قد باهى
فسحّ مزن دموعي عندما سطعت طوالع الحسن من باهي محيّاها
وافت و في العيد زارتني مهنئة فكدت من فرحي بالروح ألقاها
قدّمت قلبي قربانا لزورتها
فالقلب في العيد أضحى من ضحاياها
سارت سحيرا تبعت الركب أنشده قلبي لقد ضاع مني يوم مسراها
فما احتيالي و شوقي زادني كمدا واها - لقلب المعنى - بعدها واها
يا حادي العيس مهلا وامش متئدا و علل القلب يا حادي بذكراها
علّ التذكر يُبقي فيه من رمق فمُهجتي أخلقت ، و الحبُّ أبلاها
و كدتُ أيأس لو لم أعتصم بعرى خير البرية ؛ أولاها و أخراها
*هذا، وقد كان الشيخ الطباخ يستمع الشعر ويتذوقه، ويُشجع بعض الشعراء الناشئين ويُقدمهم؛ كما كان يصنع مع تلميذه -"جدي لأمي الشيخ عيسى بن أحمد الخطيب الصوراني الأعزازي ت 1994م"- حينما كان طالبا عنده في "المدرسة الخسروية" بحلب ما بين 1934- 1940م؛ يقول جدي رحمه الله في "سيرته الذاتية" و"ديوانه":
"وكان المرحوم مُؤرخ حلب ومُحدثها شيخنا الشيخ محمد راغب الطباخ يقدمني، ويرتاح إلى سماع ما كنت أنظمه أثناء وجودي في السنوات الأخيرة من دراستي بحلب". *"ديوان أبي الطيب الخطيب مع شرحه" لحفيده مؤلف هذا الكتاب سيد أحمد بن محمد السيد ص 128.
*هذا، وقد مدح جدي الشيخ عيسى شيخه الطباخ بقصيدة هنأه فيها بتوليه إدارة "المدرسة الخسروية" سنة 1355هـ؛ قال في مطلع تلك القصيدة:
يا أخا العَليا ، و شيخَ العُلما يا غزيرًا عِلمُه ، لا تنسَنِي
فُقتَ أهلَ العصر طُرًّا مِثلما فاقتِ الشمسُ سِواها مِن سَني
*"ديوان أبي الطيب الخطيب مع شرحه فتح الكريم المجيب" ص 595.
*المُلحق الثاني:
صُوَر ومشاهد حَيَّة عن قُرب، و"أسرار" من حياة راغب الطباخ،
مواقف وطرائف وجوانب مجهولة من شخصية الشيخ،
ذلك الإنسان العالم المرح المتفتح، غير الجامد، الذي سبق عصره
يرويها ابنه الأصغر محمد يحيى في مقالة له رائعة ماتعة نشرها في بداية كتاب والده: "الأنوار الجلية"، وهو الذي لازمه نحو عقد من الزمان قبل وفاته، وهي بعنوان: "العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ: العلَّامة الإنسان"، سأنقل بعضها المُهِمَّ بتصرف يسير:
*جُرأته في قول الحق وموقفه الرائع مع الرئيس حُسني الزعيم صاحب أول انقلاب في سورية: فمع أن ذلك الرئيس منحه "وِسام الاستحقاق السوري" لترجمة الشيخ الطباخ شيخه والد الزعيم الشيخ محمد رضا الزعيم الذي كان مفتي الجيش العثماني في حلب في "إعلام النبلاء"؛ مع ذلك فقد كتب الشيخ راغب رسالة إليه سلمه إياها اللواء المتقاعد أسعد مُقيَّد مع نسخة من "إعلام النبلاء"، ومما جاء فيها بعد شكره لمنحه ذلك الوِسَام:
"لا يَغُرَّنَّكَ ما أصَبْتَ مِن نجاح ...، واعلم أن مجد الحاكم يُبنى بالأعمال القويمة، لا بالقُوَّة، وأن العُنف قد يُرهِب الشعبَ، ولكنه لا يُكسِبه قلبَه واحترامَه"؟!
ولمَّا قابله في القصر الجمهوري بدمشق -كان بصحبته ابنه محمد يحيى- طالبه بخمسة مطالب، ليس فيها مطلب شخصِيّ، هي:
1- تحويل "جامع العثمانية" إلى كُلِّيَّة للشريعة تُسَدِّد أوقافها نفقاتها.
2- إرجاع "مدرسة اللاييك؛ المعهد الصناعي" إلى الأوقاف؛ فإنما هي أرض مُغتصبة.
3- نقل مؤسسات الحكومة إلى خارج البلدة القديمة، وبناء قصر للعدل.
4- إلغاء قرار وزير المعارف الذي قضى بإنقاص سنوات مدرستي دمشق وحلب الشرعيتين إلى أربع بَدَلًا مِن سِتٍّ.
13
5- إلغاء قرار وزير المعارف بإلغاء المدارس الشرعية في حمص وحماة.
هذا، وقد نقل رسالة الشيخ الطباخ ومطلبه - بنقل مؤسسات الحكومة وبناء قصر العدل- إلى القصر الجمهوري الأستاذ الشاعر محمد خطيب عيّان.
وبمجرَّد سماع الزعيم مطالب الشيخ الطبَّاخ اتَّصل بِرئيس وُزَرائه مُحسن البَرَازي وأمَرَه بإلغاء قرارات وزير المعارف المذكورة.
*برنامجه اليومي: 1- يستيقظ مع أسرته لصلاة الفجر، ويَخُصُّ صغيره يحيى بقوله "من الزَّجَل":
يا نائمَ الليلْ! فاتَكْ رَكْبْ ساداتَكْ
لَوْ ما تْنَامِ الليلْ ما كانِ الرَّكِبْ فاتَكْ
2- ثم يمضي ومعه طفله يحيى لصلاة الفجر في "جامع الخسروية"، ثم لما ضعف الشيخ ووهن عظمه أصبح يؤُمُّ أسرتَه بالصلاة في منزلهم.
3- ثم يرتل شيئا من كتاب الله تعالى، ويقرأ وِردَهُ الصَّبَاحِيَّ.
4- ثم يشرب القهوة مع زوجه "أم توفيق" التي تصنعها له أحيانا، وأحيانا يصنعها هو بنفسه؛ إذ يوجد على مكتب مُطالعته مَوقِد يعمل بالكُحول الأزرق "السبيرتو".
5- ثم يشرع في المطالعة أو الكتابة.
*الطباخ مع أسرته:
كان الشيخ راغب مع أسرته الأب الرؤوف الشفيق، والزوج الودود الحكيم الرفيق: كان يتمثل قول المصطفى عليه الصلاة والسلام "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
*راتِبُ الشيخ وكسبه الحلال، وعِفَّته وإنفاقه على أسرته: كان الشيخ يَنشُد الخير لأهله وأسرته؛ يسعى لِيُؤمِّنَ عَيشَهم بالمال الحلال، دُون أن يستجديَ أحَدًا، أو يَحُطَّ مِن كرامته، وله 3 مصادران للمال: أ- راتب التدريس. ب- ما تدُرُّه عليه مطبعتُه العِلْمِيَّة. ج- ما يأتيه من كِرَاء مَنزِل.
14
*"أم توفيق - زوج الطباخ الثانية- وضَرَّاتها"؟!
في يوم من الأيام كانت أخواتها يتبادلن أطراف الحديث معها في غرفة الجلوس، وكان بابها موارَبًا لغرفة المطالعة حيث يجلس الشيخ راغب؛ فكان يسمع حديثهن، فسمع إحداهن تقول لأختها أم توفيق: اُشْكُري الله لم يَجْلِبْ لَكِ ضَرَّةً، فأجابتها: "الحمد والشكر لله، ما جابْلِي ضَرَّة، ولكِن عندي ألفُ ضرة"، وهي"تقصِد كُتُبَ الشيخ"؟!
فقال الشيخ لابنه يحيى: أتسمع يا يحيى ما تقوله والدتُكَ؟!
ثم صّفَّق، فسارعت زوجُه مُلَبِّيَةً، فخلع الشيخ نظَّارته، وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، ثم قال لها: لولا زُوَّارُكِ لَطَّلقْتُ ضَرَّاتِكِ! أتسمحينَ بإعطائي فِنجانَ القهوة يا جَوهَرتِي يا أمَّ توفيق؟!
ارتسمت علامات الرضا على وجهها، وبادرَت لتلبية طلبه.
*يقول محمد يحيى الطباخ "الراوي" ابنُ أمِّ توفيق وأبي توفيق مُعَلِّقًا على هذه القصَّة: "لم يرتفِعْ صوتُهما على بعضهما بعضًا مُذْ وعيتُ وُجودي، بعكس الوقت الحاضر"؟!
*مع أقربائه وأرحامه "آل الطباخ":
وبقدر ما حافظ الشيخ على أسرته الصغيرة، حافظ على أسرته الكبيرة؛ إخوته وعائلة الطباخ عامة بروابط متينة؛ فكان يشاورهم ويشاورونه؛ لذا نشأ أولاد العم مُتحابِّين ومُتعاونين، لا مشاكِل بينهم.
ولتبقى"عائلة الطباخ"عروة وثقى كان الشيخ يجتمع بهم مرَّة كل شهر في بيت العائلة في "باب قنسرين- جوار الباب الثاني للبيمارستان الأرغوني"، وقد أنشأ لهم صندوقا للتعاون لمساعدة المُحتاج، أو راغبي الزواج، وكان أمين الصندوق أحَدَ أبناء أخيه.
وكان الشيخ محافظا على صلة أرحامه؛ فيزور أقارب أمه وأخواته من الرضاعة بصحبة ابنه يحيى.
*وفاء الشيخ مع أهل وصاحبات زوجه الأولى: يقول يحيى عن والده: "كما غرس في والدتي حُبَّ استقبال أهل وصُويحبات زوجته الأولى"؟!
15
*تسوقه وحمله حاجته بنفسه، وطعامه المُفضل: كان الشيخ يذهب لجلب حاجات البيت من أسواق "السقطيَّة"، "القصيلة"، "ساحة بزة"، "باب قِنَّسْرِين"؛ فيحمل هو وابنه قُفَّةً وسلة شَبَكٍ، وبعد شراء الأغراض يحمل يحيى القُفَّة وفيها بعضها، والبقية في سلة الشبك؛ التي كان الشيخ يحملها ويُخفيها في جَيب جُبَّته المفتوح كيلا يُساعد في حملها أحد معارفه أو طلابه، وكان يقول: "صاحبُ الحاجة أولى بحملها"، ويقول أيضا لابنه: "تَذَكَّر يا بُنيَّ! الذي يسعى على رزق عياله له أجر المُجاهِد"؟!
*الطعام المُفضَّل لديه هو "اليقطين؛ القرع"، وكانت مؤونتهم منه 20 قَرْعَةً، فكان الشيخ يُحبُّه اتِّبَاعًا لِلسُّنَّة النبويَّة؛ لأنَّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُحِبُّ الدُّبَّاء، وقد دعاه خَيَّاط يوما إلى دُبَّاء؛ فـ"كان المُصطفى عليه الصلاة والسلام يَتتَبَّع قِطَعَ الدُّبَّاء" كما روى ذلك خادمه أبو حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه.
*خلوته في "الزاوية الهلالية" تردده إليها، وحبه للأناشيد، ومعرفته المُوسيقى والأنغام والمقامات؟!
كان الشيخ راغب يزور "الزاوية الهلالية"، وظل كذلك حتى سنوات عمره الأخيرة، وقد كان يحضر الأذكار فيها وهو صغير يأتي إليها كثيرا بصُحبة والده أو عَمِّه، ولما كبر اختلى في غرفتها 40 يوما، وأحبَّ الأناشيد التي كان يسمعها فيها.
قال رحمه الله بعد كلامه عن خلوته فيها: "أحببت الأناشيد، وقد وهبني الله أُذُنًا مُوسِيقِيَّة تُمَيِّز بين الأنغام ومقاماتها".
*مع المُلحِّن الكبير عُمَر البَطْش، وجمع تُراثِنا المُوسيقِي:
قال يحيى الطباخ عن والده: "وتمر الأيام ... وحضرتُ له مجلسا مع عمر البطش أما مئذنة الخُسروية، قال الوالد له: أقرَأتَ كتاب الأغاني؟ فأجاب: نعَمْ شيخي.
- هل عرفت الأصواتَ الواردةَ فيه؟ قال: عرفت سبعين أو ثمانين صوتا "الشكُّ مِن يحيى".
فقال له الوالد: سَجِّلْ هذه الأصواتَ، إنها مِن تُراثنا، سجلها كي لا تضيع كما ضاع الكثيرُ منه؟!
*زيارته قبر الشيخ ابن عربي: وفي أواخر عمره في عام 1949م زار دمشق ومعه يحيى، وزارا الشيخ محيي الدين ابن عربي، وصلَّيَا ركعتين في مسجده، وقرأا له الفاتحة!
*سفره في طلب الحديث، وإجازاته: سافر الشيخ الطباخ إلى مدينة "حماة" حين سمع بقدوم المُحدِّث الهندي محمد شرف الحق الدهلوي إليها، ومكث فيها 3 أيام لينال إجازته الأولى في "الحديث المًسَلْسَلَ بِالأوَّلِيَّة".
هذا، وقد بلغت إجازات الشيخ الطباخ خمسَ عشرةَ إجازةً ضَمَّها كتابُه الشهير "الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحَلَبِيَّة".
*اهتمامه بالتوثيق والأمانة العلمية: لقد اتصف الشيخ رحمه بالأمانة العلمية في نقوله وكلامه، وبالتوثيق العلمي كذلك، وكتابه "إعلام النبلاء بمجلدات السبع"، أكبر شاهد على سلوكه وخُلقه العلمي هذا.
*العلم مع الأخلاق: وكان رحمه الله يدعو إلى وجوب طلب العلم، مع التمسك الأخلاق الفاضلة.
*تأثره بابن تيمية، وكراهيته للعنف، ورفضه التكفير، وقوله بالتأويل:
لقد تأثر الشيخ راغب بالشيخ ابن تيمية وبابن حزم في بعض أفكارهما، وبغيرهما، من دون مغالاة؛ فهو يكره العنف والتطرف، ويرفض التكفير من غير دليل، ويقبل التأويل في الصفات؛ فيَدُ الله تعالى تعني عنده "القُدرَة"، وعَيْنُه "الحِفْظ"، وهكذا بقيَّة الصفات.
*قراءته في "المُحلَّى لابن حزم الأندلسي"، وجوابه عنه:
سأله ابنه يحيى -"وقد بلغ الخامسة عشرة نحو سنة 1949م"- عن "ابن حزم" وقد كان الشيخ يحمل كتابه "المُحَلَّى" فقال: كيف تُوفِّق بينَ الاتِّجاهَين؟ يقصد ابن تيمية، وابن حزم؟!
"قال يحيى: نظر إليَّ بِشَلَّال من الحَنَان طالَمَا غَمَرَني به، وقال:
كبرتَ يا يحيى باركَ الله فيكَ، الإسلام يا بُنَيَّ هو الماء الصافي الزُّلَالُ يَروي طالِبَه، إن كان الماءُ جارِيًا فليَكْرَع الظمآنُ ما يشاء، وإن كان الماء في أعماق الأرض، فلْيَغُصِ المُريدُ إليه، وليغترف ما شاء له الجَهْدُ، يا بُنيَّ! لِنَرْوِ
17
الأشواق، ولنستخدم العقل:
حُبُّ التَّنَاهِي غَلَطْ خَيْرُ الأمُورِ الوَسَطْ
*علاقته بالقسيس "لويس شيخو اليسوعي ت 1927م": قال يحيى: "حدَّثني أخي المرحوم المُهندس توفيق فقال: استقبل والدُنا -رحمه الله- في بيتنا الأب لويس شيخو، استغربت الزيارة وزادتْني استغرابًا الأحاديثُ التي تَمَّت بينهما!
وعندما انصرف قلتُ لِلوالد: كيف هذا إنه قِسِّيس، وأنتَ شيخٌ مُعمَّم؟! فابتسَم وقال: يا بُنَيَّ! عندما تكبُر تُصبح أكثر نُضْجًا، أليسَ أدَمُ أبَا البَشَر؟ إن العِلمَ لا يَقِف عِند أحَدٍ، بغضِّ النظر عن الجِنس والدِّين والعِرق، في تراثنا العربي الإسلامي الإنساني كنز لا يفنى، اشتركَتْ فيه أمم وطوائف، وكذلك في حضارات الأمم السابقة؛ فليأخذ الإنسان من القيم الطيبات المُباركات؛ لأنها إنجازات تحققت بنعم من الله خالِقِ البشَر، يا بُنيّ! الحِكمةُ ضالَّةُ المُؤمِن".
*علاقته بـ "الشيخ محسن الأمين" الشيعي الاثني عشري، وبالمُستشرِقين، وبعض المفكرين المسلمين والعرب: كان الشيخ على صلة وثيقة بالشيخ محسن الأمين رئيس المذهب الجعفري في دمشق، هما لم يلتقيا، لكن كانت بينهما مُراسلات وتبادل الهدايا من المطبوعات، ولما توفي الشيخ راغب أرسل الشيخ مُحسن رسالة تعزية تُلِيَتْ في حفل تأبينه!
*كما كان الشيخ يُراسل بعض المُستشرقين؛ أمثال: "ريتر، ماير، مارجليوث، كارل سوس هاين، افرميد الكرنكوي: الألماني الذي أسلم وتَسَمَّى بـ "سالم الكرنكوي" وعاش في مدينة "لُنْدُرَة؛ لُندُن" البريطانية.
وكان كذلك يُراسل بعض المفكرين المسلمين والعرب: وعلى رأسهم الأمير شكيب أرسلان، أحمد زكي باشا، داود جلبي، عبد الحي الكتاني، ومحمد ناصيف، وإسكندر معلوف، وغيرهم.
*يُريد عودة اللُّحْمة للعالم الإسلامي والحِوار بين المذاهب:
كان الشيخ رحمه الله يريد أن تعود اللُّحْمة إلى العالَم الإسلامي، وأن يتم الحوار بين جميع المذاهب.
18
*الشيخ راغب المُعلم المُربي: أولى الشيخ الطباخ للتربية اهتماما كبيرا، ولا غَرْوَ في ذلك؛ فقد كانت التربية لدى الشيخ صِنوَ العلم لا انفصام بينهما؛ فمُعلمنا الأول وقدوتنا محمد والأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهم نقتدي، وبهم نفوز.
*ومن أقوله الرائعة عن التربية: "ما أهمِّيّة المدرسة والدراسة إذا خلَتَا من التوجيه السليم، والتربية الصالحة"؟!
*مكافحته الأمية: كما آمن الشيخ الطباخ بأن الإصلاح يتم بفتح المدارس ونشر العلم، آمن بضرورة إيجاد مؤسسات اجتماعية لمكافحة الأمية بتعليم الكبار، ورفع المستوى الصحي والثقافي والوطني؛ لذا أسس "جمعية البِرّ والأخلاق الإسلامية".
*العلم عنده هو الحق والتقوى، والتمسك بالكتاب والسنة، والاستئناس بالمذاهب: كان العلم عند الطباخ هو أنه نهج إلى الحق والهُدى والتقوى، وتمسك بالكتاب والسنة، واستِئناس بالمذاهب كلها.
*دعوته طلاب العلم إلى تقديم الحديث الصحيح على المذهب الخالي منه: وكان - وهو حَنَفِيُّ المَذْهَب- يُنادي رحمه الله قائلا: "يا طُلّاب العِلم! إذا صحَّ لديكم الحديث فاتركوا المَذْهَبَ واعملوا به"؟!
*إحسانه إلى طلابه، وتشجيعه إيَّاهم على المُناقشة، ورجوعه إلى الحق، واعترافه بالخطأ: كان الشيخ راغب - رحمه الله- مع طلابه كالأب مع أولاده؛ فكان يُخالطهم ويباسطهم، ويبدي لهم النصح، ويتجاوز عن بعض أخطائهم، يُواكبهم في كل مواقعهم؛ يتفقدهم في قاعات المطالعة، أو في أماكن نومهم، ويسعى لحل مُشكلاتهم، ويجالسهم أمام مئذنة "الخسروية"، ويصحبهم إلى بعض بساتين حلب للنُّزهَة، ويتبارز معهم في مُطارحات شعرية، ويستقبلهم في منزله، ويدعو بعضهم خاصة أبناءَ الريف لتناول طعام الفَطُور أو الغَداء في بيته؟!
كان -رحمه الله تعالى- يفعل كُلَّ ذلك الإحسان مع طلابه، فإذا وجد الحقَّ مع أحَدهم يُعلنُ خطأه قائلا: "أخطأتُ يا ابنَ أمِّي"؟! ثم يُبدي إعجابه وتقديره لِنجابة تلاميذه؟!
19
*موقف طريف من مُداعبته لطلابه:
في يوم من الأيام وفي تدريسه للعروض روى هذه التخميسة:
أفدي التي لو رآها الغصن قال لها شوقا ولو قتلت صبا لحلَّ لها
حورية لو رآها - راهب - للها مرت بحارس بستان فقال لها:
سَرَقتِ رُمَّانَتَي نَهدَيكِ مِن ثَمَرِي
فقال له الطالب إبراهيم السقَّا -"الذي أصبح دُكتورًا في الإنجليزية"- : هناك رواية ثانية يا شيخي، فقال له: وما هي؟ فقال:
حورية لو رآها - راغِبٌ - للها
فأجابه الشيخ: "أحسنتَ، اُسْكُتْ لا تفضحنا -يا خبيث- مَعَنَا يحيى قد ينقل الكلام"، وضحك الشيخ والطلاب.
*دعوته طلابه إلى التحرر الفكري ونبذ التعصب، والأخذ بالمُخترعات:
كان رحمه الله يدعوهم إلى التجرد من التعصب الذميم، وإلى التحرُّر الفكري والبحث العلمي، ويُؤكدهما، ويدعو إلى ضرورة الاستفادة من المخترعات والمُكتشفات الحديثة.
*رحابة صدره مع خصومه، وتجنبه السفهاء، وأمانته العلمية: اتصف الطباخ رحمه الله برحابة صدره لسائر خصومه؛ فلم يكن يقابل الأذى بالأذى، ولكن يقابل السيئة بالحسنة، ويعفو ويصفح.
كما كان -عليه الرحمة والرضوان- يترفع عن السفاهة والسفهاء.
*هش بش بَسَّام: عُرف الشيخ الطباخ بابتسامته المُشرقة تعلو مُحَيَّاه دائمًا؛ فهو لم يكن يعبس ويُكَشِّر إلا نادِرًا.
*غضبه الشديد مرتين: لم يَرَهُ ابنه يحيى غاضبًا غضبا شديدا إلا مرتين: أولاهما: عام 1943م؛ حين ذهبا معا إلى "سوق الجمعة عند بَرِّيَّة المَسْلَخ"، فطلب طفله يحيى ابنُ الثامنة حينها بعض التخليطة "الموالح والمُكَسَّرات" من أمام "جامع الطُّنْبُغا" فطلبها من البائع فناولها إيَّاه مَصْرُورة في قمع وَرَقِيٍّ عليه كتابة؛ فحين تأمَّل فيه الشيخ احمرَّ وجهه، وارتَجَفَتْ يَدَاهُ فسقطت
20
المكسرات من القمع، وسأل البائع بغضب ودهشة شديدين:
مِن أين حَصلتَ على هذه الوَرَق؟َ! فقال: اشتريته من مكتبة في "العدَسَات"، وهذا ما لَدَيَّ وهو قليل.
تعلمون أيها السادة القُرَّاء الأكارم لماذا غضب الشيخ كل هذا الغضب، وماذا كان في ذلك الورق؟!
لقد غضب الشيخ لأنه علم أن ذلك الورق هو بعضٌ من كتابه الرائع الماتع الذي أنفق من عمره على تأليفه نحو 22 سنة، ألا وهو سيد كتبه "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" ينتهي به الأمر إلى يُباع لِصَرِّ السِّلَع؟!
فظلَّ الشيخ الطباخ يذكر هذه الحادثة المُؤلِمة والمُؤسِفة ويقول مُرَدِّدًا: "يا ضَيعة العُمر! اثنتان وعشرون سنة من العمل تُباع كوَرَق صَرٍّ"؟!!
*الطباخ سابق عصره: اهتمامه بالرياضة البدنية، وإنشاؤه ملعبًا حديثا، واتهامه لأجلها بالكفر والزندقة؟!!
فقد كان يؤمن بأهمية تقوية الاجسام لطلاب العلم؛ أليس الجهادُ فرضَ عَين عند الدفاع عن الأوطان، وللتحرر من الاحتلال؟ فلهذا أدخل مادَّة "الرياضة" إلى "المدرسة الخسروية"؛ ليمارسها طلاب الشريعة الشيوخ؟!
يقول الأستاذ يحيى الطباخ: التقيت بالمحامي المرحوم محمد سعيد نينو مقابل "ثانوية هنانو" قرب "دائرة الأوقاف"، وهو من خِرِّيجي "الخسروية" فقال لي: رحم الله والِدَكَ أستاذَنا الطباخ، لقد سَبَق عصرَه! قلتُ: كيف؟ قال: لقد أنشأ ملعبًا لرياضة الطلاب؛ "المسلم القويُّ خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف، وفي كل خير"، يتضمَّن الملعب المُتوازي، والحَلَقَات، والأرجوحة، وشبكة الطائرة؟!
لقد كان الطلاب يُمارسون الرياضة بعد الدوام، وبسراويل طويلة، فقال يحيى: أعلَمُ هذا.
لقد تعرَّضَ والدُكَ -رحمه الله- لهجوم شديد من كل حَدَب وصَوب، حتى قال بعضُهم بِكُفره أعوذ بالله، والآخَرون بِزَندَقته؟! أستغفر الله، رحمه الله يا يحيى! إنه سابِقُ عَصره!
21
*الطباخ الاجتماعي؛ مع العمال والحِرْفِيِّين:
لقد اتصل الطباخ بِجُلّ الشرائح الاجتماعية؛ فهو أحيانا يجلس بعد العصر على كرسي قَشٍّ صغير على الرصيف أما منزله مع عُمَّال الحارَة، وأرباب الصناعات؛ يسأل عن أحوالهم وأوضاع البلد، ويساعد مَن له حاجة، ويُبين لهم الحلالَ والحرام، ويقص عليهم نُبَذًا من حياة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وحياة الصحابة الكرام؛ للاقتداء بالنور الذي أنزله الله، وبالمدرسة المحمدية التي تخرَّج فيها أصحابه.
*مع العلماء والوُجهاء وتلاميذه النجباء:
كما كان الشيخ يُقيم مجلسًا آخر خاصًّا مع أهل العلم والدراية والوجهاء والطلاب النجباء أمام "مئذنة الخسروية"، أو أمام "حمام ميخان"، أو في "جامع الرومي" عقب صلاة العصر.
*مع زملائه التُّجَّار: لم يكن الشيخ ينسى زملاءه التجار في "سوق القطن"، أو "سوق الزرب"، أو "سوق العطارين"، أو "خان الجُمرُك"، و "العُلَبِيَّة"، وفي أحياء أخرى حلبية.
*صفة مجلس الطباخ:
كانت أحاديثه لا تخلو من المواعظ والأدب، والتاريخ، والنوادر والنكات، وأحيانا تحريضٌ ضد الفرنسيين لمقاومتهم تصريحًا، أو تلميحًا.
*استضافته العلماء والزعماء:
أكثر الذين زاروا حلب من الشخصيات المهمة في حياة الشيخ الطباخ استضافهم في منزله العامر؛ كعبد الوهاب عزام مسؤول "الجامعة العربية" والتقط صورة معه، ولويس شيخو في العشرينات، والحبيب بورقيبة لشرح القضية التونسية، وغيرهم.
*دعوة الطباخ إلى تعليم المرأة المسلمة، بعد استقباله الفقيهة الهندية البيجوم فاطمة، وإعجابه بعلمها!
كان ممن زار الشيخ الطباخ في بيته بحلب "البيجوم فاطمة" إحدى فقيهات "جامعة عليكرة" بالهند، وكان الشيخ يراسل تلك الجامعة، ويتبادل معها
22
الكتب والمطبوعات العلمية؛ فلما جاءت الأستاذة البيجوم تناولت طعام الغداء لدى الشيخ، وتحادثا بالفصحى حول بعض القضايا.
ولما انصرفت أبدى الشيخ الطباخ إعجابه بعلمها وثقافتها الإسلامية، وإتقانها العربية الفُصحى، وقال لابنه يحيى: "بُنيَّ عندما تكبُر علِّمْ بَنَاتِكَ"!
*عِشقه المطالعة، وتصحيحه وتدقيقه، وتعليقاته تشهد بموسوعيته:
كان الشيخ الطباخ عاشقا للمطالعة وشغوفا بها، بل مُدمنا لها؛ يسهر الليل والِهًا بالعِلم والمعرفة، ويرى لذة المنام حراما؛ كما يقول الإمام الروَّاس.
كان يسهر مُحنَضِنًا الكتاب أغلى حبيب لديه على "لمبة الكاز" قبل مجيء الكهرباء إلى حلب، ثم يستيقظ فجرا، وبعد صلاته الفجر وتلاوته أوراده، وشربه القهوة، كان يحنُّ إلى عشيقه الكتاب؛ كالظامئ أبدا لا يزيده طول وِردِه إلا عَطَشًا، فيُقبل عليه قارئا مُصَحِّحًا ومُوَازِنًا.
كانت تعليقات الطباخ على هوامش كتب مكتبته الحافلة خير شاهد على معرفته الموسوعية، ولم ينقطع عن المطالعة إلا قبيل وفاته بنحو أسبوع!
*آخر كتابين قرأهما: "الكواكب السائرة" صححه، و"فيض القدير" فهرسه:
أصيب الشيخ في أواخر عمره بداء "النِّقْرِس"، وقبيل ذلك في سنة 1947م؟ اشترى كتاب "الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة" للنجم الغزي من منشورات "الجامعة الأمريكية" ببيروت، وبتحقيق د. جبرائيل سليمان جبُّور؛ فصحَّح أخطاءه الكثيرة في 16 يوما في 7 أوراق كبيرة، وأرسلها إليه بالبريد المسجَّل، فشكر الدكتور جبور للطباخ جهوده في تصحيح الكتاب، وارسلَ له الجُزء الثاني منه هديةً؛ فصحح الشيخ الجزء الثاني في شهر؛ لاشتداد مرض النقرس عليه، وكانت الأخطاء هذه المرّة أضعاف ما في الجزء الأول، وبلغ عدد أوراق التصحيح 27 ورقة، أرسلها ابنه يحيى بالمُسَجَّل.
*أما الكتاب الثاني والأخير الذي قرأه الطباخ قبيل وفاته فهو كتاب "فيض القدير بشرح الجامع الصغير" للإمام تاج العارفين المُناوي ت 1031هـ؛ فقد جلبه للشيخ تلميذه العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من مصر في 6 ج، فقرأ الشيخ أربعة أجزاء منه، ووضع لها فهرسا في كُنَّاش صغير؟!
23
*الطباخ المؤمن بالإسلام دينًا ودولة، وبالشورى و"الجامعة الإسلامية":
لقد آمن الشيخ راغب الطباخ بالإسلام دينًا ودولة، ولكل دولة علماء ورجال، وأن الإسلام نظام قائم على أساس الشورى، والحُرِّيَّة من تعاليمه، وأن السياسة من الإسلام، ولذلك ألقى محاضرة "السياسة في القرآن" في جمعيته التي أسسها "جمعية البر والأخلاق الإسلامية".
*كما آمن الشيخ الطباخ بـ "الجامعة الإسلامية".
*الشيخ الطباخ المُناضل الوطني، ومشاركته في مظاهرة العلماء:
وفي عهد الفرنسيين البغيض شهدت حلب أول مظاهرة لذوي العمائم خرجت من "المدرسة الشعبانية"، وكان في مقدمتها الفقيه الأصولي الشيخ أحمد الزرقا، والشيخ محمد راغب الطباخ، والشيخ عمر المارتيني، والأستاذان مصطفى الزرقا، ومعروف الدواليبي.
*كما اتصل الشيخ بالزعماء الوطنيين أمثال سعد الله الجابري، وإبراهيم هنانو، وطبع للوطنيين منشورا ضد الفرنسيين إثر اشتداد الثورة السورية الكبرى عليهم سنة 1926م.
وفي إبان تلك الثورة ألقى بعض الفرنسيين القبض على بكر الشيخ الطباخ "ولده محمد" واعتقلوه وعذبوه لنحو أسبوع ثم أفرجوا عنه وتوفي إثرها شهيدا؛ فتوارى الشيخ عن الأنظار، ولما بلغه نبأ استشهاد ابنه دمَعتْ عيناه، وصلى ركعتين، وصبر واحتسب.
*دعوته للاتحاد ورَصِّ الصفوف بعد الاستقلال:
بُعيد عهد الاستقلال حدث شرخ في الكتلة الوطنية، نتج عنه ظهور حزبين جديدين هما "الحزب الوطني" بقيادة سعد الله الجابري، ثم د. عبد الرحمن الكيالي و"حزب الشعب" بقيادة رشدي الكيخيا، وناظم القدسي.
حاول الشيخ رَأبَ الصدع بينهما؛ فزار كلا من الكيالي والكيخيا على حِدَة، وكان معه ابنه يحيى، وكان من قوله لهما ناصِحًا:
"الوطَنُ بحاجة إليكما أرجو ضَمَّ الصُّفوف، البناء في مرحلة الاستقلال أصعَبُ من مرحلة مكافحة الاستعمار. لقد آن الوقت لجمع شمل الكتلة الوطنية"، فَوَعَدَاهُ خَيرًا.
ثم اجتمع الحزبان 3 مرات: الأولى في جنازة الشيخ الطباخ. والثانية: في التعزية به. والثالثة: في حفل تأبينه في "دار الكتب الوطنية" بحلب.
*تركته القليلة، والاقتراض لتجهيزه بعد وفاته؟!
لقد توفي الشيخ الطباخ وخَلَّفَ تَرِكَةً بلغت (25) ل.س، وهي بالطبع لم تكن تكفي لتجهيز الشيخ؛ فما كان من تلميذه النجيب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة إلا أن يُسارع إلى "جمعية رابطة العلماء" -التي كان الطباخ يرأسها- ويقترض منها مبلغ 500 ل.س تمَّ تجهيزه وتكفينه ودفنه بها، ثم سدَّدها للرابطة ابن الشيخ المهندس توفيق فيما بعد؟!
الشيخ راغب الطباخ وابنه الأصغر محمد يحيى
25
*علاقة الشيخ محمود الطحان به: لقد كان الشيخ راغب الطباخ أحد شيوخه؛ فقد أخذ عنه علم الحديث في بيته في السنتين الأخيرتين من حياته؛ قال تلميذه محمود الطحان عنه: "وقد تلقيت عنه الحديث الشريف حتى وفاته. وكنا قبل وفاته بأشهر نذهب من المدرسة الخسروية إلى بيته أنا وزملائي فنأخذ عنه الحديث الشريف، وكان - رحمه الله تعالى- يُملي علينا الحديث الشريف من حفظه، وهو مُسْتَلْقٍ على فراشه إلى أن تُوفِّي، رحمه الله رحمة واسعة". السيرة الذاتية للطحان" ص 4.
*يُنظر: 1- من أعلام الطريقة النقشبندية في بلاد الشام المباركة، للشيخ محمد زكريا المسعود، 2/65- 66.
2- الأعلام لخير الدين الزركلي 6 / 123- 124.
3- ترجمة شخصية للشيخ الطباخ بقلمه، كتبها سنة 1366هـ- 1945م؟ للشيخ سليمان الصنيع النجدي الأصل المكي؛ الذي أجازه الشيخ الطباخ، وهي منشورة في "رابطة العلماء السوريين" بتاريخ 25/6/1434هـ- 5/5/2013م. 4- "السيرة الذاتية للشيخ محمود الطحان".
5- "تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع" للشيخ د. محمود سعيد ممدوح 2/294- 297. 6- "إعلام النبلاء". للطباخ 7/492 - 493.
7- مقالة عنه وترجمة له من كتاب "قدماء ومعاصرون". للدكتور سامي الدهان ص 264- 272، وهي منشورة في "رابطة العلماء السوريين" كذلك بالتاريخ السابق المزبور نفسه.
8- "الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحلبية" للشيخ محمد راغب الطباخ مقالة لابنه الأصغر محمد يحيى بعنوان "الشيخ محمد راغب الطباخ العلامة الإنسان" ص: 9- 23.
9- "مقابلة الدكتور محمد رواس قلعه جي" في "رابطة أدباء الشام" أجرتها معه الأستاذة هيام عبد الوهاب أسود، ونشرت في 9/2/2017م.
10- مقالة "الأستاذ المربي يحيى راغب الطباخ" في موقع "نُبُّلُيَّات" نشر يوم الأربعاء 19/10/2011م، من كل هذه المراجع بتصرف.
*من كتابي: "عقد الجمان في سيرة الشيخ محمود الطحان" 89 - 114.
وسوم: العدد 1015